مقالات الأعداد السابقة

بحوث في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله – الحلقة 15

 

رحلته إلى دار الخلود:

اشتياقه إلى دار الخلود:

عن جويرية بن أسماء قال: قال عمر بن عبدالعزيز: إن نفسي هذه نفسٌ تواقة، و إنها لم تُعطَ من الدنيا شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أُعْطِيَتْ الذي لا شيءَ أفضلَ منه في الدنيا ( يعني الخلافة ) تاقَتْ إلى ما هو أفضل من ذاك ( يعني الجنة )

قال سعيد: الجنة أفضل من الخلافة .

 

سبب الوفاة:

عن الوليد بن هشام قال: لقيني يهودي فقال: إن عمر بن عبد العزيز سيلي، ثم لقيني آخر ولاية عمر، فقال: صاحبك قد سقي فمره فليتدارك، فأعلمتُ عمرَ، فقال: قاتله الله، ما أعلمَه ! لقد علمتُ الساعة التي سُقِيْتُ فيها، و لو كان شفائي أن أمسح شحمة أذني و أوتي بطيبٍ فأرفعه إلى أنفي – ما فعلتُ.

عن مجاهد قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما يقول الناس فِيَّ ؟ قلتُ: يقولون: مسحورٌ . قال: ما أنا بمسحورٍ، ثم دعا غلاماً له فقال: ويحك ! ما حملك على أن تُسقيني السُّمَّ ؟ قال: ألف دينارٍ أُعْطِيْتُها، و على أن أُعْتَقَ. قال: هاتها، فجاء بها، فألقاها في بيت المال، و قال: اذهب حيث لا يراك أحد.

قلتُ ( القائل هو الذهبي ): كانت بنو أمية قد تبرمت بعمر، لكونه شدد عليهم، و انتزع كثيراً مما في أيديهم مما قد غصبوه، و كان قد أهمل التحرز، فسقوه السم .

عن ابن لهيعة قال: وجدوا في بعض الكتب: تقتله خشية الله، يعني عمر بن عبد العزيز .

 

تركة عمر:

عن سفيان بن عيينة قال: قلتُ لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: ما آخر ما تكلم به أبوك عند موته ؟ فقال: كان له من الولد أنا، و عبد الله، و عاصم، و إبراهيم، و كنا أغيلمةً، فجئنا كالْمُسَلِّمِيْنَ عليه و الْمُوَدِّعِيْنَ له، فقيل له: تركتَ ولدَك ليس لهم مالٌ، و لم تُؤْوِهِمْ إلى أحد ! فقال: ما كنتُ لأعطيهم ما ليس لهم، و ما كنت لآخذ منهم حقاً هو لهم، و إن وَلِيِّيْ فيهم اللهُ الذي يتولى الصالحين، و إنما هم أحد رجلين، رجلٌ صالح أو فاسق، وقيل إن الذي كلمه فيه خالهم مسلمة .

 

موضع دفنه :

عن أيوب قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، لو أتيت المدينة، فإن مُتَّ دُفنتَ في موضع القبر الرابع، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: و الله لأن يعذبني الله بكل عذاب إلا النار، أحب إلي من أن يَعلمَ اللهُ مني أني أراني لذلك الموضع أهلاً.

عن أبي أمية الخصي غلام عمر بن عبد العزيز قال: بعثني عمر بن عبد العزيز بدينارين إلى أهل الدير، فقال: إن بعتموني موضع قبري، و إلا تَحَوَّلْتُ عنكم.

عن مالك، أن صالح بن علي لما قدم الشام سأل عن قبر عمر بن عبد العزيز، فلم يجد أحداً يخبره، حتى دل على راهب فقال: قبر الصديق تريدون، هو في تلك المزرعة .

ولد عمر بن عبد العزيز رحمه الله سنة إحدى و ستين بمصر، وولاه الوليد بن على الملك على المدينة و هو ابن خمس و عشرين سنة، ثم استخلف بعد سليمان بن عبد الملك سنة التاسعة والتسعين لعشر مضين من صفر ، وتوفي في يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومئة، عن تسع و ثلاثين سنة و أشهر بخناصرة من دير سمعان من أعمال المعرة قريبة من حلب سوريا الشام، ودفن هناك، وكانت مدة خلافته سنتين و خمسة أشهر و أربعة أيام.      

 

كيفيته عند رحيله:

عن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عد الملك: كنتُ أسمع عمر في مرضه يقول: اللهم أخف عليهم أمري و لو ساعةً من نهار، فقلت له يوماً: ألا أخرج عنك، فإنك لم تنم، فخرجت عنه، فجعلت أسمعه يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين}. مراراً، ثم أطرق فلبث طويلاً لا يُسمع له حسٌ، فقلت لوصيف (الخادم) : ويحك أنظر، فلما دخل صاح، فدخلت فوجدته ميتاً، قد أقبل بوجهه على القبلة، ووضع إحدى يديه على فيه، و الأخرى على عينيه.

قالوا: و كان مرضه بدير سمعان من قرى حمص و كانت مدة مرضه عشرين يوما، و لما احتضر قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، و نهيتني فعصيت، ثلاثا، و لكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأَحَدَّ النظرَ، فقالوا: إنك لَتَنْظُرُ نظرا شديدا يا أمير المؤمنين ! فقال: إني لأرى حَضَرَةً ما هم بإنس و لا جان، ثم قبض من ساعته.

عن عبيد بن حسان قال: لما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: اخرجوا عني، فقعد ( مسلمة أخو فاطمة )، و فاطمة على الباب فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنسٍ و لا جانٍ، ثم قال: تلك الدار الآخرة الآية، ثم هدأ الصوت، فقال مَسلمةُ لفاطمة: قد قبض صاحبك، فدخلوا فوجدوه قد قبض .

 

بكاء و ثناء:

عن خالد الربعي قال: إنا نجد في التوارة أن السموات و الأرض تبكي على عمر بن عد العزيز أربعين صباحاً.

عن هشام قال: لما جاء نعي عمر بن عبد العزيز قال: الحسن البصري: مات خير الناس.

عن يوسف بن ماهك قال: بينا نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز، إذ سقط علينا كتابٌ من السماء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أمانٌ من الله لعمر بن عبد العزيز من النار .

 

تاريخ وفاته:

عن الوليد بن هشام القحذفي، عن أبيه، عن جده أن عمر توفي يوم الجمعة لخمس بقين من رجب، سنة إحدى و مائة، بدير سمعان، من أعمال حمص، و صلى عليه يزيد بن عبد الملك، و هو ابن تسعٍ و ثلاثين سنةً و ستة أشهر.

و قال أبو عمر الضرير: توفي بدير سمعان، لعشر بقين من رجب، و آخرون قالوا: في رجب، و لم يؤرخوا اليوم .

 

مدة خلافته:

عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ملك تسعة وعشرين شهرا مثل خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما كنيته أبو حفص .

و أبو بكر رضي الله عنه كانت خلافته سنتين و أربعة أشهر إلا عشر ليال.

 

المستفاد:

المستفاد من سيرة ذاك الرجل العظيم هو شيء واحد فقط، لا يحتاج بيانه إلى تمهيدات و لا ختامه إلى تعليقات، إنما هو: وجوب تولية الحكم و الأمر إلى أهله.

هذا فقط، فعمر بن عبد العزيز لم يكن إلا رجلا من المسلمين ومن بيت الخلافة، ولم يسلك في تغييراته تلك إلا المسلك العتيق، ولم يزد في الإسلام ولا نقص منه، بل عمل بما فيه فأتى بعجائب، فالرجل الكامل يعرف تطبيق الدين الكامل، ويكمل النقصان، ويزين الكمال، وأما الرجل الناقص فلا يعرف تطبيق الدين الكامل ولا يستطيعه بل ينقص من الدين الكامل قدر نقصان نفسه، وينقص من الكمال السابق قدر نقصانه أيضا.

فهذا عمر! حيث كان كاملا فأكمل من تنفيذ الدين ما نقص، و رفع من أعلام الإسلام ما سقط، أمن البر و البحر، و السهل و الجبل، حتى لم يكن للذئب أن يثور على الشاة، و لا للقاطع أن يصول على الركب، ولا للعامل أن يعتدي على الرعية و لا للقاضي أن يرشي أو يخون في الحكم.

ورفع مستوى الاقتصاد في مدة قصيرة إلى حد حيث كان المزكي يأتي إلى السوق العام ويعلن هل من قابض للزكاة؟ فلا يجد من يقبض زكاته، فيرجع بماله، ورفع مستوى العلم فجمعه و نشره.

وكل ذلك لأنه كان يحكم بنفس ملجمة من الاعوجاج، وطبيعة طاهرة من الأدران و الشهوات، ورجال أمناء أقوياء.

إلا أن شيئا نسيه بل تركه عمر شوقا إلى الجنة، ولا ينبغي لمن يقتدي به في الحكم أن ينساه أو يتركه – ألا و هو الحذر الكامل، وحراسة نفسه قبل الناس جميعا ومن سائر الناس جميعا، لأن الكل لا يرضى بتنفيذ الشرع مئة في مئة، لأن الخبث أكثر من الطيب، فمن كان فاعل أفعال عمر فليفعلها لكن ليحذر كل الحذر حتى من خاصته و أهل مجلسه ووزرائه وطابخ طعامه وساقي شرابه، لأن لا يُغتال كما أغتيل عمر، فقد ثبت أنه مات بالسم. رحمه الله. مع العلم بأن لا رادّ لقضاء الله.

كَثَّرَ اللهُ فينا أمثال عمر، فما أحوجنا إلى أمثاله اليوم. صلى الله على سيدنا محمد و على آله و أصحابه و من تبعهم بإحسان و دعى بدعوتهم إلى يوم الدين، ورحم الله عمربن عبد العزيز وأمه وأباه، ورجالات دولتهم فإنهم خير قدوة، ونسأل الله تعالى خالق عمر أن يوفقنا وولاتنا لمايحبه ويرضى به من القول والعمل والنية والهدي إنه على كل شيء قدير. هذا آخر ما كتبناه في سيرته، ونتلوها بسير أعلام أرض الأفغان، إن شاء الله. 27 جمادى الثانية 1435 هـ ق

 


_______

أبوسعيد راشد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى