بحوث في سيرة الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله الحلقة الرابعة
خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى
بشارة و انتظار:
عن نافع قال قال عمر بن الخطاب: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلا، كما ملئت جورا.
و عن عبد الله بن دينار قال: قال ابن عمر: إنا كنا نتحدث أن هذا الأمر لا ينقضي حتى يلي هذه الأمة رجل من ولد عمر، يسير فيها بسيرة عمر، بوجهه شامة، قال حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز، و أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، قال يزيد: ضربته دابة من دواب أبيه فشجته، فجعل أبوه يمسح الدم و يقول: سعدت إن كنت أشج بني أمية ( ).
عن رياح بن عبيدة قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة، و شيخٌ متوكّيءٌ على يده، فقلت في نفسي: إن هذا لشيخٌ جافٍ، فلما صلى و دخل لحقته، فقلت: أصلح الله الأمير، من الشيخ الذي كان يتّكيء على يدك ؟ قال: يا رياح رأيته قلت: نعم، قال: ما أحسبك إلا رجلاً صالحاً، ذاك أخي الخضر، أتاني فأعلمني أنّي سألي أمر هذه الأمة، و أنّي سأعدل فيها. قال الذهبي: رواته ثِقات. (تاريخ الإسلام للذهبي: 3 / 119، و ذكر الخبر ابن الأثير في الكامل: 4 / 285، و ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق: 45 / 156، و ابن حجر في تهذيب التهذيب: 4 / 287، و الذهبي أيضا في سير أعلام النبلاء: 5 / 122، و ابن كثير في البداية و النهاية: 9 / 232، و ابن عبدالحكم في سيرة عمر صـ 32، و سكتوا عليه، إلا الذهبي فإنه قال: و رواته ثِقات)
قال ابن كثير: عن قتادة قال: قال عمر بن عبد العزيز: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم و عنده عمر و عثمان و علي، فقال لي: ادن فدنوت حتى قمت بين يديه، فرفع بصره إلى وقال: أما إنك ستلي أمر هذه الامة و ستعدل عليهم.
وفي الحديث الآخر أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، و قد قال كثير من الائمة إنه عمر بن عبد العزيز، فإنه تولى سنة إحدى و مائة.
قصــة نقـل الخلافة إلى عمر رحمه الله:
موت سليمان بن عبد الملك رحمه الله تعالى:
قال سعيد بن عبد العزيز: أخبرني رجل أن سليمان همّ بالاقامة ببيت المقدس، و قدم عليه موسى بن نصير و أخوه مسلمة بن عبد الملك، فجاءه الخبر أن الروم طلعوا من ساحل حمص، وسبوا جماعة فيهم امرأة، فغضب سليمان و قال: ما هو إلا هذا، نغزوهم و يغزونا، و الله لاغزونهم غزوة أفتح فيها القسطنطينية أو أموت.
فأغزى أهل الشام و الجزيرة في البر، في نحو من عشرين ومئة ألف، و أغزى أهل مصر و المغرب في البحر في ألف مركب، عليهم عمربن هبيرة، و على الكل مسلمة بن عبدالملك.
قال الوليد بن مسلم: ثم قدم (سليمان من بيت المقدس إلى) دمشق و صلى الجمعة، ثم عاد إلى المنبر، و أخبرهم بيمينه من حصاره القسطنطينية، فانفروا على بركة الله، و عليكم بتقوى الله، ثم الصبر الصبر.
فسار سليمان بن عبد الملك إلى دابق (و هو مجتمع غزو الناس) وجهز جيشاً مع أخيه مسلمة بن عبد الملك ليسير إلى القسطنطينية.
و حاصروا قسطنطينية إلى أن برح بهم الحصار فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس ديناراً، فلم يقبل.
و نزل مسلمة بفنائها ثلاثين شهرا حتى أكل الناس في المعسكر الميتة من الجوع، هذا و في وسط المعسكر عرمة حنطة مثل الجبل يغبطون بها الروم.
و بقوا على ذلك حتى مات سليمان و هو بدابق، فلما استخلف عمربن عبد العزيز، أذن لهم في الترحل عنها ( ).
(ثم)مات سليمان بن عبد الملك سنة تسع و تسعين يوم الجمعة لعشر بقين من صفر، و كان موته بدابق من أرض قنسرين، (وهو مرابط) و صلى عليه عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى.
