الوطن الحبيب؛ أفغانستان (3): من نيمروز إلى كابول
محمد صادق الرافعي
بعد أسبوع أقمت في زرنج، عاصمة ولاية نيمروز. انطلقت في الساعة العاشرة ليلا إلى كابول، عاصمة البلاد، وكنت أحب أن أتحرك نهارًا لكي أرى مديرية خاشرود، ودلارام، وولاية هلمند، وقندهار، ولكن من سوء الحظ لم أوفق لذلك، فعبرت هذه المناطق في الليل البهيم. وعند انبلاج الفجر ألفينا أنفسنا على مخرج ولاية قندهار، وأبقيت الكتابة عن هاتين الولايتين لحلقة خاصة، إذ أنهما عانتا خسارة كبيرة بالنسبة إلى الولايات الأخرى، ولعبتا دورًا كبيرًا في الحرب، ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، وسمعنا عنهما كثيرًا عبر الأخبار زمن الحرب والاحتلال، فيبقى حقا أن نكتب فيهما وسنكتب عنهما بإذن الله.
صلينا الفجر على مدخل ولاية زابل، فوقع بصرنا على المياه الجارية على حافتي الطريق، وعلى مزارع القمح التي غطت الطريق يمينًا وشمالًا، وكلما ذهبنا أبعد، تضاءلت حقول القمح على الجانب الأيسر، وحلّت محلها التلال الخضراء؛ لأنه كان فصل الربيع، ولكن الجانب الأيمن من الطريق كانت حقول القمح ومياه الأنهار لا تزال تغطيه. وحین دخلنا مدینة زابل، مركز الولاية؛ بدت على الجانب الأيمن من الطريق حقول الكروم الخضراء على حافة الأنهار على مدى البصر، وكذلك على الجانب الأيسر من الطريق ولكن بشكل أقل، فالجانب الأيسر كان يشكل الكروم والتلال الخضراء، والتي نرى الماشية ترعى فيها، وكان منظرًا جميلا، ومرأى خلّابا، وهيئة أخّاذة، وجمالًا ساحرًا، وكانت التلال والجبال وراء هذه الخضرة تمنع البصر من أن يبصر شيئًا آخر ومنطقة أخرى.
وولاية زابل هذه تقع جنوب البلد، وتحدها باکستان جنوبًا، وغزنة شمالا، وقندهار غربًا، وبكتيا شرقًا، وعاصمتها: مدينة قلات. وكانت ولاية زابل من مديريات قندهار، ولكنها في عام ١٩٦٣ استقلت عن قندهار وأصبحت ولاية مستقلة. ولها اثنتا عشرة مديرية وهي: قلات وأرغنداب وخاك أفغان واتغر وميزان ودايشوبان وشاجوی وشمولزي وشينكي وترنك وجلدك وكاكر.
وتعد من أهم ولايات البلاد الغنية بمحاصيلها المهمة في مجال الزراعة، وحسب تتبعي الأخبار؛ فقد قررت إمارة أفغانستان الإسلامية أخيرًا تدشين مدينة صناعية فيها لتعزيز الاقتصاد وتنمية التجارة. وهو قرار مهم نأمل أن يدخل حيز العمل والإنتاج فيحسن القطاع الاقتصادي.
ويوفر نهران دائمان هما: (أرغانداب) و(تارناك)، المياه اللازمة لأجزاء من الولاية في مقاطعتي دايشوبان وقلات. كما توفر الكريز التقليدية والعديد من الأنهار الموسمية التي تتدفق في الغالب في فصلي الربيع والشتاء، جزءًا من المياه في مقاطعة زابل.
ولما عبرنا هذه المنطقة الخضراء الخلابة بمياهها وحقولها وتلالها وجبالها وساكنيها المشتغلين، ابتعدت الجبال والتلال عن أنظارنا، وابتعد عنا الملل والكلل، رغم السفر الطويل، وبدت منطقة واسعة خضراء فلفتت انتباهنا خیام صغيرة غير مرتبة في هذه المنطقة الواسعة، فإذا هي خيام البدو الذين يقيمون نصف السنة في منازلهم، ونصفها الآخر في السهول الخضراء، ويرعون الغنم والماشية، فيذكّرنا هذا المنظر الأخّاذ بالآية الكريمة: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). [سورة النحل:۸۰ و۸۱].
فنحن إذ نعبر الطريق، نرى كل هذه النعم الجميلة والمناظر الإلهية وبيوت الناس يوم ظعنهم ويوم إقامتهم. ومعظم أهالي زابل هم من المزارعين ومربي الماشية. فكثير من الشعب الأفغاني يعيشون بهذا الشكل التقليدي، مشتغلين برعي الغنم والماشية، ولهم قسط كبير في تحريك اقتصاد البلاد، وهم لا شك مفتقرون إلى الدعم الحكومي في تواصل أعمالهم التقليدية والإنتاجية، فدعمهم يساعد البلاد في قطاع إنتاج اللحوم والألبان، وما أشار إليه الله جل جلاله من إنتاج الأصواف والأوبار والأشعار؛ أثاثا ومتاعا للشعب.
يعد القمح والشعير والذرة واللوز والعنب من المنتجات الزراعية الرئيسية في هذه الولاية. وكان لها -مثل ولاية قندهار وهلمند- دور كبير في الحرب ضد الاحتلال الأمريكي القاتم.
ويبدو أنّ بين ولاية زابل وولاية غزني سهول واسعة مشتركة، قابلة للزراعة بالتقنيات الحديثة، مما سيوفر فرص عمل للعاطلين ولمن يعيشون في هذه المناطق.
ومع الأسف الشديد، الطريق الذي يعتبر طريقًا رئيسيًا کان سيئًا، ولم تكن الحافلة قادرة على التحرك حتی بسرعة معتدلة، بل كانت تتحرك فقط على السرعة الثانية أو الثالثة، وکانت الفرامل تعمل أكثر من أي شيء آخر في سيرنا هذا، وقطعنا مسافة كان ينبغي قطعها في عشر ساعات؛ في عشرين ساعة أو أكثر.
وبعد ساعات، وصلنا إلى مدينة غزني أو غزنة التاريخية الشهيرة، فهي مدينة قديمة جدًا وشهدت غزوات عسكرية كثيرة. كما كانت من أهم مراكز الثقافة والآداب في العالم الإسلامي. وإليها نُسب جماعة من العلماء، وتعتبر من أقدم المدن الإسلامية، وتقع جنوب غرب العاصمة كابول. تأسست في وقت ما في العصور القديمة كمدينة صغيرة، وذكرها بطليموس في القرن السادس قبل الميلاد، وكانت غزنة مركزا بوذيا نشطا حتى القرن السابع الميلادي إلى أن جلبت الجيوش العربية الإسلام إلى المنطقة، وأصبحت لاحقا عاصمة الإمبراطورية الغزنوية التي شملت شمال الهند وبلاد فارس وآسيا الوسطى. وفي وقت لاحق في هذه الفترة تم تدميرها ككثير من المدن الإسلامية من قبل جيوش جنكيز خان المغول بقيادة ابنه أوقطاي خان. وتم تدمير غزنة مرة أخرى من قبل القوات البريطانية الهندية، واقتحمت قلعة غزنة خلال معركة غزنة.
في العقود الأولى من القرن الحادي عشر الميلادي، كانت غزنة أهم مركز للأدب الفارسي. وكان هذا نتيجة للسياسة الثقافية للسلطان محمود (حكم 998-1030)، الذي جمع حلقة من العلماء والفلاسفة والشعراء حوله. زارها الرحالة الشهير ابن بطوطة في عام 1333 ميلاديا.
تشتهر غزني بـمناراتها التي بُنيت علی شکل کوکبي، ويرجع تاريخها إلی منتصف القرن الثاني عشر، وهي بمثابة معالم سرمدية والتي تجسّد مسجد بهرام شاه. واشتهرت غزنة بمعمارها الفخم، ومآذنها وأبراجها ذات الطراز المعماري المميز. وعلى الرغم من الدمار الذي أصاب المدينة جراء الحروب في الحقب المختلفة وعوامل التعرية البيئية، ظل برجان يعرفان ببرجا النصر شامخان وسط المدينة لأكثر من ثمانية قرون، وتم بناؤهما بيد محمود الغزنوي ونجله. وتحتضن غزنة مقبرة السلطان محمود، ومقابر أخری للشعراء والعلماء، مثل: أبو ريحان البيروني وحکيم سنائي، وتحتضن آثار حضارية مدمرة ترسم الشکل المعماري التقليدي للإقليم.
وكانت المنظمة الإسلامية للعلوم والتربية والثقافة “إيسيسكو” أعلنت غزنة عاصمة للثقافة الإسلامية في عام 2013م.
وعلى الرغم من ذلك، ظلت المباني التاريخية في غزنة بعيدة عن متناول السياح جراء الحرب الدائرة في أفغانستان. ونأمل توفر الأسباب اللازمة لجلب السياحين إلى هذه المدينة العريقة الشهيرة بعد أن تحررت البلاد.
وعلى كل حال، مرت الحافلة من الطريق الرئيسي في مدينة غزني والذي يقع على حافة المدينة، والتفتنا فيه يمينا وشمالا ولم يقدر لنا المكث فيها ورؤية جمالها وكمالها، وقد غلب عليّ النوم لشدة السآمة الناشئة من طول الرحلة وصعوبة المرور ودوام الجلوس على مقاعد الحافلة. وحين كانت الحافة تخرج من المدينة، وقع بصري على لافتة تشير إلى أن مائة وعشرين كيلومترا بقيت نحو كابول.
ومما يشكل علينا الأمر وعلى من يريد السياحة في أفغانستان، هي قلة اللافتات، وعدم وجود علامات وإشارات مرورية على الطرق، إلى جانب عدم وجود شرطة الطريق، ومشكلات الطريق نفسه، مما أدى إلى وقوع حوادث سير وخسائر في الأرواح، خاصة بعد الأمن الشامل الذي ساد البلاد بعد عودة الإمارة الإسلامية إلى الحكم؛ حيث صار الليل كالنهار ويجري فيهما السير على حد سواء. وعدم وجود الشرطة إلى جانب انعدام العلامات والخطوط سيؤدي إلى خسائر فادحة في الأنفس والأموال، لاسيما وأننا نسمع أخبارا إيجابية في تعبيد الطرق وتسويتها، فهي كما تسرنا من جانب فهي تسؤنا من جانب آخر؛ إذ نجد السائقين لا يلتزمون بالسرعة القانونية وعدم حضور شرطة للمرور، يزيدنا أسفا وألما.
بعد ساعتين أو أكثر، عبرنا ولاية ميدان وردك التي تعتبر ولاية جديدة ومتصلة بولاية كابل وتبدو كأنها مديرية من مديريات العاصمة، فعبرناها ومررنا بها وبولايات أخرى قبلها، حتى وصلنا في الساعة الثالثة ظهرا إلى قلب البلاد ونبض حركتها وحضارتها؛ كابل الحبيبة الصامدة الشاهدة لحكومات وصراعات مختلفة.