اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان!
عرفان بلخي
بمنة من الله تعالى نحن في أعتاب قدوم شهررمضان المبارك، شهر تجدد الذكريات وعهود الطهر والصفا، الشهر الذي فيه العطاء والرحمة والرأفة والحنان، فيه العفة والنقاء، شهر المواساة والطاعات بانواعها، له في نفوس الصالحين بهجة وفي قلوب المتعبدين فرحة وحسبه من فضائله أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
في هذا الشهر المبارك تتجلى نفوس أهل الايمان بالانقياد لأوامر الله وهجر الرغبات والشهوات، ولاشك أن في النفوس تكون دوافع الشهوة، وفي الصدور دوافع الغضب والانتقام، وفي دروب العمر خطوب ومشقات، ولا دافع لذلك كله إلا بالصبر والمصابرة وأن هذا هو شهر الصبر والمصابرة والصيام والرحمة والإنعام، اللهم تقبل منا الصيام والقيام وجميع الأعمال الصالحة واجعلنا من عتقائك من النار يا رب العالمين.
هذا العام أهل علينا هذا الشهر المبارك والبشرية تعاني من ويلات تفشي فيروس الكورونا، هذا الوباء الذي حصد حتى الآن مئات الاف من أرواح البشر. قال ابن خلدون في المقدمة: “نزل بالعمران شرقا وغربا الطاعون الجارف الذي تحيَّف الأمم، وذهب بأهل الجيل…، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل…؛ وكأنما نادى لسانُ الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة…، وكأنه خَلق جديد ونشأة مستأنَفة وعالَم محدَث”!! وكما قال أبونا آدم عليه السلام بعد قتل ابنه فيما نسب إليه من الشعر:
تغيرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون *** وقل بشاشة الوجه المليح
ومالي لا أجود بسكب دمع *** وهابيل تضمنه الضريح
أرى طول الحياة علي غما *** فهل أنا من حياتي مستريح
ربنا، نرجوك رجاء المتذلل إليك، الراجى لعفوك، الراغب في مغفرتك، إلا يكون هذا الوضع القهرى رسالة منك إلينا، أوعلامة من علامات مقتك وغضبك على أهل الأرض ومعشر بني آدم. ربنا لا تحرمنا من عظيم عفوك وواسع رحمتك، تلك الرحمة التي وسعت كل شيء”.
إن رمضان ذلك الضيف الكريم يأتي هذا العام ونحن نعاني من المحن والبليات والأوبئة والانهزامية في مقابل الكفرة ويدعمها حبنا للدنيا الذي هو من أعظم أسباب تلك الانهزامية، ففي الحديث الصحيح من حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل يا رسول الله: فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت”. يأتى علينا هذا الضيف ونحن نلعق مرارة تسلط الكفرة وتكبرهم علينا، نلعق مرارة إبادة المسلمين في بقاع الأرض.
وما الذي يصنع الطاعونُ في بلد *** في كل يوم له بالظلم طاعون”؟!
هذا الضيف العزيز الكريم يأتي علينا ونحن أذلة مستضعفين أنهكتنا ذنوبنا وشهواتنا وحرمنا طلب المقامات العليه، مقامات الجهاد والمجاهدة، مقامات البذل لله تعالى، مقامات عز الطاعة والإنابة إلى الله تعالى.
خلاصة القول أن هذا الضيف سوف يجيء ليجد فينا ومنا حالا، يسر الشيطان الذي يقعد للمسلم بكل صرا ط، لا يسر إلا دعاة الاستسلام أمام الدولة العظمى كما يحلوا لهم أن يسموها، للغطرسة الأمريكية، تلك الأسطورة التي هي إلى زوال، خاصة بعدما وضح مدى خوار الأسطورة التي لاتقهر والأمن الذي لايخترق…ها قد أخذ الله القرية الظالمة بعض الأخذ…وهو على كل شيء قدير…وإن هلاكهم قريب…ألم تر تلك الأية التي ظهرت في عقر دارهم.. فحسبنا الله ونعم الوكيل.
نعم هذا الضيف الموقر شهر رمضان الكريم جاء ويذكرنا بتاريخ الأمة “يوم بدر” يوم أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة، وأن تصبح دولة، وأن يصبح لها قوة وسلطان.. وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها. فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها ! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد… إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد. وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي. ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله، ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة، ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد.
يقول صاحب الظلال رحمه الله: “ألا إن غزوة بدر – بملابساتها هذه – لتمضي مثلاً في التاريخ البشري. إلا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة: وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة.. الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية.. إلا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها. فهي آية من آيات الله، وسنة من سننه الجارية في خلقه، ما دامت السماوات والأرض.. إلا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض – بعد ما غلبت عليها الجاهلية – لجديرة بأن تقف طويلاً أمام [بدر] وقيمها الحاسمة التي تقررها: والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع، قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر. ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة، ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض، وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض، تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية…
لقد كانت غزوة بدر – التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده – فرقاناً.. فرقاناً بين الحق والباطل – كما يقول المفسرون إجمالاً – وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً.. كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله – سبحانه – بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله:سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!.. فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي، وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان!
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد، كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير.. فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات…
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك. فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات. وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله: وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه: وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة. ولله العزة ولرسوله والمؤمنين.