
المجاهد الاستشهادي
ینتظر یوم العملیات، یوم الخروج من دار إلی دار، لا یستمر المسافة بینهما من بضعة ساعات قصیرة مریحة مستبشرة يُهدیها الإیمان للأبطال لتُكن للاحتلال بين الفشل والكآبة كارثة فظيعة في هذه اللحظة، ولأصحاب العملية يوم السلام والضحك والبشارة للجنة التي عرضها السموات والأرض.
يوم القوة الإيمانية لكلهم إشعاراً لهم بأن الوجه الاستشهادي جديد في هذا اليوم، یوم الفرح الذي لا يراد منه إلا إظهار ما يهيج في الروح وكأنّ الأبطال الشباب جميعاً في يوم عيد، ساعة العملية ساعة استذكار كلمة الشهادة في أفواههم الجميلة يا لها من حلاوة الفم حين تردد الشهادة، ساعة تكثر فيها ألفاظ الدعاء والاستبشار والتهنئة مرتفعة تفوق الطائرات الحربیة.
هذه الساعة التي ينظر فيها المجاهد إلى نفسه نظرة مليئة بالسعادة ويرى في نفسه التهاني بالإعزاز وإلى وطنه رؤية ترنو فيها الجمال وفي شعبه الاتسام بوصام الشريعة، ما أسماها ساعة يكشف للمجاهد أن أفغانستان جمالها في جهادها، إنهم وجدوا لأنفسهم في أفغانستان الغنى الحقيقي، والرفاهية الجمّة، وأكاد أتأمل وجوههم وأثر الفرح على ابتسامتهم التي تأثرت من الفرح.
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني
فوارس لا یملون المنایـــــــا إذا دارت رحی الحرب المنون
سحروا يوم المحدد بالقيام والاستغفار والدعاء؛ لأنّ هذه الأمور ينبوع عظمتهم، خرجوا والشمس ترافقهم في هذا اليوم الجميلة تغتبط بأشعة قلوبهم التي هي أحسن من أشعّة الشمس، ما خرجوا إلا بقلوب لا شعور فیها بالخوف؛ لأنها تخفق بآيات تُكوّن في القلوب نبرات الحنان إلى الشهادة من تقليد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتخفق في الأجسام الطرية الشابة القريبة العهد بوداع الإخوة، ومعانقة المجاهدين.
هؤلاء الأبطال السعداء الذين لا يعرفون للأمريكان قوة؛ لأن لكل منهم قوة تتضاعف عن قوة الاحتلال، وعن تبختر أوباما، الذين عملت فيهم آيات القرآن، وصاغت لهم أفئدة لا تتم جمالها إلا بأن ترى ربّها، وبأن ترضي ربها، وأما الذين لا يؤمنون إلا بالجمادات والمواد الظاهرة يعيشون في الحرمان من هذا الشعور الذی يبعث قوة تخضع أمامها مدافع الدنيا.
خرجوا في موعد الرواح من مقرهم إلى ساحة “ديه مزانغ” بغرب كابول ليقوموا بتنفيذ هجوم على المكان المحدد، ليتكرر للعملاء الأمران الثابتان أنّ النصر الخالص للمجاهدين، وأن الفشل الذریع للاحتلال يجتلون مبنى جهاز شرطة المرور الأفغانية، ومقر القوات الأمنية العميلة الذين بدّلوا ابتسامات الأطفال، والرضاع إلى دموع ودماء، ولا يعيش بهم الشعب هادئا ومستريحا، وهم براثن الاحتلال مضطربين في حقيقتهم المفترسة وأطماعهم الدامية، وشهواتهم التي جعلت الشعب المضطهد في هموم كثيرة وبلايا عظيمة.
يقتربون إلى وكر الأشباح و وجدوا بعد قليل المبنى الواقع في شارع من شوارع المدينة، والمبنى واسع مزود بأربع طبقات، وكأن أبطالنا يمشون متفرقين كي لا يرتاب أحد في مشيتهم، هنا البطلان الاستشهاديان، وهناك المجاهد الباسل، وهناك المقاتل العابد كلهم في ريعانة الشباب، فليس ينظر فيهم العاقل إلا فهِم بأنّ هذه الأرواح لا تريد إلا أن تكون الجنة مثواها، وأن لا تشرق الشمس في أفغانستان على الاحتلال، وعلى عملائها، وعلى العداوة والخداع، والغصب، والانتهاك، والارتشاء.
