مقالات الأعداد السابقة

اﻹﺳﻼم رﺳﺎلة اﻟﻬﺪى واﻟﺴﻼم

منصور الرحمن الغزنوي

 

حمل اﻹﺳﻼم المنار الهادي، ورﻓﻊ ﻣﺴﺘﻮى اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، وأﻋﻠﻰ اﻟﻨﻔﻮس إلى أرﻓﻊ درﺟﺎت اﻟﻌﺰ واﻟﻜﺮاﻣﺔ، وحاز المجد ﻷﻫﻠﻪ ﻣﻦ اﻷﻃﺮاف، وﻣﻨﺤﻪ دﺳﺘﻮرًا ﻣﻮاﻓﻘًﺎ ﻟﻠﻔﻄﺮة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، وأﻗﺎﻣﻪ في ﺻﻒ ﻣﻦ جمع في ﻧﻔﺴﻪ ﺻﻔﺎت اﻟﻜﻤﺎل اﻹﻧﺴاني والخلقي و…

وﺟﻌﻞ اﻟﻨﺎس ﻋﻠﻰ ﻛﻠﻤﺔ واﺣﺪة، وﻗﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻗﺒﻠﻪ في ﺑﻴﺌﺔ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﻴﺎدة ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻠﺠﻬﺎﻟﺔ، وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﻠﻈﻠﻢ واﻟﻌﺪوان، وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﻠﻄﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻠﺠﻮر واﻟﻄﻐﻴﺎن، ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺌﺪون اﻟﺒﻨﺎت ﺧﺸﻴﺔ اﻟﻌﺎر واﻹﻧﻔﺎق، وﻳﻘﺘﻠﻮن اﻷوﻻد ﺧﺸﻴﺔ اﻟﻔﻘﺮ واﻹﻣﻼق. ﻳﺒﻴﻌﻮن الحراﺋﺮ واﻷﺣﺮار، وﻳﻘﺘﺘﻠﻮن في ﺳﺒﻴﻞ الحمية الجاهلية واﻟﺸﺮاﻓﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ، لها ﻳﻌﻴﺸﻮن وفي ﺳﺒﻴﻠﻬﺎ يموﺗﻮن، يحلون الميتة واﻟﺪم ولحم الخنزير وﻣﺎ أﻫﻞ لغير ﷲ ﺑﻪ، ويحرﻣﻮن ﻣﺎ أﺣﻞ ﷲ لهم.

ﻳﻌﺒﺪون اﻷﺻﻨﺎم، وﻳﺴﺘﻌﻴﻨﻮن ﺑﺎﻷوﺛﺎن. ﻫﻜﺬا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺮب التي ﻟﻴﺴﺖ لها دﻳﺎﻧﺔ سماوية، وأﻣّﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺰون إلى اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت، ﻓﻘﺪ أﻣﺴﺖ دياناتهم ﻓﺮﻳﺴﺔ اﻟﻌﺎبثين والمتلاعبين وﻟﻌﺒﺔ المحرفين والمنافقين حتى ﻓﻘﺪت روﺣﻬﺎ وﺷﻜﻠﻬﺎ، ﻓﺸﺎء ﷲ أن ﻳﻔﻴﺾ أﻫﻞ اﻷرض بالرحمة، وﻳﻐﻤﺮﻫﻢ ﺑﺎﻟﻨﻌﻤﺔ، ﻓﺒﻌﺚ إﻟﻴﻬﻢ رﺳﻮﻻ ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻳﺘﻠﻮ ﻋﻠﻴﻬﻢ آﻳﺎﺗﻪ وﻳﺰﻛﻴﻬﻢ وﻳﻌﻠﻤﻬﻢ اﻟﻜﺘﺎب والحكمة؛ ﻟﻴﺨﺮﺟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻈﻠﻤﺎت إلى النور، وﻳﻬﺪﻳﻬم إلى ﺻﺮاط ﻣﺴﺘﻘﻴﻢ.

ﻧﺸﺄ النبي – ﺻﻠﻰ ﷲ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ- في ﻫﺬﻩ اﻟﺒﻴﺌﺔ التي اﺷﺘﻬﺮت ﺑﺪﻧﺎﺳﺘﻬﺎ ودﻧﺎﺋﺘﻬﺎ، وﻟﻜﻦ ﷲ ﺣﻔﻈﻪ ﻣﻦ أﻗﺬارﻫﺎ، وطهرﻩ ﻣﻦ دﻧﺴﻬﺎ، وزﻛّﺎﻩ ﻣﻦ أوﺳﺎﺧﻬﺎ، فترعرع ﻫﺬا اﻟﻮﻟﺪ اﻟﻨﺠﻴﺐ ﻣﺘﺤﻠﻴﺎ بمكارم الأخلاق، متّصفا بكل فضيلة، بعيدًا ﻋﻦ ﻛﻞ ﻧﻘﻴﺼﺔ إلى أن تمّ ﻟﻪ اﻷرﺑﻌﻮن ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺮ، وﺑﻠﻎ ﻏﺎﻳﺔ واﻟﺮﺷﺪ، وﻗﺪ اﺷﺘﻬﺮ ﺑﺼﺪاﻗﺘﻪ في اﻟﻘﻮل، وعظمته في اﻷﻣﺎﻧﺔ، وﻛﺮاﻣﺘﻪ في اﻷﺧﻼق، ورﺟﺎﺣﺘﻪ في اﻟﻌﻘﻞ، وﻋﺮف بين أوﺳﺎط اﻟﻨﺎس ﺑﻌﻠﻮ ﻣﺮﺗﺒﺘﻪ وﻋﻈﻴﻢ ﺷﺄﻧﻪ وﺟﻠﻴﻞ ﻗﺪرﻩ، وﻳﻌﺪون ﻗﻮﻟﻪ دونهم ﻓﺼﻞ الخطاب وﻳﻨﺰﻟﻮﻧﻪ ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﻨﺰﻟﺔ اﻟﺴﺎدة واﻷﺷﺮاف.

ﺑﺪأ النبي – ﺻﻠﻰ ﷲ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ – يظهر دعوته سرًّا ﻋﻠﻰ أﻫﻞ ﺑﻴﺘﻪ ﻓﺄﻟﺼﻖ اﻟﻨﺎس ﺑﻪ، وأﺻﺪﻗﺎﺋﻪ، ودﻋﺎﻫﻢ إلى اﻹﺳﻼم، ودﻋﺎ إلى رﺳﺎﻟﺘﻪ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺗﻮﺳﻢ ﻓﻴﻪ خيرا، ﻓﺄﻣﺮﻩ ﷲ ﻗﺎﺋﻼ: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ﺑﺎﻹﺟﻬﺎر في دﻋﻮﺗﻪ، ﺑﻌﺪﻣﺎ نجحت محاوﻻﺗﻪ في ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺪﻋﻮة إليها سرا، ﻓﺨﺮج ﻣﺘﻮﺟﻬﺎ نحو اﻟﺼﻔﺎ، وﻧﺎدى اﻟﻨﺎس إﻟﻴﻪ. ﻓﺎﺟﺘﻤﻌﻮا ﻟﻪ وﻗﺎل – ﺻﻠﻰ ﷲ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ -: إن اﻟﺮاﺋﺪ ﻻ ﻳﻜﺬب أﻫﻠﻪ، وﷲ اﻟﺬي ﻻ إﻟﻪ إﻻ ﻫﻮ، إني رﺳﻮل ﷲ إﻟﻴﻜﻢ ﺧﺎﺻﺔ وإلى اﻟﻨﺎس ﻋﺎﻣﺔ… ﻓﻤﻦ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ لبى ﺑﺪﻋﻮﺗﻪ، وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ أﻧﻜﺮ، وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻗﺪم أﻏﻠﻰ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﻦ اﻟﻨﻔﺲ وغيرها في ﺳﺒﻴﻞ الحفاظ ﻋﻠﻴﻪ وﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺟﺎء ﺑﻪ واﻟﺬود ﻋﻨﻬﻤﺎ، وﻗﺎﻣﻮا ﻟﻪ ﻛﺎﻟﺒﻨﻴﺎن المرﺻﻮص، وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﺳﻠﻚ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺴﻌﻲ ﻟﺘﺨﺒﻴﺐ أﻣﺎﻟﻪ وإﺣﺒﺎط محاولاﺗﻪ.

ﻛﺎن أُس اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ المحمدﻳﺔ – ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم- ﻗﺎﺋﻤﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ الإلهية وﻋﻠﻰ إﺧﺮاج ﻣﻦ ﺷﺎء ﻣﻦ ﻋﺒﺎدة اﻟﻌﺒﺎد إلى ﻋﺒﺎدة ﷲ، وﻣﻦ ﺿﻴﻖ اﻟﺪنيا إلى ﺳﻌﺘﻬﺎ وﻣﻦ ﺟﻮر اﻷدﻳﺎن إلى ﻋﺪل اﻹﺳﻼم. وﻛﺎﻧﺖ رﺳﺎﻟﺔ أحيت اﻟﻘﻠﺐ ﺑﺎﻹيمان، وﻧﻮّرت اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ، وأﻛﺮﻣﺖ اﻟﻨﺎس ﺑﺎلحرية والحضارة، وﻫﺬﺑﺖ اﻟﺒﺸﺮ، وسنت ﺳﻨﻦ اﻟﺮأﻓﺔ، وﺷﺮﻋﺖ ﺷﺮاﺋﻊ اﻟﻌﺪل، وبيّنت أﺻﻮل اﻷﺧﻼق، وﺣﺮﻣﺖ الخباﺋﺚ، ووﺿﻌﺖ ﺣﺪودًا تمنع ﻣﻦ ﻃﻐﻴﺎن اﻟﻨﻔﻮس، ورسمت أﺻﻮﻻ ﻟﻠﻨﻈﻢ الاﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﺘﻨﺴﻴﻖ الجاﻣﻌﻲ، وأﻣﺮت ﺑﻨﺼﺮة اﻷخ ظالما أو ﻣﻈﻠﻮﻣًﺎ، حتى وﺻﻠﺖ بين اﻟﻌﺒﺪ ورﺑﻪ، ولم تجعل ﻷﺣﺪ ﻓﻀﻼ ﻋﻠﻰ آﺧﺮ إﻻ ﺑﺎﻟﺘﻘﻮى، ولم ﺗﻔﺮق الملك ﻣﻦ اﻟﺼﻌﻠﻮك، ولم تميز اﻷﺳﻮد ﻣﻦ اﻷﺑﻴﺾ، ولم ﺗﻔﻀﻞ اﻟﻌﺮبي ﻋﻠﻰ ﻋﺠﻤﻲ، ﻓﻜﺎﻧﺖ رﺳﺎﻟﺘﻪ ﺻﻔﻮة رﺳﺎﺋﻞ المتقدمين، وﺧﻼﺻﺔ أدﻳﺎن الأولين.

