
انفصال علماء الدين عن الحكم وتبعاته الخطيرة
أبوسلمان
مما يؤلمنا ويؤلم المسلمين ويؤثر في مصيرهم دينيًا وثقافيًا وفكريًا أن علماء الدين، بعد أن كانوا في ميادين الجهاد والكفاح والانتصار، أسلموا مقاليد الحكم إلى غيرهم، ورجعوا إلى حجرات التدريس والمطالعة، معتقدين أنهم ما خلقوا إلا للتدريس والتعليم، فحكمهم الجهلة والسفهاء، فدمروا عليهم مدارسهم ومساجدهم، واضعين أيديهم في يد الاستعمار، فجاءت فظائعهم ومجازرهم أشنع وأبشع مما ارتكب الاستعمار، والشواهد كثيرة.
ومما زاد الطين بلة أن عامة الناس وكثيرًا من المثقفين الإسلاميين على هذه الفكرة؛ يعتقدون أن دور علماء الدين منحصر في التدريس والدراسة، أو في احتفالات الزواج أو مراسم العزاء، وأنهم ليسوا أكفاء للحكم والسياسة.
كان رسولنا ﷺ عالمًا، بل هو سيد العلماء كما كان سيد الأنبياء، فحكم ودبّر وخاض في السياسة في ثوبها الجديد، فجاء بما لم يأتِ به البشر في الحكم والسياسة.
وكان الخلفاء الراشدون في نفس الوقت علماء سياسيين، فدين الإسلام شامل لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في الدنيا والآخرة، ولم يكن محصورًا في المساجد والبيوت. ألم يحكم النبي سليمان ﵇ العالم؟ ألم يحكم النبي يوسف ﵇ مصر؟
جاء في التاريخ أن علماء مصر لما تم لهم الانتصار في مواجهة نابليون الفرنسي، أسلموا قيادة مصر إلى ضابط تركي اسمه محمد علي باشا، فغدر بهم ونفى بعضهم، وتقرب إليه قناصل الاستعمار، وأصبحوا خاصته وبطانته فأكملوا بسيفه وخيانته ما عجزت عنه حملة فرنسا، ودمر النهضة الإسلامية بشكل لم يستطعه نابليون الفرنسي بجيشه.
ولدى خروج المستعمر من بلاد المسلمين سلم مقاليد الأمور إلى أصحاب الولايات المختلفة، ففي الهند التي حكمها المسلمون عشرة قرون، وعملوا سنين طويلة على طرد المستعمر وبذلوا في ذلك الغالي والنفيس، لما تحقق الاستقلال عام ١٩٤٧م أسلم الإنجليز مقاليد السياسة والجيش والتعليم إلى الهندوس ليبدأ هؤلاء في إذلال وتجهيل المسلمين.
وفي عام ١٩٤٨م أعطى الإنجليز أرض فلسطين للعصابات اليهودية ليؤسسوا ما يُسمى اليوم بدولة إسرائيل، فيما ألحقت زنجبار المسلمة بدولة تنزانيا النصرانية.
و لمَ نذهب بعيدًا؟! فقد ابتلي علماء الدين والشعب الأفغاني في أفغانستان بهذه الداهية، حيث شاهدنا القصف على مدارسنا ومساجدنا حين حكمتها الجمهورية العلمانية، والتي تحمل اسم الإسلام ولا أثر فيها من أحكامه ولا احترام لشعائره.
وأصل القضية يعود إلى فكرة فاسدة تقول بأن الدين يقيّد المجتمع عن التقدم، ولهذا نجد كثيراً ممن يُسمَّون بـ”التنويريين” ينتقدون الموروث الديني ويعتبرونه مسؤولاً عن التخلف الإسلامي اليوم!
بينما في الحقيقة، الدين بريء مما وصل إليه حال المسلمون اليوم من انحطاط سياسي واقتصادي وعسكري.
وليبرهن هؤلاء على صحة معتقدهم، يقارنون حال المسلمين بحال أوروبا، وويجعلون ما حدث في أوروبا من فصل السياسة عن الدين الذي كان -بزعمهم- مانعًا عن التقدم والحضارة؛ سبباً لتقدم أوروبا، فلولا الانفصال عن الكنيسة -على حد زعمهم- لما حدث التقدم في الغرب على كل الأصعدة. وعلى هذا فهم يزعمون أنه لا يمكن أن يتقدم المسلمون سياسياً وفكرياً وثقافياً وصناعياً وتكنولوجيًا وعلميًا إلا إذا انفصلوا عن تاريخهم وتراثهم الديني، وحينها -حسب تصورهم- سينطلق المسلمون إلى الحداثة ويلحقوا بركب العالم المتطور!
لكن هناك فرقاً شاسعاً بين الحالتين يتجاهله هؤلاء، فالكنيسة الغربية كانت الحاكمة بأمرها في كل شيء قبل انبثاق عصر التنوير الذي قضى على الحكم الكنسي، وحرر أوروبا من ربقة النظام الديني، فتطورت وازدهرت وسيطرت على العالم. أما في الحالة الإسلامية فإن عصور الازدهار سادت إبان الحكم الإسلامي، فكل الإنجازات العلمية التي حققها المسلمون جاءت أيام كان المسلمون يحكمون باسم الدين، ومن دون الخوض في تفاصيل تاريخية، فإن هذه الحقيقة لا تحتاج إلى إيضاح ولا إلى جدل وأخذ ورد. ثم لا شك أن «التنويريين» يعلمون جيداً أن الغرب فيما بعد استفاد استفادة عظيمة من أفكار واكتشافات واختراعات العلماء المسلمين الذين وضعوا أسس العديد من العلوم والتكنولوجيا الحديثة قبل الأوربيين بمئات السنين.
وما إن تلاشت الفترة (الإسلامية) الذهبية في تاريخ المسلمين حتى تحولوا إلى مِلل ونِحَل ودويلات متناحرة، وصاروا لقمة سائغة للمستعمرين الأوروبيين وغيرهم.
وللتعرف على ذلك، يكفي فقط الاطلاع على كتابات الباحث البريطاني (بول فاليلي) وإحداها بعنوان: «كيف غير المخترعون المسلمون وجه التاريخ؟». والسؤال الموجه للتنويرين: لماذا لم يقف الدين عائقاً أمام التطور الإسلامي في الماضي على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والعلمية؟
ولتأييد ما يزعمونه؛ استدلّوا بالأنظمة التي ابتُلينا بها منذ رحيل المستعمر في بلدان المسلمين، وأنها أنظمة دينية، ولذلك -حسب زعمهم- تخلفنا عن ركب التطور، ووقف الدين عائقًا أمام انطلاقنا. ولكن الحقيقة واضحة تمامًا، فهذه الأنظمة ليست أنظمة إسلامية حقيقية وإنما هي تحمل اسم الإسلام، وكثير منها أنظمة طاغوتية، واستبدادية، أو أنظمة عسكرية أو عائلية لا علاقة لها بالدين مطلقاً، وإذا كانت تتدثر أحياناً بثوب ديني، فليس لأنها تحكم على أسس دينية، بل لتستغل الدين لأغراض سياسية.
كفى سنوات طويلة من التيه والسير عكس الاتجاه، فلابد من الصحوة واليقظة في هذا المجال، فعندما تجاهل العلماء الحكم والسياسة؛ تحكّم بهم السلاطين الجهلة واستغلوهم فصاروا على أبواب السلاطين فضلوا وأضلوا، وكلما تصفحنا أوراق التاريخ نجد المسلمين على مستوى عال من التقدم والتنمية والحضارة عندما حكمهم الإسلام، وحين حكمهم العلماء أو من كانوا تحت إشراف العلماء، فالمسلمون حين ذلك كانوا أمة واحدة.
ربما من الجيد أن يتم تدريس السياسة الإسلامية في المدارس الدينية، وأن توضع كمادة أساسية في النظام الدراسي، ليكون الطلاب على علم بما جرى ويجري في عالم السياسة، وأن لا يتقدموا دون صحوة ويقظة.
لقد كان ابتعاد علماء الدين عن الحكم والسياسة، ضربة قاضية على الأمة الإسلامية، وفتح الأبواب لغيرهم ممن حكموا وظلموا وشوّهوا اسم الدين، وجعلوا منه سلمًا للوصول إلى مقاصدهم وأطماعهم، فالفراغ أينما وُجد ملأه الآخرون، شئنا أم أبينا.