ولما وصل الأوّلان منهم الباب المركزي من مبنى الوزارة نظر الأوّل منهما إلى صاحبه، وبريق عينه يقول ها أنا ذاهب نحو المتوحشين الذين تبين للشعب أثر وحشيتهم، وسأقاتلهم حتى قطرة واحدة من دمي، وقد تبيّن لك كيف أعشق الجهاد العشق المضني، وأهويه هوى البرح، واُضحي بروحي ليسجّل التاريخ أياماً مشرقةً من التنسيق بين النّصر والدّم في أفغانستان.
فردّ عليه صاحبه بطرفه: نعم يا أخي إنّ جهادنا اليوم في أفغانستان هي الحياة، وقد كان لحياتنا حظاً أوفر من الجهاد، وكلمة الجهاد مكتوبة على جبين أفغانستان إلى آخر الدنيا معناها أنّ أفغانستان لا تُحيا إلا بقانون الشريعة، ولا قيمة للقوة والفكرة الثاقبة، والمواهب الذكية إذا سلب صاحبها الأسلوب الصحيح في استخدامها، وما نحن فيه هو من الاستخدام الصحيح؛ لأننا قمنا بتطهير المبنى ممّن كان ضارياً عارم الوحشية شديد الانتهاك للحرمات هرّاساً في دماء الأطفال، فراسا في أموال المستضعفين.
فاذهب إليهم فأنت الرعد ونحن وراءك الصاعقة، فدخلا فإذا هما يريان عناصراً من العملاء وشرذمة من المحتلين اجتمعوا للتدريبات العسكرية ليترسخ فيهم ممارسة العنف بعد رحيل الاحتلال فهم يُحبّون الاحتلال حباً جماً لا يرتابون في مودّتهم إیاها حتى إذا أمرتهم احتلالُ أن أقبل! أو اُقتل الطفل أو انتهك الحرمات! يفعلون ما يؤمرون مباشرة.
اقترفوا جرائم ضد البشرية وافتقدت فيهم الإنسانية معناها، ومابرحوا يرتكبون الجرائم ضد العزّل من الناس إرضاءً للاحتلال ثم ليرضوا معاني وجودهم، وفي الهمجية زعموا معاني وجودهم.
ففوجئوا بالبطلين الاستشهاديين فحاولوا أن يجدوا ملاذاً آمناً مثل درج أو رفٍ، لكن باءت محاولتهم بالفشل، وما عرفوا اقتراب أنفسهم من الهلاك إلا ثواني عدة تبدل بهم المبنى جحيما أسوداً مظلماً.
وهزّت أركان المبنى بتكبير الشهيدين قبل أن يخر بعمليتهما الباسلة، وقالا: ألله أكبر وكرّراها مراراً لتكون هي آخر كلمة يتسم بها الروح حين يلقى ربها، ولتكون هي آخر كلمة تنطلق من حقيقة القلب، ولتكون هي آخر كلمة يتلألأ بها أشلاءهما، ورسمت العملية ولولة ودموعا، وخسارة للاحتلال، وكساداً وبواراً لكرزاي وأوباما، وصارت لحظة التهنئة والابتسام للمجاهدين {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) آل عمران}.
يا عجائب البطلان أي سرٍّ عظيمٍ يحملان؟!
ويا لله من أسرار الجهاد، يفرغ المجاهد نفسه ممّا انغمس
الآخرون فيه من المعاصي والترف البذيء، وتزيّنت نفسه بالشريعة ومعانيها والجهاد ولوعته، ويُقبل على الآخرة قدر ما يُقبل الآخرون على الدنيا ترى عليهم طيف العبادة، وفي وجوههم آثار العبادة وفي سيما هم الصلاة ونورها.
فهم جند محمد قبل أن يكونوا شباباً، الذين أذلوا الاحتلال في أفغانستان، ففجّرا نفسيهما ولهما ابتسامة يزيدان الجمال بها كأنها ابتسامة شفيق أيقن أنّ آلام الشعب موشكة أن تنتهي، تلك الابتسامة لا دخل في إيجادها إلا للروحانية الخالصة التي لا يبلغها الإنسان إلا إذا بلغت إنسانيته ذروتها، وكأنهما بلسان حالهما يترددان: سنغادرك يا بلادنا مبتسمين لتعيش مبتسمة.
وتوفرت ساعة كل شيء لأبطالنا الآخرين والعملاء يتململون في اضطرابهم العقلي، وقد اندهشوا في جثثهم المتفكّكة كأنهم اقتربوا ساعة الاحتضار، واختلط عليهم الفرار بالهلاك وهم في مثل حيرة المجنون، وأفئدتهم المضطربة تيقنت بالهلاك (صُمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون).
كأنهم في فخٍ لا مخرج منها، وتضاريس وجوههم تتفصد عرقاً خوفاً ودهشة، وتأكدوا لو أنهم دخلوا منذ اللحظة فی الإسمنت المسلح ما أغنت عنهم شیئا من القتل بعملیة الاستشهادي وكان أصحابنا على علم من حالتهم المتنهدة، فقُتل جمٌّ غفيرٌ من العملاء والمحتلين، ونال المجاهدون ما كانوا يتمنون بعد أن استشعروا الواجب الشرعي، وقدموا أنفسهم طوعاً وراضياً في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين والعمل على نشر الرعب والخوف في صفوف المحتلين، وحرموا الاحتلال الشعور بالاستقرار والطمأنينة على أفغانستان.
ليس المجاهدون إلا والاستشهاديُ فيهم ياقوتة متلألئة بعملياتها، وتلك الياقوتة باقية في الجهاد كفطرة طيبة له مادام الجهاد ماض، ولا ينخلع من هذه الفطرة أبداً، ويستخدمها عندما يشعر باستخدامها، وقد جعل الله أجر الاستشهادي في جهاده وسينظر إلی ربه بأشلائها التي مقبلة على ثوابها وجنتها بطرق جعلت الأعداء مفضوحة في مخططاتها، وإنّ ظاهر الاستشهادي يحاول أن يمتلئ من ضميره بعد أن كان ضميره امتلأت من العقيدة الصحيحة، ويصبح حياته بعد ذلك في حكمه مصرفة بإيمانه خاضعة لإرادته القاهرة، ويذهب عنه الخور والذل، وينزل في مكانهما المحاولة للحرية، وسيادة الشريعة ويزول الاضطراب ویحل محله الإقدام بقلب مطمئن وتلتهب فی نفسه الأشعة التی تُذیب الشیطان والاحتلال وغیومها، وتمنعها من التراكم، وتنبهر فی وجوده القوة السامة التی یغلب بها المؤمن علی العوالق الشائكة، وینتصر بها من أقوی الغاصبین.
والاستشهاديُ یسلك النور من شارع الجهاد ولا تغلبه كلمات اللوم الرقیقة، ولا تغتره الحیلة الواهنة، ونهجه یوافق آیات القرآن الجلیلة (إن تنصروا الله ینصركم ویُثبّت أقدامكم)، ویفرح باشتغاله بالجهاد قبل أن یفرح بالشهادة، فعملیة الاستشهادی یؤیّدها العقل والأدب والعلم والفلسفة والتهذیب.
تبارك الذي جعل للاستشهادي فی هذه الفانیة قلباً أكبر من هذه الدنیا وما فیها، فأعطاه فی الآخرة جنة خیر من الدنیا وما فیها.
وتبارك الذي جعل من الشباب والعقول الذكیة من ینصر دینها بالتضحیة وبالشهادة، فجعل باستشهاده صورة صغیرة من فرحه بما ینال من الأجر الأكبر، والنصیب الأوفر فی الآخرة.
انتهت أیّها البطل الشهید أیامُك من الجهاد، تلك الأیام السعیدة التي كانت تتذیل أمجاداً للمسلمین في أسطر التاریخ، وبدأت أیها البطل الشهید أیامُك من الآخرة هنیئاً لك الكلمات الجمیلة (عشت حمیداً وقُتلت شهیداً وستحشر سعیدا بإذن الله).