انقلاب المفاهيم! (2)
يقول صاحب الظلال رحمه الله: “إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم. كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به – وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه – وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب. هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية، في ميزان الله سبحانه… ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى. وكان الابتلاء أشد وأعنف. ولم يثبت إلا من عصم الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير الإنسان.
في العدد الماضي نقلنا نبذة من سيرة الأستاذ سياف زعيم «مجلس شورى الحراسة والثبات» الذي شُكل تحت غطاء إصلاح الحكومة ومنحها المشورات النافعة. وبمناسبة المشورة؛ يقول سفيان الثوري في كتابه إلى عباد بن عباد: (إياك والأمراء …) ويقول: (من دق لهم دواة أو برى لهم قلماً فهو شريكهم في كل دم كان في المشرق والمغرب). رحمك الله يا سفيان الثوري، من دق لهم دواة أو برى لهم قلماً فهو شريكهم في كل قطرة دم، فكيف بمن أفتى لهم بجلب الكفار وناصرهم وفتح الأرض لهم وهم يقتلون المسلمين؟ كيف بمن أفتى لهم بقتال المجاهدين ومنع نصرة المسلمين كيف وكيف…؟ وعند الله تجتمع الخصوم. نكمل بقية المقال فنقول: كان للأستاذ سياف آرائه المتباينة، وقد صرَّح في حوار صحفي قبل سنوات بشرعية تواجد الأمريكيين في أفغانستان بحجة أن تواجدهم جاء نتيجة مطالبة مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة. وهذا ينافي تصريحاته أيام الجهاد والذي كان يقول: إن مجلس الأمن الدولي آلية أمريكا وإسرائيل. وكان يعتبر مهمة ممثل الأمم المتحدة آنذاك (بنين سيوان) مؤامرة من قبل أعداء الإسلام.
وكان لسياف شيمته الخاصة أيام الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، ويصفه أحد زملائه أنه كان يتّبع طريقة غريبة جداً في استقبال ضيوفه! فقد كان سياف ينظر في وجه ضيفه ويتفرّس فيه، وفي الغالب يكون الضيف مجموعة وليس فرداً واحداً، فإن وجدهم تبدوا على محياهم الهمّة الصادقة والإخلاص وحب الجهاد والاستشهاد، فهؤلاء يستقبلهم في جناح الزهد! وجناح الزهد هذا هو عبارة عن غرفة طينية! يفرش لهم سياف ردائه البتو ـ الرداء الذي يستعمله الأفغان فوق رؤوسهم- ويأتي لهم بطعام يتناسب مع الحال، ثم يحدّثهم عن الشهادة وفضلها والفتوحات والكرامات وهكذا في عامة الحديث. أما إن كان الضيوف من النوع الآخر وخاصة التجار والمنفقين المحسنين وذوي الهيئات من دول الخليج، فهؤلاء يُستقبلون في الجناح الرسمي، والحديث كله يكون عن المشاريع والبرامج والمصاريف والتكاليف والإحتياجات!. وهو الذي يقول الآن:علقوا جثث الاستشهادين على أبواب كابول ليعتبر بهم الآخرون.
وقد وصفه الأخ عبدالوهاب الكابلي بأنّ غضبه علی المجاهدین في سبیل الله تعالی كان أكبر من غضب قائد القوات الأمریكیة في أفغانستان! وأكبر من غضب أيّ جنرال صلیبي یقود الحرب ضدّ المجاهدین، مع أنهم أعلنوها حرباً علی الإسلام ولكنهم لم یأمروا بتعلیق أجساد المجاهدين علی المشانق عند بوابات المدن. أمّا هذا فقد أفتی بكل وقاحة أن قتال المجاهدین للصلیبیین وأعوانهم في أفغانستان (محاربة لله ورسوله)! وقد استشهد بالآیة القرآنیة: (إنما جزاء الذین یحاربون الله ورسوله ویسعون في الأرض فساداً أن یقتّلوا أو یصلّبوا أو تقطّع أیدیهم وأرجلهم من خلاف أو ینفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنیا ولهم في الآخرة عذاب عظیم).
ولم یكتفِ بهذا، بل أوصی الحكومة العمیلة السابقة في كابل أن تعلّق أجساد خمسة ممن یعاونون الاستشهادیین -وهو وصفهم بالانتحاریین- علی المشانق عند بوابات (كابل) وأن تترك جثثهم معلقة لمدة شهر للعبرة، وبعدها إن لم تتوقف سلسلة الهجمات الاستشهادية فهو یتحّمل المسؤولیة.
ولم یقف عند هذا الحدّ، بل أفتى بتحریم الحملات الاستشهادیة، وتحدّی علماء الإسلام أن یقدّموا دلیلاً واحداً علی جوازها. وهو الذي نصح الحكومة العملیة بعدم طلب السلام من الطالبان، بل أوصاها بدكّهم والقضاء علی قوتهم، لأنهم – بزعمه– لن یجنحوا للسلم ماداموا أقویاء. واستدّل لجنوح المجاهدین للسلم أوّلاً بالآیة القرآنية: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها). وأكدّ بالأیمان المغلّظة بأنّ مقاتلیه ــ الذین وصفهم بالمجاهدین ــ وحدهم یستطیعون أن یهزموا (الطالبان) في أفغانستان.
هذه الفتاوى والتصریحات الغریبة لیست لجنرال في حكومة كابول العمیلة، بل هي لتلك الشخصیة (اللغز) التي كان یعرفها العالم الإسلامي باسم (الشیخ عبد رب الرسول سیاف العالم الأزهري وقائد منظمة الاتحاد الإسلامي) الذي ظهر علی الساحة الأفغانیة طالباً للعلم الشرعي، ثمّ مدرساً لها في جامعة كابل، وبعدها عالماً أزهریاً، وابناً للحركة الإسلامیة، وأخیراً قائداً لمنظّمة إسلامیة ورئیساً للوزراء في حكومة الأحزاب الجهادیة الأفغانیة السابقة في المهجر.
يصفه أحد المعجبين بخطبه الرنانة النارية ويقول: “في منتصف الثمانينات وقبل أن أبلغ الحلم جئت مستمعاً له..! كان الزحام شديداً.. وتكبير الجماهير بين كلمة وأخرى أشد! وتنتهي المحاضرة الجهادية التي كانت تتضمن أكثرها قصص الملائكة وهي تقاتل جنباً إلى جنب معه!! وفي النهاية فُرشت البُسط فهنا شماغٌ أحمر.. وهناك شماغٌ أخضر، ولا عجب فالغزو لم يكن قد أتانا بعد! والبعض تحمس فرفع طرف ثوبه.. وابتدأ بعدها نشيد الحـلـب (ما نقص مالٌ من صدقة)! (ومن جهز غازياً فقد غزا ..!) نعم إنها أحاديث نبوية شريفة.. ولكن الذي ليس شريفاً هو ذاك المتلبّس بلباس الدين الذي جعله مفتاحاً لابتزاز المسلمين عن طريق الحجة الشرعية.. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي من منافق سليط اللسان ..!) يا الله إن سلاطة لسانه هذه لم تكن لتنفع وتؤثر إلا عندما استخدم بخبث منه الأدلة الشرعية..! وإن نفاقه لن يجعل النبي يخشى على أمته منه إلا بعدما تعلّم فنون العزف على الأحاديث النبوية ثم إجادته التمثيل على خشبة الجهاد ومسرح التدين المزعوم، ليكبّروا له بدلاً من التصفيق أكواماً من الجماهير المخدّرة، وضحايا متزايدة من أولئك الذين باتوا لا يفرقون حتى بين القتال من أجل إقامة ما يسمى بالحق الوطني وحق تقرير المصير عبر مظلة الأمم المتحدة وبين أولئك الذين يجاهدون لإقامة الدولة الإسلامية عبر مظلة القرآن والسنة. فشتان والله بين الراية العمياء تلك الراية الوطنية التي لا يتورعون عن التطبيل لها بل والمشاركة فيها وبين راية الإسلام الواضح البيّن والذي لا يشكك فيه إلا كل جاهل بالدين أو مارق أو عميل أو من أصابته زندقة الحقد على سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
نقول بأنه وبعد أن انهزمت روسيا وسحبت جيوشها بكل ذل وصغار؛ أراد المقاتلون الأفغان أن يتقاسموا السلطة انطلاقاً من مفهوم (التعددية السياسية) فجاءت قوات الشيوعي عبد الرشيد دوستم، وقوات حزب الوحدة، وقوات رباني وحكمتيار، وقوات وطنية أخرى كانت تدافع عن الحق الوطني الأفغاني وليس لإقامة دولة الإسلام، فوقف سياف خطيباً فيهم بعد سقوط مدينة خوست 1989م وقال بالحرف الواحد: (إن المشاركة بالحكومة المختلطة والقبول بالحكومة المحايدة مروق من الإسلام وغدر بالجهاد كله). ثم بعد خطبته العصماء هذه أصدر بياناً مقتضباً ومشتركاً مع بعض الفصائل الجهادية، وقد وُزّع على جميع الجبهات، وأُذيع في الوكالات الإعلامية، وأَقتطِفُ لكم فقرة مهمة من ذلك البيان الذي كان عنوانه (لماذا قلنا لا؟)؛ يقول سياف: (كيف يحق لأحدنا أن يتفاوض مع الشيوعية الكافرة موسكو بشأن تعيين مصير بلد إسلامي؟ وهل صارت موافقة الروس أو الغرب الآن شرطاً في تشكيل الحكومة الإسلامية القادمة في أفغانستان!؟ إن هذا الاتفاق المرفوض لهو مغامرة بجهاد ثلاثة عشر سنة مليئة بدماء الشهداء الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض ثم نأتي نحن من بعدهم لنضيع ما استأمنوننا عليه ونجعل مصير إقامة الحكم الإسلامي تحت رحمة (صناديق الاقتراع!) ليتساوى في الصندوق الشيوعي، والرافضي، والمسلم، وليتساوى الذي قاتل من أجل حكم الله، والذي قاتل من أجل الإلحاد والعفن الشيوعي وإقامة الدولة الوطنية ذات التعددية السياسية؟!).
كان سیاف فیما سبق یعتبر أمریكا من ألد أعداء الإسلام، ولم یكن یفرق بینهم وبین الروس الذین كان یحاربهم، ولكنه تحول من عدوّ لأمریكا إلی صديق معتمد لديها، وقد جلس مع بوش على مائدة يفصل بينهما رجل شيعي محمد محقق فقط وكان یقول عنها بالأمس: (….فكیف یُتوقّع أن یتفق الروس والأمریكان من أجل مصلحتنا؟ وهما من الكفرة الصلیبیین أو الیهود… فهذا الجهاد إنما هو جهاد إسلامي وسنحافظ علی أصالته بإذن الله، ولن نلقیه في حضن أحدٍ كائناً من كان. وسنمضي علی صراط العزیز الحمید مستعینین به ومتوكلین علیه دون أن نتعلّق بأذیال هؤلاء وهؤلاء) (افتتاحیة العدد السابع والثامن بقلم سیاف لمجلة البنیان المرصوص. أغسطس 1998م).
وهذا نص تحدّیه بالأمس: (وإنني أتحداكم أن تجدوا مبرراً شرعیاً في أيّ كتاب من الكتب الفقهیة والشرعیة یقول: إن الإسلام أجاز الجلوس أو التعامل مع المرتدین والزنادقة ناهیك عن مشاركتهم في القضایا المصیریة. هذا من الناحیة الشرعیة. وماذا نقول للعالم حیث یواجهنا بسؤال واحد محرج وهو: إذا كانت القضیة تُحل بالجلوس مع الشیوعیین فلماذا هذا الدمار الشامل؟ ولماذا هؤلاء الضحایا؟ ولماذا كلّ هذه الرزایا والبلایا التي حلت بأفغانستان بسبب تعنّتكم ضدّ (تراقي) و(أمین) و(كارمل) و(نجیب)؟. (خطاب سیاف في الندوة المفتوحة التي نظّمتها اللجنة السیاسیة لمنظمة سیاف یوم الثلاثاء 21/ مایو/ 1991م. مجلة البنیان المرصوص: العددان 36-37 یونیو 1991م).
روى عن عمران بن حصين رضي الله عنهما – مرفوعاً: “إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي: منافق عليم اللسان”. رواه أحمد1/22و44، والطبراني في الكبير. قال المناوي في (فيض القدير 1/52): كل منافق عليم اللسان: أي: عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مُغرٍ للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام.
وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر – رضي الله عنه -: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدرامي .
ونرجع إلى ما قاله الدكتور أمين رحمه الله: “من لي بمن يأخذ الدين الصناعي بكل ما فيه، ويبيعني ذرة من الدين الحق بكل ما أسمى معانيه”؟
ولي كبد مقروحة من يَبيعُني *** بها كبداً ليست بذات قُروح!