مقالات الأعداد السابقة

بين رقي الإسلام وتوحش الديموقراطية

قال أحد الأساتذة في خطبته: “بعد ما أشرقت شمس الرسالة على أهل الأرض، فكانت لهم سراجاً منيراً، فأنعم الله بها عليهم نعمة لا يستطيعون لها شكراً، وأهل الكتاب وقتئذ مترقبون ينتظرون، فلما أشرقت من مكة ببعثة محمد بن عبد الله كفروا بها وجحدوها إلا قليلاً منهم. فكان منهم من أسلم فسلم، وآمن فأمن، وكتب له الأجر مرتين فكان الإسلام عليهم نعمة والمسلمون لهم رحمة وكان منهم من أخذه الكبر والحسد، فكفر وجحد ومنذ ذلك الحين وهم يكيدون للمسلمين كيداً ليردوهم عن دين الله فرداً فرداً، سلكوا في ذلك جميع السبل والوسائل، ونفذوا من أجله مخططات الأواخر والأوائل، فمرة مكر وخديعة في ثوب الناصح الأمين، ومرة غصب واستعمار، تحت كل ستار، فكل ما يريدونه من الأعمال المنكرة، يسمونه حرية، ومدنية وديمقراطية، وما لا يريدونه يسمونه تخلف وهمجية، وإرهاب ورجعية”.

إن المستعمرين يحاولون في أحقاب التاريخ تغيير بنية المجتمع المسلم وطمس هويته طمساً جذرياً وذلك بسلخه عن دينه وإسلامه وتربية جيل معجب بالحضارة الغربية والفكر اللاديني المادين ولقد نجح الغربيون إلى حدٍ ما في أوساط الناس وكثير من العوام، ولكن وقف في وجههم في كل مكان من العالم الإسلامي العلماء العاملون الذين يعتزون بدينهم وكرامتهم وينظرون إلى الفكر الدخيل نظرة ريبة وكراهية وإنكار، ولقد كان هؤلاء العلماء المسلمين أكبر عقبة في وجه الغزو الفكري؛ فلجأ المستعمرون عن طريق صنائعهم إلى حرب العلماء وإزاحتهم عن الطريق بأساليب مختلفة، منها إفقار العلماء حتى لا يحصلوا على لقمة العيش إلا على حساب كرامتهم، وتراهم للأسف في معظم بلاد المسلمين أفقر الناس، ليس في وسعهم أن يجدوا ما يسد رمقهم؛ والغاية من ذلك أن ينصرف الناس عن تعليم أبنائهم تعليماً دينياً شرعياً وليُقضى على هذه الفئة بانتهاء آجالهم فلا يخلفهم أحد.

وأحياناً يمثلون شخصية العلماء في المسرحيات والكتب والمقالات بأسلوب ساخر، ويصورون أهل العلم على أنهم قوم بلهاء طمّاعون يأخذون ولا يعطون، وليست عندهم ثقافة ولا ذكاء. وفي المقابل لا نجد مثل هذه النظرة في أتباع الديانات الأخرى لرجال الدين عندهم. إنه من المؤسف حقاً أن المستعمرين نجحوا إلى حد بعيد في هذا الأمر، ويجتهدون ليل نهار لتجريد العلماء من المجتمع والمجتمع منهم، فليس لهم مكان في الحقائب الوزارية ولا في سياسة وحكم، وقد انفصل الدين عن السياسة فعلاً في أكثر الدول الإسلامية.

نحن نعرف أن عداوة الكفار للمسلمين قضية مقررة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة، بيّنها الله في القرآن الكريم، وشهد بها التاريخ والواقع الأليم، فمن لم يقنع ببينة القران، فليشاهد ما يجري بالعيان في الدول الإسلامية التي تئن تحت وطأة الاستعمار والاحتلال.

فهذه أوروبا أرسلت إلى بلاد الإسلام موادها السامة وغازاتها الخانقة، فخنقت بها روح الإسلام، وشوّهت مرآه، وطمست معالمه، وهجمت على الإسلام بخيلها ورجلها، وحاربته ولا تزال تحارب بكل ما أوتيت من المكر والخداع والمهارة والسياسة والدسائس وآلات التخريب والتدمير، فعقدت المؤتمرات تلو المؤتمرات، وأبرمت المعاهدات تلو المعاهدات، وأرسلت جمعيات التبشير ووزعتها في أطراف البلاد طولاً وعرضاً، وأجرت أنهاراً وجداول من أنواع المسكرات في المدائن والقرى لتجفيف العقول ومسخ النفوس.

وجهزت جيشاً جراراً من بنات الهوى، وفتحت أبواب المراقص والفجور على مصارعها في أنحاء البلاد الإسلامية؛ لقصف الأعمار وإفساد النسل واكتساح الجيوب. واستحوذت على موارد الثروة العمومية فأفقرت العباد وأقفرت البلاد؛ فثقلت وطأة البؤس والشقاء على البشرية. فعلت كل ذلك وغيره ضد الإسلام لكن بعنوان التمدن ومقتضيات الحضارة ومقاومة الوحشية والهمجية والإرهاب.

إن عداء الكفار للإسلام والمسلمين سنّة متوارثة بينهم، وهم يشجعون كل من أهان الإسلام وشعائره، ففي صيف 2007 التقى الرئيس الأميركي وقتها جورج بوش في المكتب البيضاوي عشرة من المذيعين الأميركيين والمعروفين بهجومهم على الإسلام، نيل بورتز كان من أبرز المشاركين في اللقاء مع بوش -وهو مذيع مشهور بعدائه للإسلام والمسلمين- شنّ بعد اجتماع البيت الأبيض بأيام، هجوماً لاذعاً وغير مهذب ولا مبرر ضد المسلمين، واصفاً إياهم بالـ”الصراصير”، لأنهم يصومون في نهار رمضان، ويأكلون في الليل في برنامج إذاعي يقدمه، وكان قد وصف الإسلام قبلها بأنه “فيروس مميت، ينتشر في جميع أنحاء أوروبا والعالم الغربي”، مضيفاً “سوف ننتظر طويلاً جداً حتى نطوّر لقاحاً لنكافحه به”.

الرئيس الفرنسي ساركوزي شن حرباً ضروساً على الحجاب حين كان وزيراً للداخلية مما أدى في نهاية المطاف لحرمان طالبات فرنسيات مسلمات من حقهن في التعليم تحت ذريعة أن علمانية الدول تتناقض مع الرموز الدينية، في حين كان الطلاب ولعقود يتمتعون بحقهم في ارتداء الصلبان ولبس قبعة الكيبا.

في صيف 2010 قامت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بتكريم الرسام الدانماركي كيرت فيسترغارد صاحب الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بتسليمه جائزة حرية الصحافة في ختام ندوة دولية حول وسائل الإعلام في برلين، قائلة: إن مهمة فيسترغارد هي الرسم، مشددة على أن “أوروبا هي المكان الذي يسمح فيه لرسام كاريكاتير برسم شيء كهذا”، مضيفة: “إننا نتحدث هنا عن حرية التعبير وحرية الصحافة”. فيسترغارد حصل على جائزة التقدير “لالتزامه الراسخ بحرية الصحافة والرأي وشجاعته في الدفاع عن القيم الديمقراطية على رغم التهديدات بأعمال العنف والموت”.

أعطت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية في 16/6/2007 سلمان رشدي صاحب كتاب آيات شيطانية المسيء بشدة للإسلام لقب الفارس (سير)، في إطار منحها سنوياً أوسمة لمجموعة من الشخصيات تقديراً لإنجازاتها.

هذه نماذج لمواقف من شخصيات غربية رسمية تظهر بوضوح جانباً من الأجواء الموبوءة والتي حفزت وشجعت عديدين على الإساءة إلى الإسلام وحرماته.

ومن صفحات التاريخ تذكروا الجرائم الشنيعة، والعظائم الفظيعة، التي ارتكبها النصارى في الأندلس، أجبروا المسلمين على التنصر، وحوّلوا مساجدهم إلى كنائس، وأتلفوا الكتب الدينية والمصاحف.

تذكروا الحروب الصليبية الكبرى التي شنها النصارى على الشرق الإسلامي طيلة قرنين من الزمان، كم ارتكبوا فيها من المذابح. ففي الحملة الأولى فقط أبادوا أهل أنطاكية، وذبحوا في القدس أكثر من سبعين ألفاً من المسلمين، وخربوا ديار المسلمين.

إن أعداء الإسلام في أحقاب التاريخ بذلوا أقصى جهودهم في سبيل محو دين الله وإطفاء نوره. إنهم يكنون الكراهية العمياء لهذا الدين، وقد وقفوا في وجه الدين وقفة العداء والكيد وحاربوه بشتى الوسائل والطرق حرباً شعواء لم تضع أوزارها حتى اليوم، وعملوا ليل نهار في سبيل البحث عن طرق تشويهه؛ ظناً منهم أن هذا سيُوقف التحول المتواصل إلى الإسلام. إنهم يدسون ويكيدون محاولين القضاء على هذا الدين القويم، ولكنهم فشلوا في هذه الأمنية فشلاً ذريعاً لأن نور الله لا تطفئه الأفواه ولا تطمسه النار والحديد. لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين القويم فكان من المحتم أن يكون. وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ظاهراً على الدين كله بإذن الله تحقيقاً لوعد الله الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل.

فالله تَعَالَى أنزل إلينا شريعة سمحة فطرية تتعامل مع الإِنسَان في كل زمان، ومكان، في كل بيئة ببساطة، ووضوح ويسر، وهكذا يجب أن ننظر دائماً إلى هذا الدين، وإلى هذه الشريعة، ونحمد الله تبارك وتعالى أنه أنزلها إلينا.

للأسف الشديد جاء اليوم على المسلمين زمان ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم، وعن حماية عقيدتهم، وعن حماية نظامهم، وعن حماية أرضهم، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم. وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم ! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون المحتلون كل معروف عندهم، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم، كل منكر من العقائد والتصورات، ومن القيم والموازين، ومن الأخلاق والعادات، ومن الأنظمة والقوانين، وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقح والتعري من كل خصائص “الإنسان”. ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عنوانات براقة من “التقدم” و”التطور” و”العلمانية” و”العلمية” و”الانطلاق” و”التحرر” و”تحطيم الأغلال” و”الثورية” و”التجديد”… إلى آخر تلك الشعارات والعناوين. وأصبح “المسلمون” بالأسماء وحدها مسلمين وباتوا غثاء كغثاء السيل لا يمنع ولا يدفع. هكذا وصف أحد العلماء شأن المسلمين اليوم.

قال أحد المستشرقين: “إن أوروبا لا تستطيع أن تنسى ذلك الفزع الذي ظلت تحس به عدة قرون والإسلام يجتاح الامبراطورية الرومانية من الشرق والغرب والجنوب”. وقال آخر محذراً قومه من عودة الجهاد إلى نفوس المسلمين: “إن الشعلة التي أوقدها محمد ـ ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم ـ في قلوب أتباعه لهي شعلة غير قابلة للانطفاء”. من أجل ذلك جنّد العدو أشياعه من العلمانيين ودعاة التغريب لطمس روح الجهاد الذي لا يمكن لهم طمسه مهما أوتوا من حيلة والله غالب على أمره.

احتلت أمريكا بلادنا بحجة إرساء الديمقراطية بها، وبلا شك إن صفقة الديمقراطية الغربية باتت خاسرة في أرضنا عند شعب يعرف كيف يحكم نفسه بنفسه في ظل الإسلام الوارف.

إن بلادنا قدمت في سبيل الإسلام كل غالٍ ورخيص ونفسٍ ونفيس وإن قيام الديمقراطية كما يقولون يرتبط بتوفر شروط أساسية أهمها “العلمانية” فالديمقراطية نظام للحياة قائم على حيادية الدولة تجاه القيم الدينية والأخلاقية انطلاقاً من قاعدة أساسية للبناء الديمقراطي تتمثل في “حرية العقيدة” أي حق الأفراد المطلق في تبني ما يشاؤون من عقائد دون تدخل من أحد، ودونما تأثير على مسار المجتمع والدولة، وذلك لاندراج العقيدة ضمن الخيارات الفردية التي لا يجوز للدولة التدخل فيها بحال من الأحوال. فشتان بين ديمقراطية الغرب والانحلال وقداسة الشريعة والإسلام.

العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله – في رحاب العقيدة – وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنساناً عن إنسان، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله، المتضمن كيانه نفحة من روح الله.

إنالإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأنيقيمفيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله أخوة متعارفين متحابين. وليس هنالكمنعائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله. فأما إذا سالموهمفليسالإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومةيستبقيأسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذييقتنعفيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام منهذااليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.وما ذلك على الله بعزيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى