مقالات الأعداد السابقة

بين الفقر وتمجيده!

أبو غلام الله

 

يظنّ البعض أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفقر أو أنه كان فقيرًا؛ لأن أغلب المواد التي أخرجت لنا عن سيرة سيد الخلق وأشرفهم صلى الله عليه وسلم كانت تنقل لنا حادثة ربط المختار صلى الله عليه وسلم حجرًا على بطنه الشريف من شدة الجوع-فداه نفسي- وكأن هذه الحادثة جُل حياته.

ومن هنا تشكّلت ذهنية البعض في أن المال أصل كل شر، والزهد صفة الصالحين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فقيرًا، والله يحب الفقراء أكثر، والأغنياء صفتهم الطمع، والقناعة رأس مال الفقير.

ومن هذا المنطلق أصبح الكثير يستعيذ من الغنى، ويميل لا شعوريا للفقر حتى اتخذوه رمزًا للرضا والصبر، مُخدر مريح طرحهم في سبات عميق لا يستفيقون منه إلا على استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة).

أمرٌ عجيب.. أيستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر ونتقرب نحن إلى الله به؟! (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر).

وكيف يستعيذ المصطفى صلى الله عليه وسلم -مستجاب الدعوة- من الفقر ثم تُصور لنا حياته على أنه كان فقيرًا؟!

حادثة ربط الحَجَر على بطنه الشريف من شدة الجوع اختلف في صحة روايتها العلماء، فمنهم من ضعفها، ومنهم من صححها، ومنهم من قال إنما المقصود ربط ( الحُجُز) وهو حزام عريض يُلفُّ حول البطن والظهر كعادة العرب حتى يصلبوا ظهورهم ويشدوا بطونهم.

حتى وإن صحّت رواية تلك الحادثة، فهي كانت وقت غزوة الخندق، حين اجتمعت قريش مع بعض قبائل العرب (الأحزاب) وحاصروا المدينة، فعسْكر المؤمنون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم شمال المدينة، وحفروا الخندق مُدافعين عن الدين والأرض، وظل الحصار قرابة الشهر توقفت فيه حركة التجارة حتى نصر الله رسوله الكريم وصحابته.

فكان الوقت وقت حرب، والحال حال حصار، فما ظنك بقائد مثل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي بلغ حد الكمال من الإيثار.

تُجتزأ تلك اللقطة من حياته صلى الله عليه وسلم ثم يُصوّر لأذهاننا أنه كان فقيرًا وهو الذي قال عنه الله القدير: (ووجدك عائلا فأغنى).

وكيف نستعيذ نحن من الغنى وقد سأله المختار صلى الله عليه وسلم داعيًا: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى).

ولو كان المال أصل كل شر كما يدعي البعض، فأين نحن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس بن مالك رضي الله عنه حين أتت به أمه صغيرًا للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا رسول الله، هذا أنس خويدمك فادع الله له، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته).

فقال أنس بن مالك رضي الله عنه وهو شيخ مصدقا دعوة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: فوالله إنّ مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم.

وحين مرض سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وعاده النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال سعد: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال، ولا يَرِثُنِي إلا ابنةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بثلثي مالي؟

قال: لا.

قلت: فالشَّطْرُ يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير. إنك إن تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغنياء خيرٌ من أن تَذَرَهُم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناس!

أما هو صلى الله عليه وسلم فقد بلغ حد الكمال في الإنفاق، يدخر لأهله نفقة عام وينفق ما زاد عن ذلك، فكان غنيا زاهداً، يمتلك فيزهد، والفرق بين الزهد والفقر كفرق الليل والنهار، أيكون جواداً كريماً منفقاً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.. ونقول عنه إنه كان فقيرا!!

جاءه رجل ذات مرة يسأله، فأعطاه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم غنماً كثيرة يملكها سدت بين جبلين وقال له هي لك، فرجع الرجل إلى قومه ينادي فيهم: أسلموا.. فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

وكتب الله خمس الخمس من مغانم الغزوات فكان ينفقها كلها، وفي عام الوفود قدم إليه سبعون وفدا من شتى أرجاء الجزيرة العربية يبايعونه على الإسلام، فكان يُكرمهم ويُحسن ضيافتهم من ماله.

كيف يكون فقيرًا وهو الذي اشترى أرض المسجد، وأقام بيته على جزء منها؟ وكان لديه ناقة تسمى القصواء، وهي التي هاجر عليها، وأخرى تسمى الجدعاء، وثالثة اسمها العضباء لا تسبق، وله بغلة تسمى فضة، وفرس يسمى السكب.

كيف يكون فقيرا وهو أصغر من قاد قافلة تجارية في مكة عندما اصطحبه عمه أبو طالب في رحلة تجارة معه للشام، وبلغ عدد رحلاته ثلاثة وعشرين رحلة، وعرف عنه صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة الصدق والأمانة والكياسة في التجارة، فعرضت عليه السيدة خديجة رضي الله عنها مشاركته بالمال في تجارته، فأفاء الله الواسع عليه الخير الكثير.

والفقر ليس عيبًا، إنما تمجيد الفقر هو العيب، واتخاذه مُسكّنا يثبّط العزائم قهرًا.. ماذا صنعنا للفقراء؟ هل أغنيناهم عن الحاجة أم زاحمناهم فيها؟

لذلك حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار، يتكفف الناس فسأله فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى: حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وَقَعْبٌ نشرب فيه من الماء، قال ائتني بهما، فأخذهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقال: «من يشتري هذين؟»

فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم.

قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من يزيد على درهم؟ مرتين، أو ثلاثاً».

قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه.

وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُّوماً فأتني به (القدوم هي حديدة ينحت بها الخشب ليكون حطبا).

فاشترى الرجل القدوم وأتى به للنبي صلى الله عليه وسلم، فشد فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عوداً بيده، ثم قال: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما»، ففعل، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً. فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى