مقالات

الوطن الحبيب؛ أفغانستان (الحلقة 6)

هرات؛ تاريخ وحضارة وصناعة

محمد صادق الرافعي

 

لا يكاد يأتي ذكر أفغانستان إلا ويرتبط بها اسم ولاية هرات الواقعة غرب البلاد، والتي عرفت بحضارتها وتاريخها وصناعتها، يعرفها الناس بآثارها ومقابر أوليائها، وبدورها الكبير في اقتصاد الوطن الحبيب؛ أفغانستان، وقل من يزور أفغانستان ولم يشد الرحال إلى هرات، ولم يزر مآثرها ومفاخرها.

 

ولاية هرات تتميز بموقع جغرافي مهم، حيث تقع على الحدود في منطقة التقاء أفغانستان بإيران وتركمانستان، واللذين يعتبران من الدول النامية الغنية بالثروات الطبيعة، وتعتبر أفغانستان كالجسر بينهما، وهذا الجسر هو ولاية هرات التاريخية، مما يجعل لها دورًا واعدًا في تنمية أفغانستان الاقتصادية والتجارية، الأمر الذي أهمله الحكام السابقون ولم يلقوا إليه بالًا، فخسرت أفغانستان فرصة ذهبية في وقت كانت قد ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وتكالبت عليها المشاكل المختلفة من كل حدب وصوب.

 

رأيتُ مدينة هرات؛ المدينة المزدحمة ذات الشوارع الواسعة والنظيفة في معظم مناطقها، مدينة جمعت بين الجمال والروعة، وبين الحضارة والصناعة، وبين الجديد والقديم، المدينة الرائدة في الصناعة والتجارة بالبلاد، موقعها الجغرافي زادها أهمية وعظمة، ووقعت محل اهتمام أكثر الدول بما فيها الدول المجاورة، وهي ثالث أكبر مدينة في البلاد، والتي تتميز باقتصاد قوي، جعل منها مرتكز ترتكز عليه أفغانستان في اقتصادها.

 

ويرجع تاريخ هذه الولاية إلى العصور الوسطى، وكانت من أهم العواصم الـ12 للامبراطورية الساسانية في خمسينيات القرن السادس الميلادي، وفتحها المسلمون في القرن التاسع الميلادي، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عام 22 هجري، بقيادة الأحنف بن قيس التميمي، فأصبح الدين الإسلامي هو الدين المسيطر فيها.

وفي عام 1221 ميلادي وقعت المدينة تحت سيطرة المغول، وحينها قاموا بتدمير أراضيها.

وفي عام 1380 ميلادي وقعت المدينة تحت حكم تيمورلنك، وعاشت مدينة هرات خلال فترة حكم الامبراطورية التيمورية في أفضل حالاتها، وتم نقل العاصمة التيمورية من مدينة سمرقند إلى مدينة هرات، حيث ازدهر حينها العلم والثقافة فيها، وكانت -فيما مضى- مركزًا تجاريًا عظيمًا يتمتع بموقع استراتيجي على طريق التجارة من البحر الأبيض المتوسط إلى الهند أو إلى الصين، وقد اشتهرت المدينة بصناعة المنسوجات في عهد الخلافة العباسية، حسب مراجع عديدة للجغرافيين.

وقد وصفها الاصطخري وابن حوقل في القرن العاشر “بأنها مدينة مزدهرة محاطة بأسوار قوية مع وفرة من مصادر المياه وضواحي واسعة وقلعة داخلية ومسجد جامع و4 أبواب، كل بوابة تفتح على سوق مزدهر”.

 

هذا وقد أعلنت اليونسكو في 2021 إدراج مدينة هرات ضمن مواقع التراث العالمي؛ بسبب تاريخها الحافل ومآذنها وقلعة اختيار الدين، وبُنيت معظم هذه الآثار التاريخية في القرن 15 الميلادي برعاية جوهر شاد زوجة الملك شاه روخ خان.

وهي المدينة التي تمرد الجنود الأفغان فيها ضد الحكومة الشيوعية في عام 1979 ميلادي، واستشهد عدد كبير منهم، الأمر الذي دفع الاتحاد السوفيتي إلى غزو أفغانستان.

 

وصلتُ إلى مدينة هرات عند الساعة الثانية عشر ليلًا، ليلة التاسع والعشرين من رمضان المبارك، حيث كان الناس يستعدون ليوم العيد وكانت الأسواق مكتظة بالناس وبالسيارات والدراجات، وكأن الليل أصبح نهارًا، وثوب الأمن يحيط بالمدينة في الأيام التي كانت تعتبر -فيما مضى- من أخطر الأيام أمنيًا؛ أيام رمضان وأيام العيد، ولكن رأيت الوضع فيها عاديًا مثل سائر الأيام، ورأيت الناس يبيعون ويشترون، وكانت مدينة هرات قبل عودة الإمارة الإسلامية إلى رأس الحكم تعيش مثل كثير من مدن أفغانستان الكبرى تحديات عديدة مثل السرقة والمشاكل الأمنية والاختطاف والعنف والظلم بحق النساء والأطفال، وتحديات أخرى، ولكنها اليوم -بعد سيطرة الإمارة الإسلامية- تحسّنت في مختلف المجالات وتقلصت التحديات بشكل ملحوظ، ولاقت جهود المسؤولين ترحيبًا واسعًا من سكان المدينة.

 

و مما لا بد أن نشير إليه، أن ولاية هرات هي الرائدة  في قطاع المدن الصناعية على مستوى أفغانستان، حيث تزخر بالمدن الصناعية في القطاعات المختلفة. وعندما تغادر مدينة هرات إلى ولاية فراه، تجد على حافتي الطريق سلسلة من المدن الصناعية المختلفة، منحت المدينة روعة وجمالًا، وأملًا وانتعاشًا، وأحيت في المواطن الأفغاني شعورًا لا يوصف، وحبًّا لا يُحكى، وأثارت في قلبه نوعًا من الطرب والارتياح، في بلد استعاد أمنه واستقلاله، وانتعش مرة أخرى، طالباً التقدم والتعاظم في مختلف المجالات، تحت مظلة الأمن والاستقرار، الذي تحقق بسواعد أبنائه المخلصين.

 

ومما زادنا فرحًا وسرورًا أن وتيرة إنشاء المدن الصناعية في مختلف الولايات تسارعت بعد عودة الإمارة الإسلامية،  وتم تخصيص الأراضي لإنشاء هذه المدن بمرسوم من أمير المؤمنين -حفظه الله- وكان هذا الأمر محل اهتمام رجال الإمارة الإسلامية. وبإنشاء هذه المدن من المتوقع أن تتوفر فرص عمل كثيرة للمواطنين العاطلين وتتقلص معدلات البطالة في البلاد.

 

وولاية هرات من مركزها إلى مقاطعاتها، كما أنها جمعت بين الحضارة والصناعة، وبين القديم والحديث، فقد جمعت بين أناس من مختلف العرقيات، تألفت القلوب فيها، وتقاربت الآراء والأفكار، وها هي اليوم ستصبح -بإذن الله- نقطة البداية للنهوض بالبلاد إلى التقدم والتنمية والتطور، بجهود أبنائها وإرادة شعبها، حيث وقع مشروع “تابي” الكبير فيها، والذي عند اكتماله ستتحول البلاد في الاقتصاد، وستأتي ثورة في معيشة الناس وقفزة اقتصادية قيمة.

 

وسنشير -بتوفيق الله- في الحلقة الآتية إلى مواردها الطبيعية ومواهبها الإلهية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى