بحوث في سيرة الخليفة الزاهد عمربن عبدالعزيز رحمه الله الحلقة الثالثة
ولاية عمر على المدينة
الباب الثالث: ولايته على الحجاز: ولي الحجاز، المدينة المنورة ومكة والطائف في خلافة الوليد بن عبد الملك وكان في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت مدة ولايته من ربيع الأول سنة سبع وثمانين إلى شوال سنة ثالثة وتسعين وساس فيها سياسة حسنة شكره العلماء والعامة. ونقدم بعض جوانب ولايته.
شروطه لقبول الولاية:
عن عبد الرحمن بن حسن قال: أخبرني أبي، قال: بلغني أن الوليد بن عبد الملك استعمل عمر بن عبد العزيز على الحجاز (المدينة ومكة والطائف) فأبطأ عن الخروج، فقال الوليد لحاجبه: ويلك ! ما بال عمر لا يخرج إلى عمله ؟ قال: زعم أن له إليك ثلاث حوائج، قال: فعجله علي، فجاء به الوليد، فقال له عمر: إنك استعملت من كان قبلي فأنا لا أحب أن تأخذني بعمل أهل العداء والظلم والجور، فقال له الوليد: اعمل بالحق وإن لم ترفع إلينا إلا درهما واحدا. قال: والحج قد بلغت ما ترى من السن والحال وأشك في العطاء أن يكون سأله إياه أن يخرجه للناس ( ).
قصة قدومه إلى المدينة:
في سنة سبع وثمانين عزل الوليد بن عبد الملك هشامَ بن إسماعيل عن إمرة المدينة وولى عليها ابن عمه وزوج أخته فاطمة بنت عبد الملك عمرَ بن عبد العزيز، فدخلها على ثلاثين بعيرا في ربيع الاول منها، فنزل دار مروان وجاء الناس للسلام عليه، وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة. فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة وهم عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن [أبي] خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت. فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانا على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج على من بلغه ذلك إلا أبلغني. فخرجوا من عنده يجزونه خيرا، وافترقوا على ذلك.
محاكمة العامل السابق:
وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بأن يوقِف هشام بن إسماعيل للناس عند دار مروان – وكان يسئ الرأي فيه – لأنه أساء إلى أهل المدينة في مدة ولايته عليهم، وكانت نحوا من أربع سنين، ولا سيما إلى سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين. قال سعيد بن المسيب لابنه ومواليه: لا يعرض منكم أحد لهذا الرجل فِيَّ، تركت ذلك لله وللرحم. وأما كلامه فلا أكلمه أبدا، وأما علي بن الحسين فإنه مر به وهو موقوف فلم يتعرض له وكان قد تقدم إلى خاصته أن لا يعرض أحد منهم له، فلما اجتاز به وتجاوزه ناداه هشام: {الله اَعلم حيثُ يجعل رسالته} ( )
من صفات عمر النبيلة:
خشة وعبادة:
عن أبي عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: خرجت من جدة بهدايا لعمر بن عبد العزيز وهو على المدينة، فأتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر، والمصحف في حجره، ودموعه تسيل على لحيته. وعن أبي الزناد عن أبيه قال: كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة، إذا أراد أن يجود بالشيء قال: ابتغوا أبتغوا أهل بيت بهم حاجة ( ).
حال بيته في المدينة:
عن رجاء بن جميل الأيلي قال: كان عمر بن عبد العزيز يبدي ولده عندنا بالمدينة وكان يأمر قيمه عليهم يكسوهم الكرابيس والبتوت، وإذا حملهم من منزلهم إلى منزل – حملهم على الحمر الأعرابية ( ).
إعظامه مسجد الرسول:
قال وكان عمر بن عبد العزيز إذ كان واليا على المدينة إذا بات على ظهر المسجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تقربه امرأة إعظاما لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم( )
برلمانه في المدينة:
قال ابن كثير: قد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عيَّن عشرة منهم، وكان لا يقطع أمرا بدونهم أو من حضر منهم، وهم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن [ أبي ] خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت. (رضي الله عنهم ورحمهم) وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب، وقد كان سعيد بن المسيب لا يأتي أحدا من الخلفاء، وكان يأتي إلى عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة، وقال إبراهيم بن عبلة: قدمت المدينة وبها ابن المسيب وغيره، وقد ندبهم عمر يوما إلى رأي. وقال ابن وهب: حدثني الليث، حدثني قادم البريري أنه ذاكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن يوما شيئا من قضايا عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة، فقال له الربيع: كأنك تقول: أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط. (البداية والنهاية: ۹/ ۲۲۹، ۲۳۰، دار المعرفة).
