مقالات الأعداد السابقة

العلماء والتحريض على الجهاد

إعداد: صلاح الدين

 

إنّ الجهاد الإسلامي في أي زمنٍ من الأزمان لم يكن في غنىً عن العلماء وأهل الحلّ والعقد وإرشاداتهم وتوجيهاتهم، ولكن أي علماء؟

العلماء الذين كانوا في الجهاد ومقاتلة الأعداء في مقدمة الجند وعلى رأس الكتيبة، وأثبتوا أن وجودهم هو من أجل الإسلام وحده، وأنهم حقاً ورثة الأنبياء، وعلّموا الأمة هذه القاعدة الثمينة: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلّوا).

لقد فهم العلماء الجهاد، بأنه الدعوة إلى الإسلام، والقتال في سبيل الله تعالى. فكان الجهاد بذلك حرباً هجومية على كل من يقف حجر عثرة في سبيل الله ونشر الإسلام في العالم، وعلى كل من يحول دون سيادة الشرع الإسلامي الحنيف في الأرض.

فالعلماء الذين خاضوا ميدان المعارك الحربية، وهم بين الأسنة والرماح وتحت ظلال السيوف، وبين صهيل الخيل وقعقعة السلاح، أو مرابطين على الثغور في القيظ والريح والبرد الشديد، ساهرين على حماية ثغور المسلمين، حارسين لها، وقد جمعوا بين الأفضلين: العلم، والجهاد؛ بلغوا من الكثرة حدّاً لا يحصرهم العد، ويكفينا أن نذكر أحد هؤلاء العظماء وهو ابن نباتة، ولا نريد تسجيل فهارس بأسمائهم لأن ذلك يطول، ولا يحصل المقصود، ولذا يكفينا أن نضرب الأمثلة لبعضهم: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون).

برز ابن نباتة في عصر سيف الدولة الحمداني، وهو عصر الجهاد الحربي بين المسلمين والروم، ويتطلب خطيباً يلهب الحماسة، ويشعل الحمية بين الجمهور، وقد عرف ابن نباتة واجبه الخطابي، فنهض به على أحسن وجه، وصادف من التوفيق ما أصبح به مضرب المثل بين النظراء، وبما أنّ سيف الدولة كان كثير الغزوات، أكثر ابن نباتة من خطب الجهاد والحثّ عليه.

والرجل في أطواء نفسه مخلص ورع تقي، فكان يمتاح من بئر صافية ذات نبع دافق، وأنه يبلغ موضع التأثير في النفوس حين يقول في منحى الجهاد والاستبسال:

(إنّ للجنة باباً حدود تطهيره الأعمال، وتشييده إنفاق الأموال، وساحته زحف الرجال إلى الرجال، وطريقته غمغمة الأبطال، ومفتاحه الثبات في معترك القتال، فاستشعروا السكينة إذا كشفت الحرب نقابها، وأطار الإقدام عقابها، وأحرّ اللطام ضرابها، وأمرّ الحمام شرابها، ونزلتم للجهاد منزلاً قد أشرعت إليه الجنة أبوابها، وطالعت الحور الحسان، منه أحبابها، وقيل هذه عروس دار الآمال فكونوا الآن خطابها، وصرخ الشيطان بطغام أعوانه، وأرعد وأبرق بأضاليل بهتانه، وهوّل باحتشاد عبدة صلبانه، وضمن لهم ما هو مخفر من ضمانه، وجاء الحق وبطل النّفاق، وانسدّت بجيش العدوّ الجهان والآفاق، فأخمدوا هناك بصواعق العزمات وهجه، وأبطلوا بصوادق الحملات حججه، وأضربوا ببيض الصفاح ثبجه، وأركبوا ببذل الأرواح لججه، وانهبوا بالموت الصراح مهجه).

 

ونقتطف قطعة أخرى من روائع خطابات ابن نباتة التحريضية على الجهاد في سبيل الله:

(صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه، وندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه، وهذه البهائم تناضل عن ذمارها، وهذه الطير تموت حمية دون أوكارها، بلا كتاب أنزل عليها، ولا رسول أرسل إليها، وأنتم أهل العقول والأفهام وأهل الشرائع والأحكام، تندون من عدوكم نديد الإبل، وتدرعون له مدارع العجز والفشل، وأنتم والله أولى بالغزو إليهم، وأحرى بالمغار عليهم؛ لأنكم أمناء الله على كتابه، والمصدقون بعقابه وثوابه، خصكم الله بالنجدة والبأس وجعلكم خير أمة أخرجت للناس، فأين حمية الإيمان؟ وأين بصيرة الإيقان؟ وأين الإشفاق من لهب النيران؟ وأين الثقة بضمان الرحمن؟ فقد قال الله عز وجل في القرآن: (بَلى‏ إِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا) فاشترط عليكم التقوى والصبر، وضمن لكم المعونة والنصر، أفتتهمونه في ضمانه؟ أم تشكون في عدله وإحسانه؟ فسابقوا رحمكم الله إلى الجهاد بقلوب نقية، ونفوس أبية، وأعمال رضية، ووجوه مضية، وخذوا بعزائم التشميز، واكشفوا عن رؤوسكم عار التقصير، وهبوا نفوسكم لمن هو أملك بها منكم، ولا تركنوا إلى الجزع فإنه لا يدفع الموت عنكم، (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وما قُتِلُوا). فالجهاد الجهاد أيها الموقنون، والظفر الظفر أيها الصابرون، والجنة الجنة أيها الراغبون، والنار النار أيها الراهبون، فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان وأوسع أبواب الرضوان وأرفع درجات الجنان، وإن من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما مجمع على تفضيلهما، إما السعادة بالظفر في العاجل، وإما الفوز بالشهادة في الأجل، وأكره المنزلتين إليكم أعظمهما نعمة)

 

و من خطب ابن نباتة التي يحرض فيها على الجهاد أيضاً، قوله:

( ألا وإن الجهاد كنز، وفر الله منه أقسامكم، وحرز طهر الله به أجسامكم، وعز أظهر الله به إسلامكم. فإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، فانفروا رحمكم الله جميعا وثبات، وشنوا على أعدائكم الغارات، وتمسكوا بعصم الإقدام ومعاقل الثبات، وأخلصوا في جهاد عدوكم حقائق النيات، فإنه والله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا، واعلموا أنه لا يصلح الجهاد بغير اجتهاد، كما لا يصلح السفر بغير زاد، فقدموا مجاهدة القلوب قبل مشاهدة الحروب، ومغالبة الأهواء قبل محاربة الأعداء، وبادروا بإصلاح السرائر فإنها من أنفس العدد والذخائر، واعتاضوا من حياة لا بد من فنائها بالحياة التي لا ريب في بقائها، وكونوا ممن أطاع الله وشمر في مرضاته، وسابقوا بالجهاد إلى تملك جناته فإن للجنة بابا حدوده تطهير الأعمال، وتشييده إنفاق الأموال، وساحته زحف الرجال، وطريقه غمغمة الأبطال، ومفتاحه الثبات في معترك القتال، ومدخله من مشرعة الصوارم والنبال).

وكما نعلم أنّ لكل عصر سمات، فابن نُباتة الخطيب لم يشذ عن طابع عصره الفني حين راعى فنون البديع مراعاة داعية، وكان العامة في عصر ابن نباتة يهيمون بأسجاعه وازدواجه، لأنّ لصلصلة الأسجاع ورنين الازدواج ما يجلب الأسماع، وأنّ لتوالي الصور البيانية على معراج الخيال ما يؤثر في النفوس فتخضع لأفكار الخطيب خضوعاً يميل بها أنى مال.

فنحتاج في هذا العصر إلى علماء أعلام يحرّضون الشباب على الجهاد في سبيل الله، ويسردون فضائل الجهاد التي أتت في القرآن والسنة، ويكونون هادين مهديين، حتى نرى الحق يسطو على سراب الباطل الخدّاع، وما ذلك على الله ببعيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى