مقالات الأعداد السابقة

بين العلماء العاملين وخدّام الاحتلال

مسلميار

لن يُشوّه تاريخنا المجيد بأعمال بعض المعمّمين الذين يسوقهم الاحتلال إلى مطامعه وأهدافه، وإلى الذل والصغار، يسوقهم كي يؤيّدوه ويفتوا لصالحه بأنّ المجاهدين شذّاذ آفاق وأنهم عملاء لبعض البلاد الأجنبية. ولأجل ذلك، لم يمتنع أحدهم ولم يخجل بأن يفتي بقمع المجاهدين الذين يقارعون الاحتلال وذلك بشنق بعض الاستشهاديين وتعليقهم على بوابات كابول، ولو سألتهم عن الجهاد والمجاهدين لعدّوا أنفسهم من المجاهدين الأصليين، وأنهم ناضلوا السوفييت و…

ولكن منهم العلماء العاملين؟

هل هم الذين جلسوا على كراسي الاحتلال، يسوقهم حيثما شاء؟

لا وربّ محمد، إنّ هؤلاء لوصمة عارٍ في جبين العِلم المشرق.

إن العلماء العاملين هم الذين يجاهدون الاحتلال ويقارعون أعداء الملة والدين، ويحملون بين جنبيهم قلباً شجاعاً لا يطير خوفاً من ترهيبات الاحتلال ولا يقعون في فخّه بمطامعه المغرية.

ذكر الشيخ الطنطاوي رحمه الله بأسلوبه القصصي الرنّان قصة أحد هؤلاء العلماء الشجعان الفرسان وأهل الطيب، ونذكرها هنا:

“…وفي إحدى الثغور كان قتال بين جيش من المسلمين وآخر من الروم، ودار القتال على طريقة البِراز: خرج أحد أبطال الروم وطلب المبارزة ، فخرج إليه أحد المسلمين، فقتله الرومي، ثم برز له ثان وثالث فقتلهم، ومرّ النهار على ذلك. فلما كان اليوم الثاني برز له من المسلمين فارس ملثَّم، وما زال به حتى قتله، فهلّل المسلمون وكبّروا. وبدلاً من أن يتجه الفارس إلى الصف ليستقبله الناس هرب من خلفهم وتوارى عن الأنظار، فتبعه أحد الجند وما زال به حتى عرفه. أفتدرون من كان ذلك الرجل؟ إنه الإمام العالم المحدّث صاحب أبي حنيفة، عبد الله بن المبارك، الذي كان يحجّ سنة ويغزو سنة؛ ذلك أن علماء المسلمين كانوا يتطوعون ويسابقون الجنود إلى الجهاد في سبيل الله”.

وقد بحثتُ عن المصدر الأصلي لهذه القصّة فوجدتها رواها البيهقي بسنده:

أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّكَّرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سِنَانَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِطَرسُوسٍ، فَصَاحَ النَّاسُ: النَّفِيرَ النَّفِيرَ، قَالَ: فَخَرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَخَرَجَ النَّاسُ، فَلَمَّا اصْطَفَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْعَدُوُّ، خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يَطْلُبُ الْبِرَازَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَشَدَّ الْعِلْجَ عَلَى الْمُسْلِمِين، فَقَتَلَ الْمُسْلِمَ، حَتَّى قَتَلَ سِتَّةً من الْمُسْلِمِينَ مُبَارَزَةً، فَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةِ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ ابْنُ الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: “يَا عَبْدَ اللهِ إِنْ حَدَّثَ بِي حَادِثٌ الْمَوْتِ، فَافْعَلْ كَذَا”، قَالَ: وَحَرَّكَ دَابَّتَهَ، وَخَرَجَ فَعَالَجَ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَتَلَ الْعِلْجَ، ثُمَّ طَلَبَ الْمُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عِلْجٌ آخَرُ، فَقَتَلَهُ، حَتَّى قَتَلَ سِتَّةً مِنَ الْعُلُوجِ مُبَارَزَةً، ثُمَّ طَلَبَ الْبِرَازَ، فَكَأَنَّهُمْ كَاعُوا عَنْهُ، فَضَرَبَ دَابَّتَهُ، وَنَظَرَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَغَابَ فَلَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ، إِذَا أَنَا بِابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ، فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللهِ لَئِنْ حَدَّثْتَ بِهَذَا أَحَدًا وَأَنَا حَيٌّ، – فَذَكَرَ كَلِمَةً -، قَالَ: “فَمَا حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا وَهُوَ حَيٌّ”.

فنستنتج من هذه القصّة بأنّ العلماء العاملين الذين كانوا قريب العهد بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معتكفين على دروسهم فحسب؛ بل كانوا يجاهدون بل وكانوا على مقدّمة الجيش ورأس النفيضة، فكيف يليق بهؤلاء العملاء الذين يرتزقون من الاحتلال ويقتفون آثاره بأن يدّعوا بأنهم على الحق، ويفتوا ضدّ المجاهدين؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى