مقالات الأعداد السابقة

ترشيد العمل الجهادي وحتى لا تتكرر الأخطاء (الحلقة 2)

الشيخ محمد بن عبدالله الحصم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

أما بعد: فهذه المقالة الثانية بعنوان: “ترشيد العمل الجهادي وحتى لا تتكرر الأخطاء” لتصحيح المسار للعمل الجهادي ببيان الأخطاء التي يقع فيها المجاهدون، والتي أزعم أنها سبب ما نحن فيه من التشظي والتشرذم، وهي بلا شك سبب في تأخر النصر، الذي جعل الله له أسبابا نحصِّل بها معية الله والظفر على الأعداء، فالله لما وعدنا بالنصر وعدنا به مشروطا لا مطلقا.

وهذا من باب النصيحة وليس جلداً للذات، فالمجاهدون ليسوا معصومين، يقع منهم الغلط، ويجوز أن يضل منهم من يضل بله عن الأخطاء، وإن كنت أزعم أن من اعتنى بالعلم الشرعي من المجاهدين بأنهم الأكثر تجرداً للحق، والأرحم بالخلق، ولكن لا يمنع هذا من نصحهم وعليهم أن تتسع صدورهم لهذا النقد، وأن يحسنوا الظن بإخوانهم الناصحين، كيف وقد قال النبي ﵆: (الدين النصيحة).

وكيف وقد تخلف النصر عن الصحابة في أُحُد لمعصيتهم الرسول ﵆، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَد صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعدَهُ إِذ تَحُسُّونَهُم بِإِذنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلتُم وَتَنَٰزَعتُم فِی ٱلأَمرِ وَعَصَیتُم مِّن بَعدِ مَا أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ﴾

وقد بين الله للصحابة من أين أتوا في أحُد فقال عز من قائل: ﴿أَوَلَمَّا أَصَٰبَتكُم مُّصِیبَة قَد ‌أَصَبتُم مِّثلَیهَا قُلتُم أَنَّىٰ هَٰذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیء قَدِیر﴾.

فلم يكن إسلامهم مانعا من بيان أخطائهم وما وقعوا فيه، كما لم يكن وجود النبي ﵆ بين أظهرهم مانعا من ذلك.

فكيف يريد منا البعض السكوت وعدم النقد وأن نترك بيان الأخطاء التي يتخلف معها النصر الموعود، ويكلنا الله ﷿ لأنفسنا، ولا غنى لنا عنه سبحانه طرفة عين، ولا حول ولا قوة إلا به، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.

ومن وقع في هذه الأخطاء إما أن يكون اجتهادا من أشخاص لهم تاريخهم في العمل الجهادي وعرف عنهم التحري والصدق، فهؤلاء يبين لهم خطؤهم ويناصحون بالتي هي أحسن، ويحفظ لهم سابقتهم في هذا الباب.

أما المناهج المنحرفة من أدعياء الجهاد الذين هم أبعد ما يكونون من هدي المصطفى ﵆، فنقدهم وفضحهم أمانة في عنق كل من علم حالهم، وعرف ضررهم على الجهاد وأهله.

 

الأول: الجهل بمعنى الانتصار الحقيقي

فالمعنى الحقيقي للانتصار ليس الظفر بالعدو والعلو عليه على كل حال، بل أساسه وأصله هو الثبات على الحق وحسن الاعتقاد حتى يلقى العبد ربه ﷿، وكفى بالثبات على الحق انتصارا على العدو وعلى النفس وعلى الشيطان، فلو مات على هذا ولم تزعزعه هذه الأمور ولم يغيِّر ولم يبدِّل، ولم يرضخ لضغط الواقع المنحرف فوالله لقد نصره الله في دنياه نصرا مؤزرا، ونصره على الشيطان والباطل انتصارا عظيما، وإن لم تكن له الكرَّة في المعركة، فلو انتصرنا في المعركة، ثم انحرفنا عن مبادئنا، وغيَّرنا وبدلَّنا، وقلنا كما قال بعض المخذولين: “مصالحنا فوق مبادئنا”، فهل هذا النصر حقيقي؟

لا والله بل هو الخذلان والهزيمة، فالمعركة قبل أن تكون بالسلاح والخيول هي معركة مبادئ وقيم، ومعركة حق وباطل، إذا عرفت هذا، عرفت كيف وعد الله رسله بالنصر في الدنيا كما قال ﷿: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا فِی ٱلحَیَوٰةِ ٱلدُّنیَا وَیَومَ ‌یَقُومُ ‌ٱلأَشهَٰدُ﴾

وكيف أن بعض رسله قضى مقتولا، أو مات في التيه، أو هزم في بعض المعارك، فإذا فهِمت ذلك فهِمت معنى الانتصار الحقيقي، فنصر الله لهم كان بثباتهم على الحق والصدع به، وتبليغ رسالة ربهم حتى قضوا نحبهم.

 

الثاني: اليأس من النصر، والشك في موعود الله

وهذه طامة، أو يرى أن الكفر لن يُهزَمَ، وأن دولة الباطل ستستمر، وهذا هو الظن بالله ظن الجاهلية الذي ذم الله أهله بقوله تعالى: ﴿وَطَائِفَة قَد أَهَمَّتهُم أَنفُسُهُم یَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَیرَ ٱلحَقِّ ‌ظَنَّ ‌ٱلجَٰهِلِیَّةِ یَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمرِ مِن شَیء قُل إِنَّ ٱلأَمرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ یُخفُونَ فِی أَنفُسِهِم مَّا لَا یُبدُونَ لَكَ یَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمرِ شَیء مَّا قُتِلنَا هَٰهُنَا قُل لَّو كُنتُم فِی بُیُوتِكُم لَبَرَزَ ٱلَّذِینَ كُتِبَ عَلَیهِمُ ٱلقَتلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِم وَلِیَبتَلِیَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُم وَلِیُمَحِّصَ مَا فِی قُلُوبِكُم وَٱللَّهُ عَلِیمُ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾.

إن لله ﷿ حكمة في تأخير النصر أو تخلفه، وإن استعجال النصر غير مُجدٍ، والمطلوب من العبد هو بذل أسباب النصر، واستكمالها حتى يأتي وعد الله الذي لا يتخلف، وهذا من الصبر الواجب، فيجب على المسلم أن يثبت على جهاده وصبره، وكلما حصل انكسار اتهم نفسه بالتقصير، ولم يسئ ظنه بربه.

 

الثالث: انتظار الخوارق والنصر بمجرد القتال في سبيل الله والصدق في ابتغاء ما عند الله

ولم يَعرف من هذهِ حالهُ حقيقة هذا الدين، فالله لا يعجزه ذلك، ولكن جرت سنة الله الكونية وحكمته البالغة على خلاف هذا قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَلَو یَشَاءُ ٱللَّهُ ‌لَٱنتَصَرَ مِنهُم وَلَٰكِن لِّیَبلُوَا بَعضَكُم بِبَعض﴾. نعم يريد الله منا نشر هذا الدين بحدود طاقتنا البشرية، فلذلك من عرف سنة الله في تشريع الجهاد والتدرج فيه، وكيف أن النبي ﵆ لم يقاتل في مكة، مع إجرام المشركين بأهل الإيمان، وبعض أصحابه يقتلون بين يديه، وما كان النبي ﵆ يملك إلا أن يصبّرهم فيقول: (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وجاءه الصحابة يطلبون منه أن يستنصر لهم ويدعو الله لهم كما في الصحيح من حديث خباب بن الأرت ﵁ قال: شكونا إلى رسول الله ﵆ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا. قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم ‌تستعجلون).

وعلم أيضا أن الذي شرع الجهاد قد شرع الهدنة مع الكفار لمصلحة نحو ضعف المسلمين، فالهدنة شرع منزل كما أن الجهاد شرع منزل، وبكلٍ عمل النبي ﵆.

وكذلك إن علم أن المؤلفة قلوبهم في الزكاة ذكر منهم الكافر يعطى لكف شره، واطلع على صلح الحديبية وشروطه، وعرف لِمَ تخندق المسلمون في غزوة الأحزاب ولم يخرجوا لقتال العدو، وفقه هذا كله، علِم أن القتال ليس خيارا وحيدا في كل مرحلة، وفي أي وقت، ومع أي عدو، وكل ذلك يرجع للاعتبار والمصلحة والمفسدة، وهذا ليس لكل أحد بل لأهل الحل والعقد من العلماء الربانيين، يتشاورون في تحقق المصلحة من القتال، ولا بد من استشارة أهل البلد، لأنهم من سيتحمل عواقب هذه الحروب، كما فعل النبي ﵆ عندما عرض عليه الحارث الغطفاني بترك الأحزاب بنصف ما يخرج من ثمار المدينة، لم يستشر النبي ﵆ أبا بكر وعمر ﵄، بل استشار أهل البلد وهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ﵄.

فلنعط القوس باريها، وما خاب قوم أمرهم شورى بينهم، وكيف والنبي ﵆ على كمال عقله، والوحي ينزل عليه من السماء يأمره ربه بالشورى فيقول: ﴿وشاورهم في الأمر﴾، وقال تعالى في سياق مدح المؤمنين: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ وهكذا كان يفعل ﵆.

وسيد قطب في ظلاله عند تفسيره لسورة آل عمران، عند سرده للحقائق المستفادة من هذه الغزوة، ذكر هذه الحقيقة الكبرى في أولها فقال ﵀: “إن البعض ينتظر من هذا الدين- ما دام منزلاً من عند الله- أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب! ودون أي اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقاتهم الفطرية، ولواقعهم المادي، في أي مرحلة من مراحل نموهم، وفي أية بيئة من بيئاتهم.

وحين لا يرون أنه يعمل بهذه الطريقة، وحين يرون أن الطاقة البشرية المحدودة، والواقع المادي للحياة الإنسانية، يتفاعلان معه، فيتأثران به -في فترات- تأثراً واضحاً، على حين أنهما في فترات أخرى يؤثران تأثيراً مضاداً لاتجاهه، فتقعد بالناس شهواتهم وأطماعهم، وضعفهم ونقصهم، دون تلبية هتاف هذا الدين، أو الاتجاه معه في طريقه.

حين يرون هذا فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها -ما دام هذا الدين منزلاً من عند الله- أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته. أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً!

وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد أساسي: هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته، أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة.

إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية. يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية؛ وفي حدود الواقع المادي حينما يتسلم مقاليدهم. ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى