
المجاهدون الأفغان أساتذة الجهاد المعاصر
غلام الله هلمندي
کان قد انقطع الجهاد في سبیل الله منذ أمد بعید؛ الجهاد الحقیقي الذي یبتني أساسه علی إعلاء کلمة الله فقط، لا الجهاد الذي یسمی – في المصطلح الجدید- بالمقاومة، لا الجهاد الذي یبتني علی أساس القومیة أو علی أساس الوطنیة. کلما قاتل المسلمون علی أساس الوطنیة أو علی أساس القومیة انهزموا وخسروا المعرکة، بل وخسروا جزءا من أراضیهم؛ کما وقع في حرب العرب ضد إسرائیل؛ فإن العرب کانوا یقاتلون علی أساس القومیة، لا علی أساس الإسلام.
نعم، هذا النوع من الجهاد الذي قام به الفاتحون الأولون کان مفقودا أو شبه مفقود، من زمن بعید، حتی نهض الشباب الأفغان وثاروا علی حکّامهم الشیوعیین الخونة قبل أکثر من أربعة عقود. هکذا اندلعت نار الحرب علی الکفر والإلحاد لأوّل مرة في التاریخ المعاصر علي أیدي الشباب الأفغان العُزْل، وهکذا تغیر مجری التاریخ وانقلبت الموازین علی أرض الأفغان، ومن ذلك الیوم، قام الأفغان ولم یقعدوا یوما، هزموا روسیا الإتّحادیّة أو بالأحری الدبّ الروسي هزیمة أدّت إلی انحلالها بالکامل، ثم ثاروا علی الفساد الذي وقع بین «الفاسدین»، والذي أدّی إلی فتنة عمیاء استهدفت حیاة المدنیین العُزْل وأموالهم وأعراضهم، حتی اجتمعت کلمتهم علی رجل من أنفسهم وبایعوه وفتح الله علیهم بلادهم من جدید، وقاموا بتشکیل نظام إسلامي نقيّ تحت اسم «الإمارة الإسلامیة»، وأطفأوا نار الفتنة إلی حد بعید، وأقاموا حدود الله وطبّقوا شرعه؛ ولکن الکفر العالميّ وعلی رأسه الولایات المتّحدة الأمیرکیّة لم یتحمّل ذلك؛ فإنه یخاف کل ما یتصل بالحکم الإسلامي والإستقلال الإسلامي، فأعلن الکفر العالمیّ حربا عمیاء علی المسلمین الأفغان بحجة مکافحة الإرهاب والتطرّف علی زعمه؛ ولکن الأفغان لم یخسروا معنویتهم ولم یستسلموا أبدا رُغم البون الشاسع بینهم وبین عدوّهم في المعدّات العسکریة، وفي عدد المقاتلین، إنما کانت أسلحة الأفغان بالنسبة لأسلحة الأعداء بمثابة العصي والحجارة.
هذا لأن جندینا نحن المسلمین لا یقاتل بقوة العتاد والعدة، بل یقاتل بقوة الإیمان، نحن لا ننتصر المعرکة بالعدد والعدة، بل ننتصرها بنصر الله العزیز القدیر. لا شك أنّ الجندي الذي یقاتل لأجل عقیدة یدین بها ویقاتل لأجل مبادئ یؤمن بها ویقاتل لأجل أجر من عند الله یطمع فیها ولأجل مرضاة الله یبتغیها لیس کالجندي الذي یقاتل في سبیل رتیب یتقاضاه شهریا أو سنویا أو یقاتل علی کره منه یساق إلی المعرکة سوقا، یسوقه أسیاده. وکذلك السلاح الذي یقاتل به هذا الجندي الذي یقاتل في سبیل الإیمان أقوی بکثیر ولو کان عبارة عن العصی أو الحجارة، أقوی وأصرمَ من السلاح الذي یقاتل به ذلك الجندي الذي یساق إلی الحرب سوقا ولو کان من أرقی المعدات العسکریة.
هناك مقاییس مادّیة یقیس بها المحللون الحروب والجبهات؛ ولکن یوجد هناك مقیاس آخر، مقیاس لا یتصل بالمادّة مطلقاً، مقیاس نؤمن به نحن المسلمین، مقیاس مؤثر تأثیرا جذریا في تغییر الموازین في الساحات.
لو فکّر الفاتحون الأوّلون من أمة محمد، لو فکر أبوبکر الصدیق وعمر الفاروق وأبوعبیدة ابن الجراح وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الولید في هذه المقاییس المادّیة وفي هذه المعاییر الدنیویة لما فتحوا أبدا شبرا من أراضي الفرس والروم، بل لما فتحوا جزیرتهم نفسها.
إنها القوة المعنویة، القوة التي انتصرنا بها في کل معرکة، انتصرنا بها یوم کنّا مجتمعین علی الحق، فارّین من الباطل، انتصرنا بها یوم کنا معتزّین بالإسلام ومشمئزین من الجاهلیة، یوم کنا مفتخرین بالأخوة التي جعلها الله بیننا، نافرین من القومیة العفنة، یوم کنّا عباد الله إخوانا، لا فضل لعربینا علی عجمینا ولا لعجمینا علی عربینا، إلا بالتقوی وصالح الأعمال. إنها القوة المعنویة التي انتصرنا بها یوم بدر، انتصرنا بها ونحن ثلاث مئة، لا نملك غیر عتاد قلیل یسیر لا یعتدّ به بالنسبة للمعدات العسکریة التي خاض بها عدوّنا الساحة، انتصرنا بها علی ألف جندي مدجّج بالسلاح وانتصرنا بها في غزوة «أحد» علی ثلاثة ألاف جندي ونحن سبع مئة وهزمنا العدو في وقعة یرموك المصیریّة، هم مئتا ألف مقاتل ونحن أربعون ألفا لا غیر.
إقرؤوا تاریخ الإسلام، تاریخ فتوحاتنا في مشارق الأرض ومغاربها. انتصرنا بقوة السلاح أم بالقوة المعنویة، بل إقرؤوا تاریخنا القریب، تاریخ أرض الأفغان، تاریخ البطولات في التراب الأفغاني. ستجدون في طوایاه خیر مثال علی ما قلتُ. نحن – جماعة المسلمین – نستمد قوتنا من دیننا وعقیدتنا. العقیدة هي أساس قوتنا، والکفار کلما هاجوا علینا حربا، هاجوها علی عقیدتنا.
الأفغان تعلّموا جیدا کیف یعیشون أحرارا وکیف یموتون أحرارا. إنهم لم یرضوا بالذل والعار منذ أن فتح ترابَهم صحابة رسول الله، الفاتحون الأولون، لم یرضوا ولن یرضوا بإذن الله. إقرؤوا تاریخهم وشاهدوا واقعهم.
لما فُقدت حریتهم، ومُسّت کرامتهم ودِیس استقلالهم، قاموا ولم یجلسوا، نهضوا ولم یقعدوا، ثاروا ولم یناموا. لم یجلسوا یائسین، بل شمروا عن سوق جِدّهم ودخلوا الجبهات فخاضوا غمارها وکانوا لهم بالمرصاد، ووقفوا ضدهم وصاروا یدا واحدة واعتصموا بحبل الله جمیعا، وتوکلوا علی من یُتوکل علیه وحده، وکفروا بالطاغوت وبکلّ ما یتصل به وصاحوا نعرة التوحید والشریعة والجهاد، نعرة «الله أکبر.. الله أکبر..». نداء «الله أکبر» نداء عجیب، إنه نداء یجمع المسلمین ویجذب الشباب من أنحاء العالم؛ لأن معناه أن الحرب دائرة لأجل إعلاء کلمة الله ولأجل حمایة الدین والأرض والعرض.
لکنهم تنازلوا… تنازلوا عن أشیاء. تنازلوا عن أیش؟ عن عقیدتهم؟ کلا وحاشا! عن إیمانهم؟ کلا وحاشا! عن حریتهم واستقلالهم؟ أبدا!! عن عرضهم وکرامتهم؟ هیهات!! بل تنازلوا عن دمائهم، تنازلوا عن راحتهم ونومهم، تنازلوا عن أموالهم، تنازلوا عن مقاربة نسائهم وعن الملاعبة مع أولادهم، تنازلوا عن کلّ ذلك، وضحّوا بکل ما یملکون في سبیل تحریر وطنهم، في سبیل استعادة حرّیتهم ومجدهم، في سبیل إقامة دولة القرآن، في سبیل تنفیذ أحکام الله.
إنهم أسوة بلا شك في هذا السبیل، في سبیل تعلیم الناس الحریةَ والإباء، في سبیل تعلیم المقاومة والنضال. إنهم أساتذة الجهاد المعاصر بلا منازع؛ إذ أنهم أحیوا الجهاد الإسلامي بعد أن طال غیابه وأوشك أن یُنسی!
إنهم عاشوا المصائب وتحملوا الشدائد وقاسوا الآلام وخسروا کل شیء؛ ولکن لم یأتهم الیوم الذي خسروا فیه إیمانهم وضمیرهم والإعتزاز بأمجادهم ومفاخرهم. هکذا ترعرعوا وهکذا تمّت نشأتهم في أحضان الأمّهات المؤمنات، فقد رضعوا بلبان الحریة والتضحیة والإیمان والمقاومة. إنهم غرسوا ولا یزالون یغرسون الإیمان والحریة وحب التضحیة في قلوب أطفالهم.
في سبیل الشرف ذاقوا المرارات والویلات، ذاقوا کل شيء من القتل والتشرید والتهجیر والجرح والألم والفقر والمرض. في هذا السبیل هُدمت دیارهم وعُطّلت عشارهم وثکلت نساؤهم وسالت دماؤهم وفقدت أموالهم وانتثرت أشلالهم ویتمت أولادهم ویبست بساتینهم. في هذا السبیل أصبحت مدائنهم أطلالا وقُراهم خرابا، وصار أهلهم مشرّدین متفرّقین في أنحاء العالم وسکنوا المخائم. ذاقوا کل ذلك ولم یبالوا، بل مضوا علی دربهم علی برکة الله قُدُما.
إنهم دفعوا لاستقلالهم وحریتهم أغلی ما عندهم وبذلوا أثمن ما یملکون، نعم، إنهم سقوا بدمائهم صحاري «هلمند» وبساتین «قندهار» وجنات «کابل» و«جلال آباد»، سقوا بدمائهم شجرة المجد والشرف، شجرة الإیمان والإسلام.
ها قد بدت تباشیر النصر علی الأفق وأوشك أعداؤهم علي الإنسحاب المریر، بل انهزموا واعترفوا بهزیمتهم، إنهم یبحثون مؤخراً عن مخرج لهم لینسحبوا من هذا المستنقع، المستنقع الأفغاني، الذي غرق فیه الکثیر والکثیر.
نعم إن الله هو الذي نصرهم في تاریخهم مرارا، نصرهم نصرا مؤزرا، کلما احتل الأجانب بلادهم، لماذا؟ لأنهم نصروا الله، وکیف نصروه؟ نصروا دینه باتباع أحکامه.
یا تری هل تنبت هذه الأرض المسقیة بدماء الشهداء ودموع الأطفال والشیوخ والنساء غیر الإیمان وغیر الحماسة والغیرة علی الإسلام وغیر الإستقلال والحریة؟ کلا!! هذا التراب لا یصلح إلا لهذا. لا یصلح إلا لیطبَّق علی ظهره أحکامُ القرآن، لا یصلح إلا لیکون مقبرة للغزاة والطغاة والعتاة، مقبرة للجبابرة والقیاصرة والأکاسرة، لا یصلح إلا لیکون مهدا للإسلام کما کان ولا زال.
فیا عجباً لناس مسلمین لا یقیسون شیئا إلا بمقیاس المادّة، یقولون کلما انتصر المجاهدون: «هناك أیادي خفیة وراء القضیة، کیف یمکن أن ینهزم الأمریکان وهم یملکون ما یملکون من سلاح وعتاد وأجهزة وما إلی ذلك. هناك أیادي استخباراتیة تدیر المعرکة» کأنهم لا یجدون مع الأسف مقیاسا غیر هذا. ألم نکن في بدر أقل عددا وعدة من العدوّ؛ یا هؤلاء!! ألم نکن في «أحُد» أقل عددا وعدة من العدو؟ ألم نکن في القادسیة أقل عددا من العدو؟ ألم نکن في یرموك أقل عددا من العدو؟ ألم نکن في عین جالوت أقل عددا من التتار، ذلك الجراد المنتشر، حین هزمناهم لأول مرة؟ ألم نکن في حطّین أقل عددا من العدو؟ من الذي انتصر في کل هذه المعارك؟ نحن أم أعداءنا؟ فالنصر یأتي من عند الله! المسلمون یملکون أقوی سلاح في العالم مطلقا، ألا إنه الإیمان، الإیمان بالله وبقدرته وبنصره، «الإیمان والإحتساب».
هکذا بقیت أسماؤهم خالدة تضیئ في جبین التاریخ، وهکذا سطّروا تاریخ بلادهم بدمائهم، إنّ الشعب الأفغاني لعمري خیر شعب في التاریخ المعاصر، خیر شعب أخرج للناس لیتأسی به المسلمون علی مدی العالم في میادین التضحیة والصمود ولیقتدوا به في حقول الحریة ولیتعلّموا منه درس الإباء والمروءة والرجولة. إن البطولات والتضحیات التي قدّمها المجاهدون الأفغان ضد المحتلین أعمّ من الإنجلیز والروس والأمریکان طوال تاریخهم الجهادي دفاعاً عن الدین ثم الأرض والعرض، هذه البطولات تشبه الأفلام الرومانسیة الحماسیة.
فالتاریخ خیر شاهد علی ما قدّمه الشعب الأفغاني إبان الجهاد الأفغاني ضد السوفیت من تضحیات ومفاخر وبطولات، وخیر دلیل علی ما سخا به من دماء وأشلاء وجراح وآلام في هذا السبیل. ومن المعلوم أن التاریخ لا یخلّد إلا الجیادَ والنفائس.
کأنهم حفروا – لله درهم – القبر، القبر الذي دُفن فیه تاریخنا وأمجادنا ومفاخرنا وبطولاتنا وحیاتنا وسیرتنا، الشیء الذي لا یعرفه لا شباننا ولا کهولنا الیوم، کأنهم حفروه وأخرجوا ما فیه من المفاخر والأمجاد من جدید لیری العالَم بأمّ عینه.