مع العلماء:
كانت رابطته بعلماء المدينة وطيدة أما أولا: فلأن أكثر علماءها كانوا من شيوخه وأساتذته، لأنه تخرج بهم، وثانيا: لأن عمر كان عالما عاملا بالعلم فهيما بالسياسة الإسلامية وأسرارها يخاف الله، وكان يعرف مكانة العلماء، وضرورتهم في الحكومة الإسلامية، ویعرف أیضا کيفية التعامل معهم، فكانت هم خاصته وبرلمانه، وكانوا يحسنون الرأي فيه، ونذكر طرفا من ذلك.
مع أنس بن مالك رضي الله عنه:
عن أنس بن مالك قال ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليهسلمص من هذا الفتى يعني عمر بن العزيز. قال الضحاك: فكنت أصلي وراءه، فيطيل الأولتين من الظهر، ويخفف الآخرتين ويخف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ويقرأ في الصبح بطوال المفصل( ).
مع شيخه عبيد الله بن عبد الله:
عن أبي الزناد عن أبيه قال: ربما كنت أرى عمر بن عبد العزيز في إمارته يأتي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فربما حجبه وربما أذن له ( ).
مع سعيد بن المسيب:
سبق قول ابن كثير رحمه الله أن عمر كان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب، وقد كان سعيد بن المسيب لا يأتي أحدا من الخلفاء، وكان يأتي إلى عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة. طاعة الأمراء الصالحين:
قال ابن عبد الحكم: وأرسل عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة رسولا إلى سعيد بن المسيب يسأله عن مسألة وكان سعيد لا يأتي أميرا ولا خليفة فأخطأ الرسول، فقال: الأمير يدعوك، فأخذ نعليه وقام إليه (من وقته) فلما رآه قال له: “عزمت عليك يا أبا محمد ! إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ، إنما أرسلناه ليسألك”، ولم ير سعيد أنه يسعه التخلف عنه. (سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم: صـ۲۷ ط: عالم الكتب).
تنحي عمر في المسجد مرضاة لابن المسيب:
قال وخرج عمر بن عبد العزيز ذات ليلة إلى المسجد فقام ليصلي وكان حسن الصوت، فصلى قريبا من سعيد بن المسيب، فقال سعيد لغلامه برد: يا برد ! نح عن هذا القارىء، فقد آذانا بصوته ! وتمادى عمر في صلاته فعاد سعيد لبرد فقال يا برد ويحك ألم أقل لك نح هذا القارىء عنا، فقال برد: ليس المسجد لنا، فسمع ذلك عمر، فأخذ نعليه وتنحى إلى ناحية من المسجد. (سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم: صـ۲۷)
عز العلماء وحلم الأمراء:
وكان عمر يعرف شيخه جيدا، لذلك أعلمه بأنه حر في أقواله وأفعاله، مع أن سعيدا كان ممن لا يبالي بالتحسين والترديد ولا يتأثر فيه ذلك، ولا يصده عن سبيله الذي تعلمه من الصحابة، وهنا نذكر واقعة طريفة نادرة، يتجلى فيه العز والترفع العلمي، والتقدير والتحمل السياسيان الموجودان لمثل هذه الرجال في قلوب القادة والأمراء آنذاك رحمهم الله.
ذكر ابن كثير عن الواقدي وغيره أنه: حج بالناس في السنة الحادية والتسعين أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، فلما قرب من المدينة – أمر عمر بن عبد العزيز أشراف المدينة فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم، ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوي، فلم يبق به أحد سوى سعيد بن المسيب، لم يتجاسر أحد أن يخرجه، وإنما عليه ثياب لا تساوي خمسة دراهم، فقالوا له: تنح عن المسجد أيها الشيخ، فإن أمير المؤمنين قادم، فقال: والله لا أخرج منه، فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه يصلي ههنا وههنا ويدعو الله عز وجل. قال عمر بن عبد العزيز: وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه، فحانت منه التفاتة فقال: من هذا، هو سعيد بن المسيب ؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، ولو علم بأنك قادم لقام إليك وسلم عليك. فقال: قد علمت بغضه لنا، فقلت: يا أمير إنه وإنه، وشرعت أثني عليه، وشرع الوليد يثني عليه بالعلم والدين، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – وإنما قلت ذلك لاعتذر له – فقال: نحن أحق بالسعي إليه، فجاء فوقف عليه فسلم عليه فلم يقم له سعيد، ثم قال الوليد: كيف الشيخ ؟ فقال: بخير والحمد لله، كيف أمير المؤمنين ؟ فقال الوليد: بخير والحمد لله وحده، ثم انصرف (الوليد) وهو يقول لعمر بن عبد العزيز: هذا فقيه الناس. فقال: أجل يا أمير المؤمنين. قالوا: ثم خطب الوليد على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في الخطبة الاولى وانتصب في الثانية، وقال: هكذا خطب عثمان، ثم انصرف فصرف على الناس من أهل المدينة ذهبا كثيرا وفضة كثيرة، ثم كسا المسجد النبوي كسوة من كسوة الكعبة التي معه، وهي من ديباج غليظ ( ).
