
العلاقات بين أفغانستان ودول آسيا الوسطى؛ آفاق مشرقة ومستقبل واعد (الحلقة 2)
أوزبكستان؛ الدولة الرائدة في التفاعل مع الإمارة الإسلامية
زين الدين البلوشي
أوزبكستان؛ إحدى الدول الواقعة في آسيا الوسطى والمجاورة لأفغانستان، وتمتد حدودها إلى 137 كلم مع أفغانستان، بدأت تعاملها مع الإمارة الإسلامية منذ البداية، ومضت قدمًا في هذا المجال، وانتهزت الفرصة الحاضرة في أفغانستان. وهي كدولة قوية في آسيا الوسطى، سعت -منذ عودة الإمارة الإسلامية إلى السلطة- إلى الحفاظ على علاقات سياسية واقتصادية جيدة مع كابل، مع التزامها بالحياد في الشؤون الأفغانية، وفي هذا السياق، لم تُفلح حتى المحاولات الرامية لإثارة الفتنة بين البلدين بشأن بناء القناة المائية الكبرى “قوش تبيه”.
تقع أوزبكستان في منتصف قارة آسيا، وتحدها من الشمال ومن الغرب كازاخستان ومن الجنوب أفغانستان وتركمانستان ومن الشرق قرغيزستان وطاجيكستان، وهي أكبر دولة سكاناً في آسيا الوسطى، وعاصمتها طشقند، ومن أهم مدنها سمرقند، وهي إحدى الجمهوريات الإسلامية ذات الطبيعة الفيدرالية ضمن الجمهوريات السوفياتية السابقة. وتضم مدنًا لها شهرة عريقة في تاريخ الإسلام، مثل: بخارى، وسمرقند، وطشقند، وخوارزم، فقد قدّمت هذه المناطق علماء أثروا التراث الإسلامي بجهدهم، منهم: الإمام البخاري، والخوارزمي، والبيروني، والنسائي، والزمخشري، والترمذي، وغيرهم العديد من أعلام التراث الإسلإمي، ولغتها الرسمية هي الأوزبكية كما أن جميع الشعب يجيد الروسية.
تعود علاقات أفغانستان بأوزبكستان إلى الوقت الذي كان يعتبر فيه البلدان منطقة واحدة، وكانت مدينة سمرقند تحت حكم امبراطورية أحمد شاه أبدالي، وبشكل عام، يمكن أن نقسم العلاقات بين أفغانستان وأوزبكستان إلى فترتين مختلفتين؛ الفترة الأولى: وهي التي بدأت منذ عام ١٩٩٩ وامتدت إلى ٢٠٠١، ولكن لاندلاع الحرب الأهلية وصدمة الاستقلال من الاتحاد السوفييتي، لم يتمكن البلدان من إقامة علاقات شاملة بمعنى الكلمة.
والفترة الثانية: العلاقات بينهما زمن الحكومة الجمهورية في ظل الاحتلال، ولكن لوجود الزعزعة الأمنية والفساد الشامل الناتج من الاحتلال الأمريكي؛ لم تثمر العلاقات بنتيجة ملموسة، ولم تسر الأمور على ما يرام، وبقيت المعاهدات الموقعة حبرًا على ورق.
وبعد عودة الإمارة الإسلامية إلى الحكم، اختلفت الأوضاع تمامًا، حيث عمّ الأمن البلاد بأكملها وبشكل منقطع النظير، وقُطع دابر الفساد والمفسدين، وانتهى الاحتلال بهزيمة المحتلين، واستعاد الشعب الأفغاني استقلاله.
وبما أن الإمارة الإسلامية أعلنت، غير مرة، بأن سياستها الخارجية ترتكز على محور الاقتصاد وأنها تبحث عن توسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول المجاورة والمنطقة، فإن أوزبكستان بادرت كابل بالاتصالات والزيارات، ضمن الدول الأولى، منذ أول يوم سيطرت الإمارة الإسلامية على أفغانستان، ومازالت الاتصالات والزيارات مستمرة، حيث رأت أوزبكستان في الوضع الجديد في أفغانستان أنه فرصة، وهي تدعم اندماج أفغانستان في الاقتصاد الاقليمي.
ولتحقيق هذا الهدف، جرت لقاءات متعددة بين الجانب الأفغاني والجانب الأوزبكي، في مختلف المستويات، ولا تزال اللقاءات والزيارات مستمرة، نشير منها إلى زيارة وزير الخارجية الأوزبكي ورئيس الوزراء الأوزبكي (عبدالله عارفوف) إلى أفغانستان، وزيارة المولوي أمير خان متقي والملا برادر لأوزبكستان.
العلاقات السياسية مع الإمارة الإسلامية
إن أوزبكستان من الدول التي أقامت علاقات سياسية حسنة مع الإمارة الإسلامية بشكل إيجابي وعملي، إذ تتطلّع إلى الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، وتوسيع العلاقات الثنائية الشاملة مع أفغانستان، ضمن التأكيد على الدبلوماسية الاقتصادية والتفاعل البناء.
وكانت أوزبكستان ثالث بلد في العالم يقيم علاقات دبلوماسية رسمية على مستوى السفراء مع الإمارة الإسلامية، منذ الانسحاب الأمريكي عام 2021، وقد سلّم السفير الأفغاني لدى أوزبكستان المكلف من قبل الإمارة الإسلامية؛ عبد الغفار بحر، أوراق اعتماده للرئيس الأوزبكي، شوكت ميرزاييف، وبذلك انخرطت أوزبكستان رسميًا في التفاعل السياسي مع الإمارة الإسلامية. ومنذ ذلك الحين، تعززت العلاقات الاقتصادية بين البلدين يومًا بعد يوم دون أن تشهد أي توترات أو خلافات. وبذلك كانت أول دولة من دول آسيا الوسطى أقامت علاقات شاملة مع أفغانستان في مختلف القطاعات، ومهدت الطريق للدول الأخرى في المنطقة لتنطلق نحو إقامة علاقات دبلوماسية مع الإمارة الإسلامية.
العلاقات الاقتصادية بين البلدين
تحتل أوزبكستان المرتبة الثالثة عالميًا في صادرات القطن والرابعة عالميًا في احتياطات الذهب، وتتمتع بقدراتها العالية بمكانة هامة في صناعات الطيران والسيارات. وبالنظر إلى هذه الإمكانات، سعى البلدان -أفغانستان وأوزبكستان- إلى تطوير التعاون الاقتصادي، وإيصال العلاقات إلى مستوى عال، فالأسواق المشتركة وإنشاء المعارض المشتركة وتطوير خط السكك الحديدية (أفغان ترانس) أكبر دليل على التعاون المتزايد بين البلدين.
أوزبكستان، فيما مضى، استثمرت في مجال الزراعة، وتتطلّع اليوم إلى الاستثمار في مجالات جديدة. فطشقند، من خلال تطوير مشاريع البنية التحتية وتطوير خط السكك الحديدية والتعاون في قطاع الطاقة، تطمح إلى خلق فرص جديدة للتنمية الاقتصادية بين البلدين.
ومع أن حدود أوزبكستان مع أفغانستان ليست واسعة مقارنة بالدول المجاورة الأخرى -باستثناء الصين-، إلا أنها تبحث في توسيع العلاقات الاقتصادية مع أفغانستان أكثر من أي دولة مجاورة لأفغانستان، وتحرص على الاستثمار في أفغانستان في قطاعات مختلفة مثل: الطاقة والنقل؛ تماشيًا مع احتياجات ومصالح البلدين. وزارت وفود اقتصادية من البلدين، كابل وطشقند والمدن الحدودية بين البلدين، ووقعت معاهدات اقتصادية كبيرة ومشاريع تجارية مهمة.
ومن ناحية أخرى، ولأسباب تاريخية، مثل (قيادة آسيا الوسطى خلال الحقبة السوفيتية)؛ لعبت أوزبكستان إلى حدٍ ما دوراً متفوقاً مقارنة بدول آسيا الوسطى الأخرى، وهو ما ساهم أيضاً في تفوق أوزبكستان مقارنة بدول آسيا الوسطى الأخرى. وقد دفعت هذه القدرات المحتملة والفعلية التي تتمتع بها أوزبكستان البلاد إلى السعي إلى ترسيخ نفسها كقائد إقليمي في آسيا الوسطى بعد الاستقلال، وتطمح إلى أن تصبح قوة إقليمية في آسيا الوسطى، وحسب المحللين الاقتصاديين فإنه من دون مشاركة أفغانستان، سيكون من المستحيل أن تحقق أوزبكستان هذا الهدف، فتنفيذ مشاريع تجارية واقتصادية ولوجستية مهمة، من دون إقامة علاقات طبيعية مع أفغانستان، ستظل جميع هذه الأفكار حبرًا على ورق، فأوزبكستان أدركت الأمر، ويبدو أنها عملت على تحقيق أهدافها من خلال إقامة علاقات دبلوماسية بأفغانستان المستقرة الآمنة.
هذا وفي أغسطس/آب من العام الماضي، قد وُقّعت في زيارة رئيس الوزراء الأوزبكي، عبد الله عارفوف، إلى كابل 35 اتفاقية بقيمة ثلاثة مليارات دولار تقريباً؛ 12 اتفاقية منها استثمارية والأخرى تجارية.
وفي 9 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، شهدت كابل توقيع خمس اتفاقيات جديدة بقيمة 1.15 مليار دولار في مجالات الطاقة وإنتاج الذهب والنحاس، ما يعني أن الاستثمارات الأوزبكية في أفغانستان في الفترة الأخيرة وحدها تفوق أربعة مليارات دولار.
وفي ختام التوقيع على الاتفاقيات، قال المبعوث الخاص للرئيس الأوزبكي إلى أفغانستان عصمت الله إرغاشيف: “تسعى أوزبكستان لاستثمار الإمكانات الاقتصادية لأفغانستان وخلق فرص عمل لملايين الأفغان. هدفنا هو النهضة الاقتصادية لأفغانستان والارتقاء بمستوى معيشة شعبها”.
وأتت تصريحات مختلفة من الجانبين تتضمن الترحيب والاستقبال وتبشّر بأفق مشرق ومستقبل واعد في العلاقات الأفغانية الأوزبكية، نقدم إلى القراء بعض هذه التصريحات.
أكد شوكت ميرزاييف، رئيس جمهورية أوزبكستان، أن سياسة بلاده تجاه أفغانستان تتسم بالاستراتيجية والواقعية، مشيرًا إلى أن مسؤولي حكومة الإمارة الإسلامية تمكنوا من توجيه الوضع الحالي في أفغانستان إلى المسار الصحيح، وتركيز مواردهم على المشاريع التنموية والبنية التحتية، مؤكدًا أن بلاده لطالما اتبعت سياسة بناءة وطويلة الأمد تجاه أفغانستان، ولم تحاول أبدًا عزلها عن المجتمع الدولي.
وفي جزء آخر من تصريحاته، أعلن أن طشقند مستعدة للعمل مع الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى لإيجاد حلول إيجابية تساعد أفغانستان على الخروج من أزمتها، كما أكد أن بلاده ستواصل مساعداتها لأفغانستان، لأن إعادة إعمار هذا البلد تصب في مصلحة الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى.
وقال في حديثه مع “يورونيوز”: إن العديد من الأشخاص الذين كانوا في البداية يعارضون سياسات طشقند تجاه أفغانستان، باتوا الآن يعترفون بصحتها. وقال ميرزاييف: “يجب تقييم أفغانستان من منظور الفرص الاستراتيجية الجديدة. إن دمج أفغانستان في العمليات الاقتصادية العالمية، لا سيما من خلال تنفيذ مشاريع البنية التحتية، أمر بالغ الأهمية.”
وقد أعلنت الإمارة الإسلامية ردًا على هذه التصريحات للرئيس الأوزبكي أن طشقند لديها فهم واضح لواقع أفغانستان وأن هذا النهج يمكن أن يؤدي إلى تقدم العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، وأن تطوير أفغانستان لا يمكن دون التعاون البناء مع الجيران، وبالتالي فإن العلاقات الوثيقة بين أفغانستان وأوزبكستان تساهم في النمو الاقتصادي والاستقرار في المنطقة. وتأمل الإمارة الإسلامية أن تحقق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين أفغانستان وأوزبكستان تقدمًا جيدًا في المستقبل القريب.
وفي هذا السياق، أكد نائب متحدث الإمارة الإسلامية، الملا حمد الله فطرت، أن العلاقات بين كابل وطشقند شهدت تطوراً غير مسبوق. وأضاف بأن الإمارة الإسلامية ترحب بالتصريحات الإيجابية الأخيرة لرئيس أوزبكستان بشأن أفغانستان. موضحًا أن العلاقات الثنائية بين البلدين تعززت بشكل ملحوظ في مجالات: السياسة، والاقتصاد، والترانزيت، والاستثمار والتجارة. وأشار إلى أن هذه العلاقات أصبحت أقوى وأكثر إيجابية من أي وقت مضى. مضيفًا بأن الإمارة الإسلامية تسعى دائمًا إلى بناء علاقات قوية وشاملة مع دول الجوار والمنطقة والعالم، على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
في المجمل، أدركت أوزبكستان جيدًا بأن أفغانستان تمتلك موارد غنية وتتمتع بموقع استراتيجي في المنطقة، وأدركت احتياجات أفغانستان، وأن السياسات العدائية لا تغني عن الواقع شيئا، فسعت إلى توسيع التعاون الاقتصادي من خلال زيادة الثقة بين البلدين، وتعزيز العلاقات السياسية مع الإمارة الإسلامية.
وبناءً على ما سبق، فإن العلاقات بين أفغانستان وأوزبكستان آخذة في النمو في مختلف المجالات؛ السياسية والأمنية والاقتصادية، مما يجعل من أوزبكستان نموذجًا للدول الأخرى في المنطقة على التفاعل الناجح مع الإمارة الإسلامية، لا سيما وأن أوزبكستان انتهجت سياسة متوازنة مبنية على حفظ المصالح المشتركة وعلى تعزيز العلاقات الإقليمية، والسعي في ثبات واستقرار آسيا الوسطى.
النهج العملي والمسار الصحيح الذي ينتهجه البلدان سيصنع -بإذن الله- مستقبلا واعدا لكلا الشعبين المسلمين اللذين يحملان مشتركات ثقافية، وطموحات وآمال لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التعاون والتفاعل والاحترام.