مقالات الأعداد السابقة

المرحلة الأخيرة من الحرب .. ومشاكلها

ــ بقلم: مصطفى حامد ــ

 

دخلت الحرب الجهادية في أفغانستان مرحلتها النهائية (الثالثة والأخيرة) والتي من علاماتها الاستيلاء على التجمعات السكانية الكبيرة في الأرياف واقتحام المدن ومنع العدو من استعادتها.

ومن أبرز العلامات كان اقتحام مدينة قندوز، ومدينة لشكرجاه عاصمة هلمند، ومدينة ترينكوت عاصمة أرزجان. وبصرف النظر عن النتائج، فإن المحاولات مستمرة على العديد من المدن بما يعكس ثقة وقوة معنوية من جانب المجاهدين وضعف معنويات العدو وتهاوي قواته بشهادة قادتة المحليين وسادته الأمريكيين. ولا تخلو حملة على تلك الأهداف من غنائم هائلة من السلاح والمعدات. ومن هنا يكون إخلاء الموقع وإغواء العدو بإستعادتها وإعادة تكديس المواد فيها مرة أخرى، وسيلة ناجعة لتموين المجاهدين وتسليحهم بشكل مستمر. ولكن في النهاية لابد من الاحتفاظ بتلك المدن إذا ما توافرت شروط معينة تتعلق بالتدخل العسكري الأمريكي. وتحتاج الهجمات الأخيرة على المدن إلى تحليل منفصل كي يتضح الشكل الذي وصلت إليه الحرب وإقتراب مجاهدي طالبان من النصر النهائي مع تدهور أوضاع نظام الاحتلال في كابل، وكيف أنه يعيش بالفعل في حالة من الانهيار لا تمكنه من الاستمرار في الإمساك بالسلطة بدون عون كامل عسكري ومالي من الإحتلال الأمريكي.

تزداد معاناة حركة طالبان ومعها الشعب الأفغاني كلما اقتربت نقطة الانتصار الكامل. ولكن الطرف المقابل لهم، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، تعاني بدرجة أشد؛ نظراً لموقعها كقوة عظمى في عالم تكرهه ويكرهها. إنها دولة وحيدة تحارب البشرية أجمع، لذا تحمي نفسها بكافة أنواع التحالفات لتؤنس وحدتها وتخفي توحشها تحت ستار “الإرادة الدولية”، فتشن ما تشاء من حروب في أي مكان وكل مكان.

 

1 ـ القوة الزائفة :

تبدأ المرحلة الثالثة (والنهائية) من حرب أفغانستان الحالية، وفي قيادتها العليا شخصان: على الطرف الأفغاني الجهادي هناك الملا هيبة الله عالم التفسير والحديث، والقاضي الشرعي ومقاتل الصفوف الأولى. وهو الأمير الثالث لحركة طالبان والإمارة الإسلامية .

وعلى الطرف الأمريكي هناك دونالد ترامب الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة، وهو بإجماع الآراء رجل مختل متناقض، “تطارده الفضائح الأخلاقية ويطاردها”.ب أفغانستان الحالية ، وفى قيادتها العليا شخصان : على الطرق الأفغانى الجهادى هناك الملا هيبة ال

 

ــ الولايات المتحدة تحكمها أجهزة ضخمة ومتطورة، ومع أن الرئيس يؤثر كثيراً على عملية اتخاذ القرار، لكنه لا ينفرد به. وفي الغالب فإن حالة الرئيس وتصرفاته تعكس حالة الدولة في وقت حكمه. ولاشك أن وصول شخصية مختلة مثل ترامب يعكس أزمة عميقة تعيشها الدولة والمجتمع في بلاده.

وحتى لا يختلط الأمر، نقول بأن الولايات المتحدة تشبه ناطحة سحاب ضخمة وفخمة مبنية بإتقان فوق جرف هار. أي أنها أشبه بشاطئها الغربي الأغنى، ولكنه قائم على جرف قاري مهدد في أي لحظه بالسقوط في المحيط الهادي.

ــ وقبل أن نذهب بعيداً فإن السقوط الأخلاقي للولايات المتحدة هو أمر حادث بالفعل. وترامب يستهدف ما تبقى من إيجابيات في أخلاقيات الحكم وأخلاقيات المجتمع. لذا فدولته مهددة جدياً بحرب أهلية بين الأقليات العرقية والدينية، بل ومهددة بانفصال بعض الولايات.

ــ ودولة ترامب قائمة على عظمة اقتصادية بلا أساس، فهى أكبر دولة مدينة في التاريخ، ودَينها مستحيل السداد، لذا يتحكم اليهود في رقبتها، ويسخرونها في حمل أوزارهم بطول الدنيا وعرضها.

تبني الولايات المتحدة أنظمة حكم على شاكلة حكمها حيث لا يمكنها صنع ما هو أفضل. وبنظرة إلى أنظمة الحكم في مستعمرات أمريكا، نجد نفس الصوره تتكرر في عناصرها الأساسية وهي القسوة، والفساد، والخداع. وذلك هو ملخص الحكم الإحتلالي في أفغانستان، وفي كافة مستعمرات أمريكا الخاضعة بالعنف العسكري أو الإقتصادي والسياسي. وهو النموذج الذي تسعى إلى عولمته، وإرغام شعوب العالم على تجرعه، خاصة في حالة غياب البديل.

 

2 ـ انحلال نظام الاحتلال

من علائم المرحلة الثالثة والنهائية من حرب العصابات والتي يطلق عليها (مرحلة الهجوم الاستراتيجي) أو مرحلة الحسم، هو: انخفاض فعالية جيش العدو، وقلة عملياته الهجومية وضعف تأثيرها وركون قواته إلى الوضع الدفاعي. وتراجعه وفشله على الأرض يحاول تعويضه بتفعيل سلاح الطيران أساساً، وفي الدرجة التالية سلاح الصواريخ الثقيلة. وذلك هو ما حدث عندما شرع الجيش السوفيتي في الانسحاب، واستمر الحال كذلك حتى نهاية الحرب.

ورغم انسحاب قواته إلا أن الدعم العسكري السوفيتي ظل متواصلاً بواسطة أحدث الطائرات التي تنطلق من مطارات بالقرب من الحدود الأفغانية، لتقصف بعنف وبأسلحة موجهة، حيث تحتدم المعارك، ويواجه الجيش الحكومي المواقف الخطرة.

وبعد الانسحاب السوفيتي تزايد اعتماد الجيش على الصواريخ الثقيلة من طراز سكود حتى صارت شائعة مثل الهاونات. وكان يدير قواعدها خبراء سوفييت من كابول.

وقد شوهد عرضاً جباراً بجمع الطائرات الحديثة والاستخدام المكثف لصوارخ سكود في عام 1989م عندما هاجم المجاهدون مدينة جلال آباد محاولين إسقاطها، ولم يشاهد قبلاً مثل هول ذلك القصف. ولكن تكرر أشد منه عند هجوم المجاهدين على مدينة خوست والاستيلاء عليها عام 1991م، وهي المدينة الرئيسية الوحيدة التي فُتِحت عنوة في تلك الحرب وتم الاحتفاظ بها حتى نهاية الحرب. في ذلك الوقت تزايد اعتماد الجيش الحكومي على ميليشيات المرتزقة لأن الجنود فقدوا رغبتهم في القتال. ولولا خشيتهم من حكم الإعدام الفوري في حالة محاولتهم الفرار لانضموا في أقرب فرصة إلى المجاهدين، وقد حدث ذلك كثيراً.

إذن للميليشيات دور رئيسي في المرحلة الثالثة من الحرب، فهي تضاهي الجيش أو تزيد. في الأوقات العادية كان في خوست ـ على سبيل المثال ـ عنصر واحد من الميليشيا في مقابل إثنين من الجنود. وفي وقت الفتح كانت النسبة تقريباً متعادلة، بعد أن جرى تعزيز أعداد الميليشيات بعناصر (جلم جم) التابعين لعبد الرشيد دوستم، الذي مازال فاعلاً في ميدان الحرب الإرتزاقية، بل تحول إلى سند كبير للنظام الاحتلالي الأمريكي، في موقع أقوى من موقعه القديم مع السوفييت، كونه متمرساً في إرتكاب جرائم الحرب.

ــ تلك الأوضاع العسكرية التي سادت في المرحلة الثالثة من حرب العصابات الجهادية ضد السوفييت، وهي تشابه كثيراً ما هو سائد حالياً في الحرب الجهادية ضد الأمريكيين، مع تمتع المجاهدين حالياً بنقاط تميز جوهرية لم تتوافر لأسلافهم في الحرب السابقة.

 

3 ـ من بداية صاخبة للغزو، إلى محاولات لعرقلة إنتصار المجاهدين

فعل الأمريكيون ما فعله السوفييت سابقاً، بأن صاحب احتلالهم لأفغانستان استعراض هائل للقوة العسكرية مع حملة موازية من الحرب النفسيه يشنها الإعلام السوفيتي ونظيره المحلي.

كان الاحتلال السوفيتي أكبر حملة إبرار جوي بعد الحرب العالمية الثانية، إذ احتلوا العاصمة والمدن الكبرى والمواقع الاستراتيجية خلال ساعات معدودة. فوقع الشعب الأفغاني تحت هول الصدمة وساد الوجوم أرجاء البلاد، إلى أن استجمع الشعب شتات أمره وبدأ مقاومته بالتدريج، تحت قيادة العلماء، طبقاً للتقليد الجهادي الراسخ في أفغانستان.

ــ أثناء غزو 2001م، قدم الأمريكيون أضخم قصف جوي في التاريخ بأحدث التقنيات المتطورة التي لم تستخدم قبلاً في أي حرب. واقتربت القوة التدميرية للذخائر التقليدية من القوة النووية، حتى أن القنابل الثقيلة للطائرات بلغت زنة سبعة أطنان تقريباً، فأحدثت تصدعات في القشرة الأرضية وتسببت في تنشيط الزلازل في المنطقة. أما الإعلام الذي رافق الحملة الأمريكية، فلا يمكن مقارنته بأي حملة أخرى سابقة من حيث الضجيح والتأثير النفسي، حتى جعلوا من الإعلام سلاحاً حربياً بالفعل وليس بالمبالغة.

وفي الحالتين السوفيتية والأمريكية عندما مضت الصدمة، وبدأ الجهاد ينمو بالتدريج وتخطى مرحلته الأولى التي هي الأصعب والأخطر في مسيرة الجهاد، ودخل في المرحلة الثانية للحرب بعد أن استكمل المجاهدون والشعب ضرورات المعركة واستوفوا شروطها، أيقن العدو باستحالة النصر.

ــ وعندما وصل غورباتشوف إلى الحكم في موسكوعام 1985م كانت لديه نفس القناعة التي تكونت لدى أوباما عند وصوله إلى البيت الأبيض عام 2009م فكان قراره بالإنسحاب جاهزاً. ولكن الجنرالات طلبوا مهلة، ربما أصلحوا فيها الموازين على الأرض، أو على الأقل يمهدوا الأجواء لانسحاب مشرف بدون شبهة هزيمة عسكرية.

أعنف حملات الجيش السوفيتي قام بها بعد قرار القيادة السياسية بالانسحاب بعد وصول غورباتشوف إلى الحكم. وبالمثل فعل جنرالات أمريكا بعد وصول أوباما. فبعد فشل تلك الحملات يصبح قرار الانسحاب قراراً عسكرياً يوقع عليه الجنرالات، وليس اجتهاداً سياسياً فقط.

ــ بعد مفاوضات مع الأمريكيين بدأ السوفييت إنسحابهم في عام1988م، وأتموه في فبراير 1989م تاركين دعماً جوياً وصاروخياً غير معلن، وغير محدود، ولكن متفق عليه مع الأمريكيين. فتحولت أفغانستان إلى ساحة تعاون مشترك لمنع المسلمين من الوصول إلى الحكم، فلم يعترض الأمريكيون على العون السوفيتي لنظام كابول، ونظراً لتأزم الوضع الإقتصادي في موسكو، تولّى أتباع واشنطن دعم السوفييت مالياً، مع أنواع أخرى من الدعم غير المعلن قدمته أمريكا مباشرة. فقد عثر المجاهدون على عدة آلاف من بنادق M16 الأمريكية في مقر الاستخبارات الأفغانية (واد) ـ وزارة إطلاعات دولتى ـ وكان ذلك نموذجاً واحداً من الدعم.

ــ أوباما بدأ عهده المظلم بحملة كبرى على إقليم هلمند أسماها “الخنجر”. وشاركه البريطانيون بحملة “مخلب النمر” من شمالها. فكانت تلك أقصى قوه متوفرة لدى الحليفين.

ــ لم تكن الحملة الأمريكية/البريطانية على هلمند حاسمة، فأعقبها انحسار عسكري تدريجي للعدو، قابله تقدم للمجاهدين بنفس الوتيرة.

العدو يدرك أن دخول حروب العصابات إلى مرحلتها الثانية يعنى إستحالة هزيمتها عسكرياً. وبعد معارك هلمند صار الإدراك قاطعاً أن لا سبيل إلى هزيمة المجاهدين الأفغان عسكرياً.

ــ والخيار الأوحد أمام العدو هو منع المجاهدين من تحقيق الهدف الرئيسي من مرحلتهم الثالثة، وهو فتح المدن وتحرير تجمعات السكان الكبيرة في الأرياف وصولاً إلى إسقاط العاصمة.

وبما أن هذه هي المرحلة التي وصلها الجهاد في أفغانستان حالياً، فمن الأفضل التفصيل فيها قليلاً ومقارنتها بمثيلاتها وقت الجهاد ضد السوفييت. فالمبادئ العامة هي واحدة وإن اختلفت التفاصيل ما بين زمن وآخر.

ــ يحاول العدو منع المجاهدين من المضي قُدُماً في مرحلة الهجوم الاستراتيجي أو عرقلتهم إلى أقصى حد ممكن، حتى لا يحصلون على نصر عسكري كامل يمكّنهم من فرض إرادتهم الكاملة وتحقيق تصورهم الخالص لمستقبل البلد.

ــ عودة إلى مارس من عام 1989م حين قررت فجأة الحكومة المؤقته برئاسة صبغة الله مجددي وبدعم من قادة الأحزاب، ترتيب حملة على مدينة جلال آباد بهدف الإستيلاء عليها، وجعلها مقراً للحكومة المؤقته المقيمة على أرض باكستان.

كان الاتفاق بين السوفييت والأمريكيين أن يكون حكم أفغانستان مشتركاً بين أتباع الطرفين، طبقاً لمقياس القوى النسبية بينهما، فتتشكل حكومة مشتركة بين أحزاب “المجاهدين” والعناصر الشيوعية في كابول.

ولما كانت معنويات المجاهدين الميدانيين عالية جداً، ولا يقبلون بحكم مشترك مع الشيوعيين، وكان في إمكانهم عرقلة المشروع. فكان الحل هو إقحام المجاهدين في معركة كبيرة يخسرونها، فتهبط معنوياتهم وينخفض سقف مطالبهم، ويقبلون بالحل الدولي المطروح. وتم ترتيب المؤامرة الدولية، بمشاركة الباكستان وقادة الأحزاب، فكانت نكسة جلال آباد. إذ فشل الهجوم على المدينة بعد خسائر عالية في أرواح المجاهدين، فتحول الهجوم إلى مناوشات وحرب إستنزاف بطيئة على أطراف المدينة، استمرت لأكثر من سنتين، إلى حين سقط النظام في كابل.

ــ أثناء التجهيز للحملة العسكرية لفتح مدينة خوست بقيادة مولوي جلال الدين حقاني. كان خوف الأعداء شديداً من أن تنجح الحملة، وبالتالي يفشل المشروع الأمريكي/السوفيتي بفرض حكومة مختلطة في كابول. فزادت الحروب النفسية على الشیخ حقاني ورجاله. وقرب بدء الحملة، أخبرني الشيخ حقاني أن تهديداً روسياً وصل إليه عبر دولة صديقه، يقول بأن الروس سيقصفون خوست بالقنابل الذرية في حالة إستيلاء المجاهدين عليها.

شعرت بالمفاجأة والحيرة فسألت الشيخ عما ينوي فعله، فأجابني بهدوء: “سنتوكل على الله ونفتح المدينة”. هذا الثبات الإيماني المذهل كثيراً ما قابلته خلال فترة الجهاد ضد السوفييت من قادة كبار مثل حقاني وغيره من عظماء المجاهدين الميدانيين.

ـ وفى لحظتنا الراهنة نشاهد ما يشبه جنون التهديد السوفيتي في ما قام به الأمريكيون في جلال آباد حين ألقوا على أطرافها قنبلتهم الضخمة “أم القنابل” ذات الأطنان العشرة. وهي القنبلة التقليدية الأضخم في الترسانة الأمريكية.

إنهم يحاولون عرقلة المجاهدين الذين يمضون قدُماً في مرحلتهم النهائية الدائرة حالياً، بفرض الحصار والسيطرة على الكثير من المديريات، وحتى على الولايات شمالاً وجنوباً، خاصة في هلمند التي هى ساحة القتال الأولى في هذه الحرب، فركز العدو فيها منذ البداية أكبر وأفضل ما لديه ولدى حلفائه من قوات، سعياً نحو هدفهم الأهم من الحرب، وهو إعادة زراعة الأفيون والتوسع في الإتجار به دولياً.

ومعنى إستيلاء المجاهدين على عاصمة ولاية هلمند ومديرياتها أنهم حققوا النصر في أهم ساحات تلك الحرب. فليس للعاصمة كابول غير قيمتها السياسية والرمزية. فسقوط المدن الصغرى والمديريات سوف يقود إلى إستسلام كابول، كما حدث في زمن الحرب السوفيتية.

فالنظام يتحلل، والجيش والشرطة يذوبان، والفساد جعل أجهزة الدولة هشيماً تذروه الرياح. إن (أم القنابل) الأمريكية هي تغطية للفشل، وهي النزع الأخير لإحتلال يلفظ أنفاسه. وليست سوى إحدى فضائح رئيس فضائحي مختل عقلياً.

ومعروف أن الغارات الجوية وكذلك القصف الصاروخي والمدفعي تكون في أعنف حالاتها فيما يسبق الهجمات العسكرية أو عند تغطية إنسحابها. والقنبلة الضخمة (أم القنابل) هي في أحد جوانبها تغطية على بحث أمريكي جدّي بالإنسحاب، خاصة وأنه بالقرب من الوقت الذي ألقيت فيه القنبلة، كان وفداً أمريكياً رفيع المستوى ـ أرسله ترامب إلى كابول ـ يبحث وضع الجنود الأمريكيين المتبقين في أفغانستان، وهم أقل قليلاً من عشرة آلاف جندي. ومفهوم أن الوفد الأمريكي كان يبحث على الأرض إمكانية الإنسحاب العسكري وتداعياته على أفغانستان وما حولها من دول.