ﻗﺪ رأى اﻟﻨﺎس ﻫﺬﻩ رﺳﺎﻟﺔ تحمل ﻣﻌﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﺴﻮﻗﻬﻢ إلى ﻣﻨﺎﻓﻌﻬﻢ، وﻳﺪﻓﻌﻬﻢ ﻋﻦ مضرتهم، ورأوﻫﺎ خير اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ المتقدمة وأﻓﻀﻠﻬﺎ، ﻓﺎﻋﺘﻨﻘﻮﻫﺎ وﻣﻀﻮا ﻳﻔﺮﺿﻮنها دﻳﻨﺎ، وحملوﻫﺎ إلى أﻛﻨﺎف المعمورة؛ ﻓﻤﻦ أﺟﻞ ذﻟﻚ اﺳﺘﺨﻠﻔﻬﻢ ﷲ في اﻷرض، ومكّن لهم دﻳﻨﻬﻢ اﻟﺬي ارﺗﻀﻰ لهم، وبدّلهم ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﺧﻮﻓﻬﻢ أﻣﻨﺎ؛ إﻳﻔﺎء ﻟﻮﻋﺪﻩ اﻟﺬي وﻋﺪﻩ إﻳﺎﻫﻢ، فوسع لهم في ﻋﻴﺸﻬﻢ، وﺗﻮاﻟﺖ لهم اﻟﻔﺘﻮح، حتى ﻣﻠﻜﻮا اﻷرض ﻣﻦ ﺑﺮاري إﻓﺮﻳﻘﻴﺎ إلى ﺳﻔﻮح اﻟﻘﻔﻘﺎز، وﻣﻦ رﻳﺎض اﻟﻘﺪس إلى ﺟﺒﺎل اﻷﻓﻐﺎن، وأﺿﺤﻮا ﻣﻠﻮك اﻟﻔﺎرس واﻟﺮوﻣﺎن، وأﻣﺴﻰ اﻟﻜﻔﺮ يخضع لأسمائهم ويرتجف ﻟﺘﺬﻛﺮتهم.

إن اﻷﻣﺔ التي أﺷﺮﻗﺘﻬﺎ ﻫﺬﻩ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ، وﺟﻌﻠﺘﻬﺎ أﻋﺰ اﻷﻗﻮام بين اﻷﻗﻮام اﻟﻌﺎﺋﺸﺔ تحت أديم اﻟﺴﻤﺎء، وجمعت لها ﻣﻦ اﻟﺴﺒﻖ واﻟﻔﺘﺢ في ﻛﻞ ﻣﻀﻤﺎر؛ ﻟﺸﺪة اﻋﺘﻨﺎﻗﻬﻢ لها، حتى ﻻ ﺗﻜﺎد ﺗﻨﻔﻚ ﻋﻨﻬﻢ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻬﺎ؛ لأنهم ﻳﺒﻴﻨﻮن ﻋﻨﻬﺎ ﻓﻌﻼ أﻛﺜﺮ إﺑﺎﻧﺘﻬﻢ ﻋﻨﻬﺎ ﻗﻮﻻ، ﻓﻜﺎن المجد واﻟﻌﺰ واﻟﺸﺮف واﻟﻨّﺼر لهم ﻣﺎداﻣﻮا ﻋﻠﻴﻬﺎ. وﻟﻜﻦ لمّا ﺗﺮﻛﻮا ﻣﺒﺎدﺋﻬﺎ، ورﻓﻀﻮا ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻬﺎ، وﺑﺪأوا ﻳﺮدون المورد المعكر والمنهل المنكدر، وﻋﻨﺪﻫﻢ ﻣﺎء ﻧﺒﻊ أﻋﺬب، فعادوا أذلاء لا مجد ولاﻋﺰ وﻻ ﺷﺮف وﻻ ﻛﺮم لهم، وﻟﻦ ﻳﻌﻮدوا إلى ﻣﺎ ﻓﻘﺪوﻩ إﻻ إذا ﻋﺎدوا إلى ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ ﺗﻠﻚ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ الخالدة ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى