العقود الأربعة.. دروس وعبر
صادق رحمتی
في بداية العام 1989، انسحبت آخر القوات السوفييتية من أفغانستان، وكان الصراع الذي استمر 10 أعوام قد أزهق أرواحَ ما يُقدَّر بمليون مدني وما يقارب 125 ألف مجاهد أفغاني. وعلاوة على ذلك، فقد خلّف هذا الاحتلال سلبيات عديدة في مختلف المجالات، لازال يعاني الشعب الأفغاني آثارها حتى اليوم.
وكما تسببت هذه الحرب في دمار شامل لأفغانستان؛ فقد ساهمت أيضاً في انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه لاحقاً، وصارت أفغانستان آخر محطة لمغامراته وتطاولاته على البلاد والشعوب؛ إذ تلقى الاتحاد السوفييتي واقتصاده ضربة عنيفة في هذا الصراع. وسُجّلت في التاريخ هزيمة لإمبراطورية جديدة علي يد الشعب الأفغاني.
لما انسحبت هذه القوات من أفغانستان، وسقطت الحکومة الموالية لها بعده بعدة سنوات، وضعت الحرب أوزارها، وجاءت الهدنة في المدن والأرياف، وتحقق الاستقرار والهدوء في أرجاء البلاد، ففرح الشعب الأفغاني وفرح المسلمون في أنحاء العالم، لتحقق الانتصار أمام أكبر قوة عالمية في تلك الفترة، فالانتصار لم يكن للشعب الأفغاني فحسب، بل كان انتصارا لجميع المسلمين، لأن الاتحاد السوفييتي يحمل فكرة ضد الاسلام، وهي فكرة الشيوعية، فالحرب كانت دائرة بين الإسلام والكفر، والصراع كان قائما بين المسلم والكافر.
مدة يسيرة، مرت على سقوط حكومة محمد نجيب الله، والناس في احتفالهم بهذا الانتصار المصيري التاريخي، وفي احتفائهم بهذه العقبى الحميدة بعد كفاح طويل ونضال مديد، كانوا يتأهبون لتشكيل حكومة إسلامية، وما أجمل تأهبهم! وما أحلى احتفالهم بذلك الانتصار المبين! وكم لهم من طموحات وتطلعات لأبنائهم ومستقبل بلادهم!
لكن هذه الاحتفالات لم تدم طويلاً، بل سرورهم بدأ يتلاشى وفرحهم أخذ يندثر عندما رفض القادة والمسلحون المتناحرون تنفيذ الإتفاقية بإقامة الحكومة التي كان من المتوقع أن تكون بديلا عن حكومة الجمهورية الديمقراطية الشيوعية، وتأزم الوضع بينهم بعد النجاح في إخراج الجيش الأحمر، فانفجر الوضع مع بدء السباق إلى كابل عاصمة البلاد عام 1992 وسعي جميع الأطراف المتشاركة في الحكم إلى الاستئثار بالسلطة، والوصول إلى رأس الحكم، الأمر الذي جعل الأوضاع على صفيح ساخن، وقابل للانفجار، فاشتعلت الحرب الأهلية في أفغانستان، وتحطمت الآمال، وما بقي منها دفنته الحرب تحت الأنقاض، ودُمّرت المدن الكبيرة -بما فيها كابول عاصمة البلاد- حيث تم جراء هذه الحرب الحالكة تدمير جزء كبير من البنية التحتية المدنية في كابول. واستمرت الحرب سجالًا بينهم حتى جاءت الإمارة الإسلامية في حكمها الأول للقضاء على تلك الحرب الأهلية الطاحنة.
لم يخال الناس أن قادتهم وكبراءهم الذين يُعوّل عليهم، ستتفرق بهم الطرق، وسيتناثرون على حسب القومية والحزبية، جاعلين الإسلام الذي كان رمزهم في الانتصار أمام قوات الاتحاد السوفييتي وراءهم ظهريا، وأن بعضهم سيضرب رقاب بعض للوصول إلى المناصب الحكومية؛ غير مبالين بالوطن وبناه التحتية وتهجير المواطنين من النساء والأطفال ومصيرهم في بلاد الأجانب. لقد غيروا مجرى حياة كثير من المواطنين، ودفعوا بهم إلى مصير مجهول وعاقبة مظلمة لا تحمد عقباها، بأفعالهم الظالمة.
كان لا يمكن التصديق بأنهم ساوموا على دماء الشهداء، وقضوا بأيديهم على الشجرة التي غرسوها قبل أن تؤتي ثمارها، واشتروا بنعمة الله ثمنا قليلا، وداسوا بأقدامهم على جميع التضحيات التي قدمها الشعب الأفغاني الأبي في سبيل إنقاذ البلاد من مخالب الاتحاد السوفییتی الغاشم، بالتحزيب والانتماء إلى العصبية القومية واللسانية، بحجة أنهم ساهموا في الجهاد فمن المحتم أن يكون لهم سهم في السلطة، فخربوا كل ما بنوه من المآثر والمفاخر في ميادين القتال وفي ساحات الكفاح، وأخذ يقاتل بعضهم بعضا بدعم من هذه البلاد وتلك البلاد، ليبلغ كل طرف غايته وهدفه، وبهذه الحجة الفاسدة خرّبوا ودمّروا وقتلوا، وفتحوا الأبواب أمام کل جبارعنید.
ومما زاد الطين بلة، أن معظم هولاء القادة كانوا “علماء دين”، وكانوا جامعيين في نفس الوقت، ولهم نعرات دينية وشعارات إسلامية! فصاروا أحزابا وأصبح كل حزب بما لديهم فرحون.
أين ضاعت نعراتهم وشعاراتهم؟ وأين تبخرت صيحاتهم وصرخاتهم؟
يا ترى، لو لم تحصل تلك الحرب الأهلية الطاحنة، وكبح كل هولاء أنفسهم وأهواءهم، وغلبت الأهداف الدينية والوطنية الأهداف الشخصية والعصبية، وتحقق تشكيل الحكومة، فماذا كان من الممكن أن يكون عليه حال أفغانستان وشعبها اليوم؟
ومع كل الأسف، أنهم لنيل آمالهم وتحقيق أهدافهم، لهثوا وراء الشهوات، وما رأوا دولة إلا وناشدوها، ولم يكتفوا بذلك، بل استجلبوا الأجانب والأعداء في سبيل ذلك؛ فنزعوا البلاد من وطأة الاتحاد السوفييتي بالتضافر والتضامن ودماء المواطنين الضعفاء ثم وضعوها في أيدي أمريكا وحلفائها، وركنوا ركونا كليا إلى الغرب البغيض، ولم تمسهم لذلك لمسة عار، ولم يرفعوا رأسا لمّا دعتهم الإمارة الإسلامية في تلك الفترة للإنضمام إليها وإصلاح موافقهم تجاه البلاد، وإدراك ما فاتهم من الفرص القيمة، والعودة إلى رمز الانتصار، وهو الإسلام الذي كان ولا يزال أساس التعايش السلمي للشعب الأفغاني.
أما اليوم وبعد أن تحقق الانتصار أمام أكبر قوة عالمية في العقدين الأخيرين، وتم النصر لصالح الإمارة الإسلامية وشعب أفغانستان الذي في نفسه عزة لا تقبل الذل، ورفعة لا ترضى المهانة ولا تعرف الرضوخ والاستسلام، وشرف لا يمسه عار؛ فقد هبت رياح البشائر والايجابيات في سماء أفغانستان التي لم يكن لها مثيلا على مدى الأربعين عاما.
إني أعتقد أن أفغانستان المترقية والمزدهرة، في الاقتصاد والاستقلال والأمن، سيعم نفعها الجميع، وسينتفع بها جميع الأقوام والأطياف على حد سواء. وهذا حلم يحلم به كل إنسان غيور على وطنه ومسقط رأسه، ولن يكون أبداً مجرد وهم، فإن كنا استعطنا أن نخطو خطوات كبيرة وهامة في مجال التنمية والرقي طوال عامين، فلم لا نستطيع مواصلتها في خمسة أعوام أو أكثر؟
ليس الهدف من هذا المقال عرض التاريخ، ولا تدنيس هذا ولا ذاك، ولا تطهير زيد ولا عمرو؛ لأن ذلك كله أصبح تاريخا نعتبر ونأخذ دروساً حساناً من وقائعه وأحداثه، حلوها ومرها، متخذين الحيطة والحذر نبراساً، ولا نترك البلاد للأجانب يتدخلون في شؤونها ويعتدون على أمنها في أية لحظة، وأن التقدم ليس في الطبول والأبواق التي ينفخ فيها الأعداء الماكرون. أربعون عاما هو عمر يكتمل فيه العقل، وينضج فيه الإدراك، وقد اختبرنا الشرق والغرب، على مدى هذه السنين، ووضعنا الجار الجنب والصاحب بالجنب في بوتقة الامتحان، فلم يعد علينا بالنفع والازدهار، كلٌ كان همه منافع بلاده ومصالح حکومته.
اليوم، انتزعت أفغانستان استقلالها، وأصبحت تمتلك حق التصرف في مصيرها ومصير أبناءها، وقد أعـــادت الإمارة الإسلامية، في الفترة الأخيرة، الأمل لكل المواطنين مــن خلال التأكيد والتركيز على مطالبهم الحقيقية، في إطار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وهذا لم يتحقق إلا بإسقاط منظومة الفساد والبغي بكل رموزها وأركانها، وإقامة الدولة الإسلامية المستقلة العادلة الموحدة والجامعة لكل المواطنين على اختلاف قومياتهم وألسنتهم ومنابتهم المذهبية والفكرية، وإفساح المجال أمام المواطنين في الاقتصاد والتجارة، وتوفير الأسباب اللازمة لتوسيع العمران في البلاد.
وبناءً على ذلك، حق على جميع المواطنين من العلماء والجامعيين وكل من لديه كفاءة وقدرة، أن يقدروا هذه الفرص الجاهزة في سبيل تطور البلاد، وبنائها من جديد، مشمّرين عن ساعد الجد في الحفاظ عليها أمنيا واقتصاديا وثقافيا، وصيانتها من كيد من يحاولون زرع اليأس في الشباب، ومن مكر الماكرين، وتآمر المعاندين، والعمل على كشف الأيدي الخفية الضالعة في زعزعة الأمن والاستقرار. وأن يسيروا نحو الأمام بالوعي والبصيرة، واقفين إلى جانب الإمارة الإسلامية في بناء الوطن، وصنع جيل قوي، وفتح أبواب جديدة للتعاظم والازدهار، ففي حكومة كالإمارة الإسلامية الكفاءة والنصح والأمانة والعلم هي الأولوية، ولن يعتبر لديها أمر سوى ذلك.
فلندعم هذا النظام الفعال في مسيره، حتى تكون أفغانستان دولة متقدمة ذات تكنولوجيا متطورة في مدة غير بعيدة بإذن الله. وأذكّركم وإياي بقول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» [الرعد/۱۱]، فمصير كل أمة بيدها؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهذه سنة الله لا تغير أبداً. فبالوعي والبصيرة، والتقید بالقرارات التي تتخذها الإمارة الإسلامية تجاه البلاد، لا نتركها تصبح لعبة بين الدول المجاورة ودول العالم تتلاعب بها بين فترة وأخرى وتجعلها قطعة لحم ينهشها هذا وذاك، وأن لا نمر عن هذه الأمور مرور الكرام.
فحقیق بشعب هزم الإمبراطوریات أن لا ينسى ماضيه، وما خلق فيه من مآثر ومفاخر، مستخدما دروسها وعبرها لصالح المستقبل، وأن لا يتغافل أن البلاد بحاجة ماسة إلى تعاون جماعي، بل إلى نهضة شاملة في كافة المستويات، وإلى غرس البذور لتحقيق أحلام المستقبل والأجيال المقبلة.