 

4 ـ تحميل الحرب على المدنيين

هذا ما يسعى إليه العدو الأمريكي في هذه المرحلة، بعد أن تيقن من استحالة إيقاع هزيمة عسكرية بالمجاهدين. بينما حركة طالبان – طبقاً لنظام الإمارة الإسلامية- تديرالأرض المحررة وتجمعاتها السكانية. يجتهد العدو في إلقاء أوزار الحرب فوق كاهل المدنين على أمل أن يسحب هؤلاء دعمهم للمجاهدين فيطالبونهم بإنهاء الحرب بأي وسيلة وفي أسرع وقت والقبول بما يعرضه المحتلون وحكومتهم في كابول. أي الإنخراط في (عملية السلام) والإندماج في نظام الإحتلال والتكيّف مع كل موبقاته العقائدية والمادية.

القوات الأمريكية جزء من ذلك العدوان على المدنيين، وهو عمل إرهابي حقيقي، تقوم به القوات المسلحة لأقوى دولة في العالم، والأكثر نفاقاً في تاريخ البشرية.

تدّعي الحكومة الأمريكية أن مهام قواتها تقتصر على التدريب والمشورة والإمداد اللوجستي. ثم منح أوباما تلك القوات صلاحية شن الغارات الجوية والمشاركة في المداهمات الليلية على القرى وما يصحابها من عدوان همجي على المدنيين قتلاً وأسراً وتعذيباً.

ويرافق ذلك كله حفلات نهش الكلاب المتوحشة لهؤلاء المدنيين الذين يُحشدون ليلاً في ساحات القرى لتتولى الكلاب تمزيق أجساد الأحياء ونهش أجساد الشهداء. ولنا أن نتخيل مدى الرعب الذي يصاحب تلك الحفلات السادية التي يقوم بها أقوى جيوش العالم ضد قرويين عزل مع أطفالهم ونسائهم. وفي حادثة مشهورة وقعت في ولاية باكتيكا عام 2008م أطلقت القوات الأمريكية كلابها المفترسة على عائلة كاملة، حتى قتلت جميع أفرادها، في مجهود مشترك بين الكلاب المفترسة وجنود من المرضى العقليين.

كرازى ـ الرئيس وقتها ـ إشتكى لنائب الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، الذي أجابه قائلاً: (إن كلابنا لاتنهش سوى الإرهابين، فكل من نهشته كلابنا فهو إرهابي مجرم) ــ نقلاعن مجلة الصمود عدد128، ومجلة ويسا الأفغانية ــ ويلاحظ حالياً زيادة مفرطة من جانب العدو في استهداف المدنيين بدون أي مبرر عسكري أو أمني، لأن قتلهم هو هدف في حد ذاته، بل سياسه ثابتة للقوات الأجنبية والمحلية في كل مكان يعملون فيه.

على نفس خطى الجيش تسير الميليشيات، التي لا يردعها قانون أو أخلاق، بل تلاقي التشجيع من سياسة العمليات التي يتبعها العدو ويمليها على كل الأجهزة المسلحة العاملة على الأرض.

في النهاية يتلقى المدنيون كل ذلك العبء الهائل الذي يأمل العدو أن يتحول إلى ضغط على أعصاب المجاهدين فيغير من مسارهم السياسي.

واضح أن كل ذلك لم ينجح، وليس من المنتظر أن يلاقي أي حظ من النجاح. فبعد 15 عاماً من الحرب وخبرات مع الإحتلال وإدارته في كابل، تكوّن اليقين لدى الشعب أن رحيل المستعمر هو الحل الأوحد، والخطوة الأولى لتطهير البلاد من كل ذلك الظلام الذي أطبق عليها وعلى شعبها، وأن المجاهدين تحت قياده طالبان هم الأمل المنشود، الذي تجسد إلى حد كبير من خلال إدارتهم للمناطق المحررة التي يعملون فيها.

 

5 ـ “أم القنابل” بعد “أبو الفشل”

تجربة إلقاء (أم القنابل) على قرية أتشين في جلال آباد كانت عملاً يعكس شخصية الرئيس الأمريكي الجديد ترامب. فهي تجربة تجمع بمهارة بين ميزتي الرعونة والفشل. فلا هي تركت أثراً عسكرياً على مسار العمليات ولا هي أثرت على معنويات أحد من المدنيين أو المجاهدين.

فلم تكن سوى استعراضاً أحمقاً للقوة البلهاء، التي تعطي للمجاهدين أملاً أكبر في النصر مادام عدوهم على تلك الدرجة من اليأس والتخبط.

قبل ذلك جرب العدو قنبلة سياسية من العيار الثقيل، رغم أنها جربت وثبت فشلها منذ عقود، ولكنه اعتبرها إنجازاً، وذهب ليحصي تأثيرها على الشعب وحركة طالبان، فلم يحصد سوى الريح. تلك كانت قنبلة “أبو الفشل” من الطراز السياسي عديم الفاعلية. فقد انضم الزعيم التاريخي الأصولي “حكمتيار” الذي كان عنصراً ثابتاً ضمن مسببات فشل العمل الإسلامي. فقد أفشل معظم مبادرات العمل منذ أن كان طالباً في الجامعة. وأحبط أي محاولة لجمع الصف الإسلامي ضد إنقلاب “محمد داود”، ثم إنقلاب “تراقي” وصولاً إلى الغزو السوفيتي، وحكومات المنفى الأولى والثانية وحكومة “المجاهدين” التي دخلت لتحكم كابول تحت مباركة دولية وإقليمية. ولكن حكمتيار اختار الحرب الأهلية تحت نفس المظلة. ولم ينضم إلى حكومة كابول إلا رعباً من تقدم حركة طالبان وتوليها زمام الأمور. فكان انضمامه هذا إيذاناً بفشل وإنهيار الحكومة وفرار الجميع صوب حدود طاجيكستان لعبور نهر جيحون، هرباً من حكم الشريعة الذي تظاهروا بالجهاد لأجله ضد السوفييت منذ عقود.

باقي القصة معروف، إلى أن عاد حكمتيار مرة أخرى إلى أحضان نظام الإحتلال الأمريكي في كابول وسوف يكرر معه، في وقت قريب، قصة الفشل والإنهيار والفرار من قوات طالبان عندما تفتح كابول مرة أخرى بسيوف المجاهدين.

لم يؤثر انضمام حكمتيار إلى حكومة كابول في معنويات أحد، إذ كان مزحة أخرى سخيفة لا معنى لها. فالرجل دفع بمعظم كوادر حزبه إلى أحضان نظام الاحتلال منذ سنوات، وبقي وحيداً منتظراً أوامر الإنضمام بنفسه إلى ذات المنظومة. فدخلها وحيداً، في إنتظار أن يغادرها جمعاً مع كافة زملائه من “قادة الجهاد” السابقين المتكوّمين في (ظلال الإحتلال) وليس في (ظلال القرآن) التي تغنوا بها في مواجهة السوفييت.

ــ فلا “أم القنابل” نجحت، ولا “أبوالفشل” ترك أثراً يذكر. وتلك كانت أثقل الأسلحة في ترسانة العدو العسكرية والسياسية كي يمنع حركة طالبان ومجاهديها من تحرير البلاد في انتصار كامل على أرض طاهرة من كل أرجاس الإحتلال.

إن العدو يحاول شراء الوقت والبحث عن وسائل لتأخير موعد إنهياره. وقد جرّب سلاحاً آخر لم نتحدث عنه، وهوسلاح إغتيال القيادات العليا في حركة طالبان. ولكن الحركة بدلاً من أن تضعف وتنشق فإذا بها تزداد ثباتاً وحيوية، سواء في الميدان أو في مراتب القيادة العليا.

لقد فشلت الولايات المتحدة في سرقة العالم والركوب على ظهره متقمصة دور القوة الأعظم والوحيدة، وأعماها الغرور عن العمل بالحكمة الأزلية القائلة بأن أفغانستان هي مقبرة الطغاة والمتجبرين. لقد أُغشِيَت أبصارهم حتى تنفذ فيهم سهام القدر.

(والله غالب على أمره).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى