المجتمع الإسلامي وحاجته الماسّة لاستحضار قضيته الجهادية
محمد داود الحقاني
نواجه اليوم كثيرا من المصائب، والشدائد، والفتن، والشبهات التي اجتاحت العالم الإسلامي، وانتابت المجتمعات الدينية؛ بما أن معظم الناس قد حصروا الدين في أسوار المساجد، ويدندنون حول أذكارهم، وأورادهم دون أن تكون لهم أدنى معرفة وبينة بما يتوالى من الأنات والصيحات والويلات التي تطلقها حناجر أناس أبرياء مكلومين مظلومين. ولست أريد الإطالة، والتبعثر في الكلام، ولكن كلام العواطف لا يستحق صاحبُه الملامة وإن طال كلامه، وتبعثر.
ثم إن الجهاد من أكبر الوسائل التي ترتفع بها هامة الأمة الإسلامية، بحيث تكون لها نقطة اعتزاز، وفخر منفردة تستقل بها عن الأمم الأخرى.
ونحن إذا ألقينا نظرة عابرة على صفحات التاريخ، وقلبنا دواوينه؛ فسوف يتضح لنا أن الأمة المحمدية كانت متمسّكة بقضية الجهاد، وتوقر وتحترم شرائع الدين الحنيف، فلم تكن توجه إليها أصابع التهمة، ولا تنظر إليها نظرة استخفاف كما هو حاصل اليوم، والشواهد على ما أقوله كثيرة، وإن كذب الناس، فالتاريخ لا يكذب!
وكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والنصوص الشرعية والآثار تدل دلالة واضحة على أن الجهاد من أعظم الطاعات، وأفضل العبادات، إضافة إلى أن كل من اتصف به كان أكرم الناس عند الله، وأعزهم، وأعلاهم مرتبة بالنسبة إلى أناس اتخذوا قضية الجهاد ظهريا، إلى أن صارت قضيةً منبوذة توطأ وتداس؛ وجراء ذلك صارت أمتنا الإسلامية ألعوبةً يعبث بها اللاعبون، ولقمةً سائغةً يطعمها الطاعمون، على الرغم من أنها كانت قديما تنشد الخير، والنفع، والنصح لكل من يعيش على هذه البسيطة، وتبيع الرخيص والنفيس في تخليص أبناء جلدتها من براثن اليهود، والكفرة، والخونة، والآن آل بها الأمر إلى أن صار كل شيء في غير موضعه اللائق به: فمن إناءٍ قد تكسّر ومن مستقيم قد اعوجّ، ومن عالم قد اغتيل، ومن شاب قد استشهد، ومن امرأة قد تأيّمت، “فلا تسل وظن شرا”.
ولله در القائل:
تلك الفجائعُ لو يمرُّ حديثها *** بوليد قوم شاب قبل المحمل
ونعمّا ما قاله العلامة ابن المبارك (طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه) حيث صوّر لنا هذا المنظر، ومثّله في أعيننا، وكأننا نراه شيئاً يُحَسُّ، ويشاهد، وهو كما يلي:
كيف القرار وكيف يهدأ مسلمٌ *** والمسلمات مع العدو المعتدي
الضارباتُ خدودهنَّ بِرَنّةٍ *** الداعياتُ إلى النبيِّ محمدِ
ما تسطيعُ وما لها من قوةٍ *** إلا التسترَ من أخيها باليد
وخلاصة ما أشرنا إليه ما ذكره العلامة ابن قيّم الجوزية في قوله: أكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد؛ ولهذا كان أكمل الخلق، وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله؛ فأنه كمل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عزّ وجلّ (١)
وكفى المجاهدين شرفا، وفضلا حيث فضّلهم الله في كتابه العزيز على الذين ركنوا إلى مضاجعهم، ويعيشون عيشةَ الترفُّه دون أن يلتفتوا إلى ما يحدث في عالم الواقع.
“لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم، فضّل المجاهدين على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضّل الله المجاهدين على القادين أجرا عظيما، درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمة، وكان الله غفورا رحيما” [المائدة ٩٥، ٩٦].
وكلّ فرد من أفراد الأمة لو تشبث بأهداب هذه السعادة بأن شهد الحروب، وخاض غمار المعركة في ميدان واقعي عملي؛ فسيكون له أثر كبير، ووقع جيد في حياته وقضاياه، قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعكم تفلحون” [المائدة، ٥٥].
وثمة روايات عديدة تصرّح صراحة تامة بأن قضية الجهاد لا غنى عنها، وتبين عظمة الجهاد في سيبل الله، وشأنه الرفيع، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد قي سبيل الله [متفق عليه].
وعن أنس رضي الله عنه قال: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) [متفق عليه].
وبعد ما ذكرناه من نبذةٍ وجيزة عن بعض ما يتعلق بشعيرة الجهاد، أود أن أوجز كلامي وأقول: بأن أمرَنا لن يصلح، ولن نعود إلى مجدنا المفقود، ولن تقوم قائمة للمسلمين، ولن يكون لهم شأن رفيع، ومرتبة عليا إلا إذا اعتنينا عناية خاصة بالجهاد، وبكل ما يعود بالنفع على المسلمين عامة والمجاهدين خاصة، وأنهي مقالتي بأبيات تحكي الواقع، وتخدم المشهد:
ربّاه أظلم ليلهم وتمادى
واشتدّ عود ضلالهم وازدادا
جلبوا إلينا خيلهم ورجالهم
واستجلبوا فوق العتاد عتادا
يا رب هذي ريشة الأحزان في صدري
تسطّر في الجفون سهادا
إن لم نُقِمْ عَلَمَ الجهاد على التُّقى
ما عزّ قوم يتركون جهادا
___________________
(١) زاد المعاد في هدي خير العباد، للعلامة ابن قيم الجوزية.