ثناء الناس على سليمان رحمه الله:
و كان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخبر، ذهب عنهم الحجاج وولي سليمان فأطلق الأسرى وأخلى السجون و أحسن إلى الناس و استخلف عمر بن عبد العزيز ( ).
عن أفلح بن حميد قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: اليوم ينطق كل من كان لا ينطق، و إنا لنرجو لسليمان بتوليته لعمر بن عبد العزيز. و عن مهاجر بن يزيد قال: سمعت سالم بن عبد الله يقول: إنا لنرجو لسليمان باستخلافه عمر بن عبد العزيز ( ).
وقال الذهبي: قد كان سليمان بن عبدالملك من أمثل الخلفاء، نشر علم الجهاد، و جهز مئة ألف برا و بحرا، فنازلوا القسطنطينية، و اشتد القتال و الحصار عليها أكثر من سنة.
قال سعيد بن عبد العزيز: و لي سليمان، فقال لعمر بن عبد العزيز: يا أبا حفص ! إنا ولينا ما قد ترى، و لم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة، فمر به، فكان من ذلك عزل عمال الحجاج، و أقيمت الصلوات في أوقاتها بعد ما كانت أميتت عن وقتها، مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها ( ).
عهد الخلافة:
كان سليمان بن عبد الملك بدابق فمرض، على ما وصفنا، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه، وهو غلام لم يبلغ، فقال له رجاء بن حيوة: ما تصنع يا أمير المؤمنين ؟ إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح !
فقال سليمان: أنا أستخير الله و أنظر، و لم أعزم، فمكث سليمان يوماً أو يومين ثم خرقه و دعا رجاء فقال: ما ترى في ولدي داود ؟ قال الرجاء: هو غائب عند القسطنطينية، و لاتدري أحي أم لا ؟ قال: فمن ترى ؟ قال رجاء: رأيَك يا أمير المؤمنين ! قال: فكيف ترى في عمر بن العزيز ؟ قال رجاء: فقلت: أعلمه والله خيراً فاضلاً سليماً. قال سليمان: هو على ذلك و لئن وليته و لم أوَلِّ أحداً سواه لتكونن فتنة و لا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده.
وكان عبد الملك قد عهد إلى الوليد و سليمان أن يجعلا أخاهما يزيد ولي عهد، فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر، و كان يزيد غائباً في الموسم.
قال رجاء: قلت: رأيك. فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة بعدي و من بعدك يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له و أطيعوا، و اتقوا الله و لا تختلفوا فيطمع فيكم. و ختم الكتاب.
وأرسل إلى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته فقال: ادع أهل بيتي، فجمعهم كعب، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي إليهم و أخبرهم بكتابي و مرهم فيبايعوا من وليت فيه، ففعل رجاء.
فقالوا: ندخل و نسلم على أمير المؤمنين ؟ قال: نعم، فدخلوا، فقال لهم سليمان: في هذا الكتاب – و هو يشير إلى الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة – عهدي، فاسمعوا و أطيعوا لمن سميت فيه، فبايعوه رجلاً رجلاً و تفرقوا.
كارِهٌ و محبٌّ:
و قال رجاء: فأتاني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئاً من هذا الأمر، فأنشدك الله و حرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك.
قال رجاء: ما أنا بمخبرك حرفاً قال: فذهب عمر عني غضبان.
قال رجاء: و لقيني هشام بن عبد الملك فقال: إن لي بك حرمةً وموده قديمة و عندي شكر، فأعلمني بهذا الأمر، فإن كان إلى غيري تكلمت، و للهِ علي أن لا أذكر شيئاً من ذلك أبداً.
قال رجاء: فأبيت أن أخبره حرفاً، فانصرف هشام و هو يضرب بإحدى يديه على الأخرى و هو يقول: فإلى من إذا نحِّيَتْ عني ؟ أتخرج من بني عبد الملك ؟
دهاء رجاء و عبقريته:
قال رجاء: و دخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلتُ إذا أخذته سكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة فيقول حين يفيق: لم يأن بعدُ.
ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً، فلما كانت الثالثة قال: “من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئاً، أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله “، فحرفته، فمات، رحمه الله، فلما غمضته و سجيته و أغلقت الباب، أرسلت إلى زوجته فقالت: كيف أصبح ؟ فقلت: هو نائم قد تغطى. و نظر إليه الرسول متغطياً فرجع فأخبرها، فظنت أنه نائم، قال: فأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يبرح و لا يترك أحداً يدخل على الخليفة.
قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن جابر فجمع أهل بيت سليمان، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا، فقالوا قد بايعنا مرة.
قلت: وأخرى، هذا عهد أمير المؤمنين، فبايعوا الثانية، فلما بايعوا بعد موته رأيت أني قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات.
قالوا: إنا لله و إنا إليه راجعون ! و قرأت الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا نبايعه و الله أبداً. قلت: أضرب و الله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر و هو يسترجع لما وقع فيه، و هشام
يسترجع لما أخطأه، فبايعوه ( ).
خطبة الخلافة:
قال رجاء: ثم قام عمر فحمد الله و أثنى عليه و قال: أيها الناس ! إني لست بقاض و لكني منفذ، و لست بمبتدع و لكني متبع، وإن حولكم من الأمصار و المدن، فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا و ليكم، و إن هم نقموا فلست لكم بوال.
مركب الخلافة:
ثم نزل يمشي فأتاه صاحب المراكب فقال ما هذا ؟ قال: مركب للخليفة: قال لا حاجة لي فيه، ائتوني بدابتي، فأتوه بدابته فركبها ثم خرج يسير و خرجوا معه ( ).
ثم أقبل، فقيل: تنزل منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب (يعني سليمان) و في فسطاطي كفاية حتى يتحولوا فأقام في منزله حتى فرغوه.
قال رجاء فلما كان مسي ذلك اليوم قال: يا رجاء ! ادع لي كاتبا، فدعوته، و قد رأيت منه كل ما يسرني، صنع في المراكب ما صنع و في منزل سليمان، فقلت: فكيف يصنع الآن في الكتاب أيضع نسخا أم ماذا ؟ قال فلما جلس الكاتب أملى عليه كتابا واحدا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه و أوجزه و أمر بذلك الكتاب فنسخ إلى كل بلد ( ).
و في الطبقات: عن خالد بن بشر عن أبيه قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز، خطب الناس، و فرش له، فنزل و ترك الفرش وجلس ناحية، فقيل: لو تحولت إلى حجرة سليمان فتمثل:
فلولا التقى ثم النُّهى خشية الردى…
لعاصيت في حب الصبى كل زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى…
له صبوة أخرى الليالي الغوابر.
فرش الخلافة:
عن إسماعيل بن إبراهيم عن أبيه قال لما انصرف عمر عن قبر سليمان، إذا دواب سليمان قد عرضت له، قال: فكشر ثم أشار إلى بغيلة شهباء فأتي بها فركبها، فانصرف فإذا فرش سليمان في منزله، فقال لقد عجلتم، ثم تناول وسادة أرمنية فطرحها بينه و بين الأرض، ثم قال أما والله ! لولا أني في حوائج المسلمين ما جلست عليك ( ).
فـَـهْمُ المسؤلــية:
حمل عمر بن عبد العزيز أعباء الخلافة، و ساحتها من الصين والسند شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، كانت جزيزة العرب، والشام، و العراق، و خراسان، و السند، و أفريقا، و الأندلس، كلها تحت سيطرته، على كل ولاته و نوابه.
و كان يمكنه أن يتمتع بكل ما يريد من لذات الدنيا بنفسه وادخارها لأولاده إن كان يريد ذلك، لكنه رفض كل شيء، وشمر لإصلاح مافسد من بنيان الخلافة، و تقويم ما اعوج من أخلاق الناس، و إعلاء ما سقط من أحوال الأمة، فما ركب مراكب الخلافة، و لا جلس على فرش قصر الخلافة كما تقدم، وفارق أهله و جميع النعم التي كان يتمتع بها قبل الخلافة، بل رد ما كان عنده من الأموال، و استردها من غيره، و أعلن همه للناس، واشترط على مجلسه شروط الجد، ففارقه اللئيم الأثيم الأكول، وتقرب إليه الناصح الأمين الصبور. و إليكم هذه الأخبار.
أول ما بدأ به عمر:
فلما دفن سليمان دعا عمر بدواة و قرطاس فكتب ثلاثة كتب لم يسعه فيما بينه و بين الله عز وجل أن يؤخرها، فأمضاها من فوره، فأخذ الناس في كتابه إياها هنالك في همزه يقولون: ما هذه العجلة ؟! أما كان يصبر إلى أن يرجع إلى منزله ! هذا حب السلطان ! هذا الذي يكره ما دخل فيه ! و لم يكن بعمر عجلة ولا محبة لما صار إليه و لكنه حاسب نفسه و رأى أن تأخير ذلك لا يسعه:
كتب بقفل مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية، وقد كان سليمان أغزاه إياها برا وبحرا، وحلف أن لايقفله منها ما دام حيا، فاشتد عليهم المقام، و جاعوا حتى أكلوا الدواب من الجهد و الجوع، حتى يتنحى الرجل عن دابته فتقطع بالسيوف، فبلغ رأس الدابة كذا و كذا درهما، و لج سليمان في أمرهم فكان ذلك يغم عمر، فلما ولي رأى أنه لا يسعه فيما بينه و بين الله عز وجل أن يلي شيئا من أمور المسلمين ثم يؤخر قفلهم ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب.
و كتب بعزل أسامة بن زيد التنوخي، و كان على خراج مصر وأمر به أن يحبس في كل سنة و يقيد، و يحل عن القيد عند كل صلاة ثم يرد في القيد، و كان غاشما ظلوما معتديا في العقوبات بغير ما أنزل الله عز وجل، يقطع الأيدي في خلاف ما يؤمر به و يشق أجواف الدواب فيدخل فيها القطاع و يطرحهم للتماسيح، فحبس بمصر سنة ثم نقل إلى أرض فلسطين فحبس بها سنة، ثم مات عمر رحمه الله و ولي يزيد بن عبد الملك فرد أسامة على مصر.
و كتب بعزل يزيد بن أبي مسلم عن إفريقية و كان عامل سوء، يظهر التأله و النفاذ لكل ما أمر به السلطان مما جل أو صغر: من السيرة بالجور و المخالفة للحق، و كان في هذا يكثر الذكر والتسبيح و يأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون، و هو يقول: سبحان الله و الحمد لله شدّ يا غلام موضع كذا و كذا لبعض مواضع العذاب، و هو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر شدّ يا غلام موضع كذا و كذا، فكانت حالته تلك شر الحالات، فكتب بعزله، فهذا سبب الثلاثة التي عجل بها ( ).
عزم عمر على القيام بالكتاب و السنة:
و قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه و سلم و ولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله و قوة على دين الله، و ليس لأحد تبديلها و لا تغييرها و لا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، و من استنصر بها فهو منصور، و من تركها و اتبع غير سبيل المؤمنين و لاه الله ما تولى و أصلاه جهنم، و ساءت مصيرا.
قال عبد الله بن عبد الحكم: فسمعت مالكا يقول: و أعجبني عزم عمر في ذلك ( ).
فكرة عمر: عن محمد بن أبي عيينة المهلبي قال: قرأت رسالة عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن المهلب: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن سليمان بن عبد الملك كان عبدا من عباد الله قبضه الله على أحسن أحيانه وأحواله، و استخلفني، فبايع لي من قبلك و ليزيد بن عبد الملك إن كان من بعدي، و لو كان الذي أنا فيه لِاِتِّخاذِ أزواجٍ و اعتقاد أموالٍ كان الله قد بلغ بي أحسن ما بلغ بأحد من خلقه، و لكني أخاف حسابا شديدا و مسألة لطيفة إلا ما أعان الله. و السلام عليك ورحمة الله ( ).
عن عطاء بن أبي رباح، قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت على عمر بن عبد العزيز، فإذا هو في مصلاه يده على خده، سائلة دموعه، فقلت: يا أمير المؤمنين ! ألِشيءٍ حدث ؟ قال: يا فاطمة ! إني تقلدتُ أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع، و المريض الضائع، و العاري المجهود، و المظلوم المقهور، و الغريب المأسور، و الكبير، وذي العيال في أقطار الارض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت ( ).
عن عمر بن ذر أن مولى لعمر بن عبد العزيز قال له بعد جنازة سليمان: مالي أراك مغتما ؟ قال: لمثل ما أنا فيه فليغتم، ليس أحد من الامة إلا و أنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إلي فيه، ولا طالبه مني ( ).
فراق اللَّهْوِ و التروح:
عن ابن وهب قال: إن ريان بن عبدالعزيز قال لعمر بن عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين ! لو ركبت فتروحتَ ! قال عمر: فمن يجزي عمل ذلك اليوم ؟! قال: تجزيه من الغد، قال: لقد كدحني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين في يوم واحد ( )
و قال له رجل: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول: قد جاء شغل شاغل و عدلت عن طرق السلامة… ذهب الفراغ فلا
فراغ لنا إلى يوم القيامة ( ).
فراق اللذات والشهوات:
عن إبراهيم بن هشام بن يحيى حدثني أبي عن جدي قال: كنت أنا و ابن أبي زكريا بباب عمر بن عبدالعزيز، فسمعنا بكاء في داره فسألنا عنه فقالوا خَيَّرَ أمير المؤمنين امرأتَه بين أن تقيم في منزلها على حالها و أعلمها أنه قد شغل بما في عنقه عن النساء، و بين أن تلحق بمنزل أبيها فبكت، فبكى جواريها لبكائها. (فاختارت معه المقام على كل حال)
عن سهل بن صدقة مولى عمر بن عبدالعزيز بن مروان قال: حدثني بعض خاصة عمر بن عبدالعزيز أنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاء عاليا، فسئل عن البكاء، فقيل: إن عمر بن عبدالعزيز خير جواريه، فقال: إنه قد نزل بي أمر قد شغلني عنكن، فمن أحب أن أعتقه أعتقته، و من أراد أن أمسكه أمسكته،لم يكن مني إليها شيء، فبكين أياسا منه ( ).
عن عقبة بن نافع القرشي أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال لها ألا تخبريني عن عمر فقالت ما أعلم أنه اغتسل لا من جنابة و لا من احتلام منذ استخلفه الله حتى قبضه ( ). قال ابن كثير: إن فاطمة اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله.
عن سلمة بن عثمان القرشي قال بلغني: أن عمر بن عبد العزيز لما استخلف نظر إلى ما كان له من عبد و إلى لباسه و عطره وأشياء من الفضول – فباع كل ما كان به عنه غنى، فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعله في السبيل ( ).
شروطه للدخول عليه:
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلام، عن سلام بن سليم قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر و كان أول خطبة خطبها حمد الله و أثنى عليه ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس و إلا فليفارقنا:
(الأول) يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، (الثاني) ويعيننا على الخير بجهده، (الثالث) و يدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، (الرابع) و لا يغتابن عندنا أحدا، (الخامس) ولا يعرض فيما لا يعنيه.
فانقشع عنه الشعراء و الخطباء و ثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله ( ).
——————–
) الطبقات الكبرى : 5 / 161. (
) الكامل في التاريخ : 4 / 261 . و سير أعلام النبلاء : 4 / 501 , 502 . بتصرف . (
) الكامل في التاريخ : 4/ 265 , ط : دار المعرفة . (
) الطبقات الكبرى لابن سعد : 5/ 168 , 169 , ط : دار إحياء التراث العربي . (
) سير أعلام النبلاء : 5 / 154 , ط : مؤسسة الرسالة . (
) الكامل في التاريخ : 4/ 265 , 266 , ط : دار المعرفة . (
) تاريخ مدينة دمشق : 45 / 161 . (
) تاريخ مدينة دمشق : 45 / 165 . (
) هذه الروايات الثلاثة ذكرها الزهري في : الطبقات الكبرى : 5/ 166 . (
) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ 37 . (
) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ40 . (
) الطبقات الكبرى : 5 / 189 . (
) سير أعلام النبلاء : 5 / 131 , 132 . (
) سير أعلام النبلاء : 5 / 127. (
) تاريخ مدينة دمشق : 45 / 198 . (
) البداية و النهاية : 9 / 233. (
) تاريخ مدينة دمشق : 45 / 168 . (
) البداية و النهاية : 9 / 233. (
) الطبقات الكبرى : 5 / 169 . (
) حلية الأولياء : 2 / 199 .