رأي ابن المسيب في عمر:
عن عبد الجبار بن أبي معن قال: سمعت سعيد بن المسيب – وسأله رجل – فقال له: يا أبا محمد ! من المهدي ؟ فقال له سعيد: أدخلت دار مروان ؟ قال: لا، قال: فادخل دار مروان – تر المهدي. قال: فأذن عمر بن عبد العزيز للناس، فانطلق الرجل حتى دخل دار مروان، فرأى الأميرَ والناس مجتمعين، ثم رجع إلى سعيد بن المسيب، فقال: يا أبا محمد ! دخلتُ دار مروان فلم أر أحدا أقول هذا المهدي، فقال له سعيد بن المسيب – وأنا أسمع – هل رأيت الأشج عمر بن عبد العزيز القاعد على السرير؟ قال: نعم، قال: فهو المهدي( )
أعماله في المدينة:
توسيع المسجد النبوي:
ذكر ابن كثير عن الطبري أن في شهر ربيع الاول من سنة ثمان وثمانين: قدم كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجُر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، فمن باعك ملكه فاشتره منه، وإلا فقومه له قيمة عدل، ثم اهدمه وادفع إليهم أثمان بيوتهم، فإن لك في ذلك سلف صدق عمر وعثمان. فجمع عمر بن عبد العزيز وجوه الناس والفقهاء العشرة وأهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الوليد، فشق عليهم ذلك وقالوا: هذه حجر قصيرة السقوف، وسقوفها من جريد النخل، وحيطانها من اللبن، وعلى أبوابها المسوح، وتركها على حالها أولى لينظر إليها الحجاج والزوار والمسافرون، وإلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فينتفعوا بذلك ويعتبروا به، ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا، فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة وهو ما يستر ويكن، ويعرفون أن هذا البنيان العالي إنما هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة، وكل طويل الامل راغب في الدنيا وفي الخلود فيها. فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة المتقدم ذكرهم، فأرسل إليه يأمره بالخراب وبناء المسجد على ما ذكر، وأن يعلي سقوفه. فلم يجد عمر بدا من هدمها، ولما شرعوا في الهدم صاح الاشراف ووجوه الناس من بني هاشم وغيرهم، وتباكوا مثل يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب من له ملك متاخم للمجسد للبيع فاشترى منهم، وشرع في بنائه وشمر عن إزاره واجتهد في ذلك، وأرسل الوليد إليه فعولا كثيرة، فأدخل فيه الحجرة النبوية – حجرة عائشة – فدخل القبر في المسجد، وكانت حده من الشرق وسائر حجر أمهات المؤمنين كما أمر الوليد، وروينا أنهم لما حفروا الحائط الشرقي من حجرة عائشة بدت لهم قدم فخشوا أن تكون قدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحققوا أنها قدم عمر رضي الله عنه، ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد – كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجدا – والله أعلم. وذكر ابن جرير: أن الوليد كتب إلى ملك الروم يسأله أن يبعث له صناعا للبناء، فبعث إليه بمائة صانع وفصوص كثيرة من أجل المسجد النبوي، والمشهور أن هذا إنما كان من أجل مسجد دمشق، فالله أعلم.
حفر الآبار والفوارات وتسهيل الطرق:
وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يحفر الفوارة بالمدينة، وأن يجري ماءها ففعل، وأمره أن يحفر الآبار وأن يسهل الطرق والثنايا، وساق إلى الفوارة الماء من ظاهر المدينة، والفوارة بنيت في ظاهر المسجد عند بقعة رآها فأعجبته( ). قضية خُبيب الموسفة:
كان خبيب بن عبد الله بن الزبير قد حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ـ واليه على المدينة ـ يأمره بجلده مائة سوط وبحبسه فجلده عمر مائة سوط، وبرد له ماءً في جرّة ثم صبه عليه في غداة باردة فكزّ (و الكزاز: هو الانقباض من البرد) فمات فيها، وكان عمر قد أخرجه من السجن حين اشتد وجعه، وندم على ما صنع، فنقل إلى آل الزبير. (سيرة عمر لابن الجوزي ص ۴۴) قال ابن كثير: وفيها (أي: السنة الثالثة والتسعين) ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطا بأمر الوليد له في ذلك، وصب فوق رأسه قربة من ماء بارد، في يوم شتاء بارد، وأقامه على باب المسجد يوم ذلك فمات رحمه الله. وكان عمر بن عبد العزيز بعد موت خبيب شديد الخوف لا يأمن، وكان إذا بشر بشئ من أمر الآخرة يقول: وكيف وخبيب لي بالطريق ؟ وفي رواية: يقول: هذا إذا لم يكن خبيب في الطريق، ثم يصيح صياح المرأة الثكلى، وكان إذا أثنى عليه يقول: خبيب وما خبيب إن نجوت منه فأنا بخير. وما زال على المدينة إلى أن ضرب خبيبا فمات فاستقال وركبه الحزن والخوف من حينئذ، وأخذ في الاجتهاد في العبادة والبكاء، وكانت تلك هفوة منه وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير، من عبادة وبكاء وحزن وخوف وإحسان وعدل وصدقة وبر وعتق وغير ذلك. ثم عزل عمر بعده بأيام قليلة، فكان يتأسف على ضربه له ويبكي ( ). قال الذهبي: روى (خبيب بن عبد الله) عن: أبيه، وعائشة. وعنه: ابنه الزبير ويحيى بن عبد الله بن مالك والزهري وغيرهم. وقيل: إنه أدرك كعب الأحبار، وكان من النساك، قال الزبير بن بكار: أدركت أصحابنا يذكرون أنه كان يعلم علماً كثيراً لا يعرفون وجهه ولا مذهبه فيه، يشبه ما يدعي الناس من علم النجوم. قال مصعب بن عبد الله: وحُدِّثِّتُ عن يعلى بن عقبة قال: كنت أمشي مع خبيب وهو يحدث نفسه، إذ وقف ثم قال: سأل قليلاً فأعطي كثيراً، وسأل كثيراً فأعطي قليلاً، فطعنه فأذراه فقتله، ثم أقبل علي فقال: قتل عمرو بن سعيد الساعة، ثم ذهب فوجد أن عَمراً قتل يومئذٍ، وله أشباه هذا فيما يذكر. وقال مصعب الزبيري: أخبرني مصعب بن عثمان أنهم نقلوا خبيباً إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير، فاجتمعوا عنده حتى مات، قال: فبينا هم جلوس إذ جاءهم الماجشون يستأذن عليهم وهو مسجى، وكان الماجشون يكون مع عمر، فقال له عبد الله بن عروة: كأن صاحبك في مريةٍ من موته، اكشفوا عنه، فلما رآه رجع، قال الماجشون: فأتيت عمر فوجدته كالمرأة الماخض قائماً وقاعداً، فقال لي: ما وراءك فقلت: مات الرجل، فسقط إلى الأرض واسترجع، فلم يزل يعرف فيه ذلك حتى مات. ولما مات ندم عمر وسقط في يده واستعفى من المدينة، وكانوا إذا ذكروا له أفعاله الحسنة وبشروه يقول: فكيف بخبيب ! وأعطى أهله ديته، قَسَّمها فيهم ( ).
فراق عمر المدينةَ: وفي (السنة الثالثة والتسعين، بعد أيام من موت خبيب، واستعفاء عمر من ولاية المدينة عزل الوليدُ عمر َبن عبد العزيز عن إمرة المدينة، کأنه قبِل استعفاء عمر واظهر لمن كان يريد ذلك من الساسة أنه طاوعهم، مع أن العزل من المدينة كان مما يريده عمر بنفسه بعد قضية الخبيب. فولى على المدينة عثمان بن حيان، وعلى مكة خالد بن عبد الله القسري، وخرج عمر بن عبد العزيز من المدينة في شوال فنزل السويداء، وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة. (البداية والنهاية: ۹/۱۰۷) ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة التفت إليها وبكى وقال (لخادمه مزاحم) يا مزاحم ! أنخشى أن نكون ممن نفت المدينة (سيرة عمر لابن عبد الحكم: ص ۳۲). وکلام عمر هذا تألم وتأسف على فراق المدينة، واشارة إلى ما رواه مسلم: عن أبى هريرة أَنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: يأْتِى على الناسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ، هَلُمَّ إلَى الرَّخَاءِ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، والْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَخْرُجُ منهم أحدٌ رَغْبَةً عنها إلا أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا منه، ألا إن الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تُخْرِجُ الْخَبِيثَ، لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِىَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.