بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ
محمد داود المهاجر(فك الله أسره)
بيوت صغيرة وزنزانات، يسكنها ويقطن فيها واحد أو اثنين، وأقفاص كبيرة تسع لثلاثين شخصًا، لكل رجل متر في مترين؛ فهو مأواه وهو مسكنه، وهو مغذاه وهو مشربه.
إن هذه البيوت، بيوت سوداء، مظلمة محقرة، فيها سلاسل وأغلال، فيها ضجات ورجّات، فيها أنّات وآهات، أبدان نحيفة قد أكلتها أسواط التعذيب، ونالت منها الإهانات والازدرائات؛ ولكنها من جانب آخر فيها سكون القلب، وراحة الروح، فيها نور العلم والأفكار، فيها تألق العقيدة، وحرية الأحرار؛ لايُطَأطِؤون رئوسهم، ولا يَنحنون أصلابهم، ولايركعون إلا لواحد هو الله.
نعم، هو السجن وما أدراك ما السجن، قطعة من العذاب، ابتلاء من الله، ولقائل أن يقول: مقبرة للأحياء. نعم، هو موت قبل الموت وإهانة واستهزاء، واحتقار بما لم تره من قبل ولم تسمعه من أحد. ذل وهوان، عرضك ومشاعرك بأيدي مجرمة، يتلاعبون بها كيفما بدا لهم؛ ولكنه رغم المآسي القاسية، والأزمات الخانقة، سلّم للرقي، رهبانية وغارٌ مثل حراء، كهف من الفتن للشباب السعداء، وفراغ من الشغل، وفرصة ذهبية لاقتناص بعض من صيود العلم، وتجربة للعمل، ودرجة عالية للصابرين على جمر المخاطر محتسبين، وفي خضم البلايا، لله مخلصين.
وللمؤمن في شؤونه كلها خير، كما جاء في الخبر الصحيح قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ “.
ولقد قضيت ثلاث سنوات إلا بضعة أشهر في باغرام، في تلك الزنزانات المظلمة، الضيقة، الموهنة وعلى وجه التحديد من غرة سنة ١٣٩٤ هـ.ش وبعدها سنتين في بلتشرخي وشاهدت فيهما ما شاهدت ورأيت ما رأيت.
نعم، وكان من مظالم هذه الحكومة العميلة وأعنفها، وأشدها همجية وجورا، بجنب جميع مجازرها الهائلة وتدميراتها الممنهَجة الدُّورَ والمساجد، هو إلقاء القبض على الأبرياء والعُزل، وتعذيبهم، والحكم عليهم بسنين طوال في السجون، ولاحول لهم ولاقوة ولاسلطان؛ وفيه ما فيه من العوائق والنكبات لأنه دار المهانة والإذلال.
معتقل باغرام من أشد المعتقلات العالَمية عنفا وتعذيبا، يسيئون فيها معاملة السجناء إساءة قد ظلت فضائحها وصمة عار على جبين أميريكا وعملائهم.
يقع هذا المعتقل في بلدة باغرام في محافظة بروان الأفغانية شمال كابول على بعد ثمانين كيلومترا.
قبل سنوات، وتحت إطار برنامج حكومي، أراد العدو الغاشم نقل السجناء من محافظاتهم إلى سجن باغرام الأمريكية الشهيرة وما كان هذا الانتقال إلا ورقة ضغطٍ على المجاهدين الأسرى وتضييق إطار الضغوط الروحية والبدنية عليهم، ومكروا في ذلك، وبيّتوا الحيل، ونسجوا مكايد شتى.
إن هذا المعتقل وإن فُوّض أمره إلى عساكر الأفغان أخيرًا ولكن مازالت الإدارة العامة للشؤون الإدارية والمالية في أيدي الأمريكان، وإليهم تنتهي التنكيلات والمضايقات، فلم تتغير الحال ولم يأت هذا التطور إلا بيسير من السهولات لتنفيس بعض الكرب.
العدو أراد بهذا النقل إلى أصعب المعتقلات أن يجعل من المجاهدين السجناء هناك مجانين وأصحاب الأبدان والأفكار الضعيفة؛ المنهزمين روحيًا وفكريًا وقطعوا كل صلة لهم بالعالم الواقع في الخارج من المعتقل.
ولكني لما رأيت وأبصرت الحقيقة، وقضيت فيهم سنوات، شاهدت منظرا آخر، شاهدت أن الزنزانات أصبحت غرفا لحلقات تحفيظ القرآن ودراسته وتفسيره، عاكفين على علوم الدين وكسبها؛ ليس غرفة ولا زنزانة إلا وفيها حلقة من حلقات التحفيظ أو قراءة القرآن وممارسة العلوم الشرعية والعصرية، تعلما فارغا عن المشاغل والملاهي التي مشغول بها المعتقلون في سائر الأقطار من المعتقلات بالهواتف والتلفاز وغيرها من الألعاب والمكاسب الاقتصادية من فتح دكاكين، وبيع وشراء، بما فيها من كسب نقود وفلوس.
ظل معتقل باغرام مدرسة للمتعطشين للدين وعلمه، للذين تركوا المدارس والكليات من قبلُ، لقتال المحتلين وعملائهم واضطروا إلى ذلك؛ ولكن قدَر الله حكم عليهم بما هو خير لهم وأسكنهم حدائق ذات بهجة معنوية؛ وتراجع أمرهم إلى الدور السابق في تحصيل العلم وتزكية النفوس؛ الأساتذة والتلاميذ كلهم موجودون في زنزانة واحدة ويتراجعون بينهم الدروس ويمارسون بينهم الخطابات وينشدون الأناشيد الأدبية والإسلامية وتعتريهم نشوات من الفرح والسرور ويزدادون قوة في الروح والمعنى وقوة في الصبر والعقيدة ولم يتخلفوا رغم كل ما يلقون من معاناة ومآسي، عن أمانيهم ومبادئهم قيد شبر ولا أقل من ذلك، بل ازدادوا قوة وصلابة، عقيدة وصلاحا؛ وتعلموا مالم يعلموا من قبل.
كنا من بكرة الصباح إلى المساء مشغولين بالدروس ومراجعة الكتب ولم نشعر بتعب ولا نصب.
كنا نظن كأننا تركنا وهاجرنا البيوت لسنوات نقضيها في جامعة كبيرة تقع بعيدا من بيوتنا؛ وبعد قضاء سنوات متتالية، سوف نرجع إلى أهالينا وقد اكتسبنا بعضا من علوم الدين وتحلّينا بحلية العلماء وسلكنا مسلك ورثة الأنبياء.
لا ترى شهرا إلا وتسمع أنها حفلات عُقدت لتكريم القراء والحفاظ والعلماء وإجلال مكانتهم؛ فقد أصبح باغرام كلية وجامعة شرعية لكسب المعالي والسعادة.
نعم، دارت الدائرة على الكفار وعملائهم، وانقلب السحر على السحَرة، ولم يحصدوا من جعل الأيام مريرة للسجناء والمعتقلين، إلا ندامة وغيظا؛ وحصائد ماكانوا يتربصونها لهم، هو الوعي العلمي والتعليمي وصلاح الباطن وتجربة أيام مُرّة.
نعم، صار الاعتقال بقدَر اللهِ خيرا للمجاهدين، أصبح كفارة لذنوبهم، ممارسة لما جهلوا وجامعة لما تعلموا وديرا لتزكية النفوس.
وجاء في الخبر الصحيح قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ “.أي: ابتلاه بالمصائب ليثيبه عليها ويطهره بها من الذنوب.
يوما من الأيام تلاقيت مع شاب مجاهد من ولاية بدخشان، كان يقص لي قصته وما جرى له في السجن قبل نقله إلى باغرام، إنه أشار إلى أنه كان في سجن الولاية عاطلا خائضا في الملاهي والملذات، لايبالي بأمور الدين؛ ولكن ذلك الشاب المغامر لما انتُقل إلى باغرام أصبح تقيا تائبا من الذنوب، حفظ القرآن الكريم كاملا وكان يُسمعني في النوافل. أصبح بارا مخلصا وتابعا للشريعة والسنة النبوية ومرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ونال بذاك الفضل والبشرى.
فالله حكيم في صنعه وعليم بما لانعلم.
إذا ما أتاك الدهر يوما بنَكبة فأَفزع لها صبرا ووسّع لها صدرا
فإن تصاريف الزمان عجيبة فيوما ترى يسرا ويوما ترى عسرا