“الصمود” في عامها السادس عشر تتحدث بلسان حالها
بقلم: الأستاذ سيف الله الهروي
وُلدتُ قبل ستّة عشر سنة، في أرضٍ اشتهرتْ بأرضِ الغزاة والفاتحين، أرض البطولات والشجاعات النّادرة والعبقريات الفذّة، ولدتُ في أرض الغيرة والإيمان، في عرين الأسود، معدن الفروسية، مولد الفاتحين، ولدتُ في معقل بارز من معاقل الأسود، ولدتُ في بلدٍ عُرف أهله بالصمود والثبات، ولدتُ بعد ما تكالبتْ ضباعُ العالم على أسود هذا البلد، أحاطوا بهم من كل جانب، لا يرضون منهم إلا بالاستسلام والخضوع والطاعة. سُميتُ بالصّمود، تلك التسمية التي لها نصيبٌ من طبيعة هذا الشعب والبلد، تلك التسمية التي فيها حِكمٌ وتفاؤلات. مضتْ الأيام والشهور على ولادتي وأنا أشهد معركة مصيرية حاسمة، معركة شرسة بين الأسود الذين يُدافعون عن عرينهم، والضباع والذئاب والكلاب المعتدين، شهدتُ معرکة ليست هي الأولى التي اندلعتْ، ولن تكون الأخيرة، فما دامت الأسود أسودا والضباع ضباعا فسيظل العالم يشهد هذه المعارك بينهم، لكن كُتبتْ هذه المرّة أن تكون المعركة في غابات “هندوكش” وجبالها. الأسود عددُهم قليل جدا، لكنهم أسود لا يعرفون الجبن، ولا يعرفون الاستسلام، ولا يعرفون الخنوع، ولا يعرفون الذلّ، يستميتون، ولا يستسلمون لأحد، أمّا الضباع فكثيرون، ضباعٌ أتوا من قارات مختلفة، ضباع من بريطانيا، وضباع من فرنسا وضباع من الولايات المتحدة، ضباع من الألمان، ضباع سود وأخر بيض، والضباع البيض أسوأهم وأخبثهم وأنجسُهم، وأكثرهم وحشية وإجراماً، ولكن في نفس الوقت أكثرهم جبنا كلما زأرت الأسود.
المعركة اشتدتْ سنة بعد سنة بين الضباع والأسود، وانضمّتْ إلى قطيع الضباع من أول المعركة كلاب كانت تعيش قبل ذلك مع الأسود في هذا البلد، هذه الكلاب ليس لها همّ في هذه المعركة سوى الجيف، يطمحون إليها ويموتون من أجلها. في بداية المعركة كانت الأسود قد عادتْ إلى عرائنها في الجبال والكهوف والغابات، فظّن الضباع أنهم انتصروا وأنّ الأسود انقرضوا، فزمجروا وفرحوا واهتزّوا طرباً في أنحاء العالم، لكن تكدرت أفراحهم، لما تبيّنوا أن أسودا هاجموا سفارة كبير الضباع في كابول، وأن بضعة أسود هجموا على مجموعة كبيرة من الضباع والكلاب مجتمعة في منطقة أخرى وأوقعوا بهم خسائر؛ حينها علمت الضباع أن لا راحة لهم في هذه الأرض، فاستنفروا قواتّهم جميعاً، وأعلنوا شن عشرات المعارك ضد الأسود، وكنتُ خلال هذه المدة أشهد كيف هزموا في قندهار وهلمند وخوست ونادعلي وننجرها، وجلال آباد.
استمرّت المعركة ستة عشر سنة، لم يتعب الأسود يوما ولا لحظة واحدة، سقطت خلالها آلاف من الضباع والكلاب، وكلما أتوا يزعمون أنهم سينتصرون لقنتْهم الأسود درساً جديداً، وعادوا خائبين بأجساد مكلومة جريحة.
لقد كنتُ شهدتُ المعارك كلها، شهدت خلال هذه السنوات التي مضت من عمري جرائم ارتكبتْها الكلاب والضباع بحق الأبرياء والضعفاء الأسود ومن لا حيلة لهم، شهدتُ خلال هذه السنوات كمّية الفساد التي ظهرت من الضباع في أرض الله، شهدت خلال هذه المدّة خبْثَ الضباع ورذالتهم، وكيف أهلكت الضباع الحرث والنسل في هذا البلد، وأحرقت الرطب واليابس، ودمّرت المراتع والغابات والمساكن في غير رحمة.
وشهدتُ أيضا بطولات الأسود وشجاعتهم، شهدتُ حقائق وآلاما وهموما وأحزانا وأوجاعا من ناحية، وبشريات ومبشّرات وانتصارات ونجاحات وتقدّمات من ناحية أخرى، شهدتُ أنّ ضباعَ العالم كلهم لا يقوون على أسود الإسلام إن اعتصموا بحبل الله جميعا، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا.
مرّتْ عليّ هذه السنوات إلى أنْ أكملتُ السادسة عشر من عمري. وشهدتُ أخيرا أن الضباع يطلبون السلام، وإيقاف الحروب، والأسود هم الذين لا يرضون هذه المرّة إلّا بشيءٌ واحد، وهو أن ينسحب الضباع من أرضهم، وهو الشيء الوحيد الذي لم يتنازل عنه الأسود، ولن يتنازلوا عنه أبدا. واضطرّ الضباع أخيرا أن يرضوا بشرط الأسود وأن ينسحبوا شيئا فشيئا من البلد، يجرّون أذيال خيْبتهم. أما أنا فبقيت ستة عشر سنة صامدة، وسأظلّ صامدة لأحكي للعالم أنّ ما أخذ بالقوّة، لا يستردّ الّا بالقوة!! وأنّ ضباعَ العالم لا يردّها سوى بطشُ الأسود!!
وأبقى لأبلّغ هذه الرسالة التي ولدتُ من أجلها إلى أجيال قادمة وقادمة بإذن الله تعالى.