مقالات الأعداد السابقة

ترشيد العمل الجهادي (وحتى لا تكرر الأخطاء)

الشيخ محمد بن عبدالله الحصم

 

مقدمة (1):

حال الأمة الإسلامية بعد سقوط الخلافة

فلقد كانت الخلافة الإسلامية تنصهر فيها كل الولايات الإسلامية، على اختلاف أجناسها وأعراقها ولغاتها فتكون دولة واحدة. وبعد سقوطها بسبب ضعفها وتفريطها بأسباب النصر، وتكالب الأعداء عليها؛ جعلوا من هذه الولايات دولاً متفرقة، تفرقها حدود مصطنعة صنعها المحتلون وسموها بأسمائهم “حدود سايس بيكو”، ولا يخفى مكرهم الكُبّار في تمزيق الدولة الواحدة إلى دويلات على حدود لم تكن عشوائية، بل جعلوا من هذه الحدود بؤراً للصراع، كافية لإشعال الفتن وربما الحروب بين بعضها البعض، وقد اختاروا بعناية من يحكم هذه الدول، وجعلوا على السلطة من يسمع لهم ويطيع، فإن أبى هؤلاء الحكام طاعتهم، أدبوهم بحروب، أو انقلابات، هم من يشعلها، وهم من يذكيها، ثم هم من يطفؤها بعد ذلك.

 

أثر حكام وعلماء السوء في تضليل الأمة

وعن طريق حكام الغفلة وعلماء السوء استطاع أعداؤنا تحويل أوثق عرى الإيمان وهو الولاء والبراء من كونه على الإسلام والإيمان إلى جعله على تلك الحدود المصطنعة، فجعلوا معقد الولاء والبراء هو الوطن لا الدين، فمن يجتمع معه في الوطن فهذا محل ولائه وبرائه مهما كان دينه، أما من هو خارج الحدود، فلا يهتم بأمره، ولا يلزمه نصرته، وإن كان مسلما، فبعد أن كان المسلم أخا للمسلم، أصبح الكويتي أخا للكويتي والعماني أخا للعماني والمصري للمصري والفلسطيني للفلسطيني وهلم جراً…

ففرقتهم هذه الحدود وتعصبوا لها، وعقدوا الولاء والبراء عليها، وهكذا نجح الأعداء في تمزيق الأمة، وسيطروا على بلاد الإسلام، ونهبوا خيراتها، حتى إن اليهود، أجبن أمة وأذل شعب، يحتلون مسرى رسول الله ﷺ، ويسومون أهله في فلسطين سوء العذاب، والأنظمة العربية تتفرج، بل بعضها يتآمر، لأنهم يرونها قضية لا تخصهم، وطالما أن اليهود لم يعتدوا على حدود دولتهم، فالأمر عندهم لا يستحق تسيير الجيوش، وتحرير الأرض منهم إن كانت حدود الوطن التي أقرها الشقيّان “سايكس وبيكو” آمنة، فلا يهم بعد ذلك ما يجري في فلسطين وغيرها.

ولا يرون لأهل فلسطين عليهم من الحق إلا الدعاء، والشجب والتنديد، والاستنكار.

أما إعانتهم بالمال أو السلاح، أو القتال معهم، فهنا الوقوع في المحظور دولياً وهو “الإرهاب”، وهذا الذي تحاربه دولنا قبل أعدائنا، فكلُّ رفعٍ للسلاح خارج إطار الوطن؛ “إرهاب” وخيانة للوطن. ألم يُتهم الرئيس مرسي ﵀ ويُحاكم ويُدان بتهمة التخابر مع حماس؟!

ويُلقى في السجن كل من يثبت عليه ذلك، سواء القتال أو التنسيق له، أو الدعم المالي، ويحجر على أمواله، وتقيد حركته ويُمنع من السفر، وربما يكون هذا الحكم وهذه العقوبة من قبل الأعداء، وتتولى الدول الوظيفية تطبيقه على مواطنيها، كما هو الحاصل مع بعض إخواننا.

ولقد جاءت أحداث طوفان الأقصى لتبين صدق ما ذكرنا، وأن الكدر من رأس العين، وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الحكومات لا تمثل شعوبها، فتركوا اليهود يدمرون غزة منزلاً منزلاً، ويقتلون رجالها ونساءها وأطفالها، ويهدمون مساجدها ومستشفياتها على رؤوس من فيها، والإعلام ينقل على الهواء مباشرة هذه الجرائم، وهذه الأنظمة جامدة لا تحرك جيوشها لإنقاذ إخوتهم في الدين والعروبة، فلا خير فيهم ولا في جيوشهم الاستعراضية التي لا تتحرك إلا لقمع شعوبها أو الدفاع عن طواغيتها، ولا خير في إعلامهم، ولا غيرة عندهم على عرض أو أرض، ولا همة ولا رغبة لديهم في جهاد أو نصرة، بل البعض منهم لم يؤجل حتى مواسم الرقص والعهر والحفلات تضامناً مع إخوتهم، بل أعلنوا ما كانوا يخفونه من التطبيع مع دولة يهود، فأُسْكِتَ كلُّ صوتٍ، وكُسِرَ كلُّ قلمٍ يناهض التطبيع، فهذه سجونهم ملأت بالدعاة والعلماء المنكرين لهذا التطبيع. فأي حركة للنهوض بالأمة ومحاولة إحيائها تعتمد على هذه الأنظمة لن تنجح حتى تعتبرهم جزءاً من المؤامرة؛ فتُعامِلهم على أساس أنهم من الأعداء وفي صفهم، فلا تثق فيهم؛ لا في وساطة ولا في غيرها.

ولقد قيّض الله جماعات ورجالاً من هذه الأمة تدعو للعودة إلى الجهاد في سبيل الله والتحرر من الأعداء، علماً أن الجهاد كله في عصرنا هذا جهاد دفع؛ تدفع به الأمة عن نفسها صيال أعدائها المتربصين بها، ولا يشترط لمثل هذا النوع من الجهاد شرط أبداً. وكان من حسن صنع الله في من رفضوا الاحتلال والانحلال وجاهدوا الكفار أن نصرهم الله ﷻ، حتى وصل بعض هذه الحركات إلى الحكم حديثا كـ “حركة طالبان”، وهم الآن مشغولون في ترتيب دولتهم وإمارتهم الإسلامية، وقد حصل منهم خير عظيم وبركة، وأمن وأمان، نسأل الله أن يوفقهم لما فيه خير لبلادهم، وأن يجعلهم ردءا للإسلام وأهله، وأن يثبتهم، وينصرهم على من عاداهم، وهم الآن في فتنة التمكين، بعد أن نجحوا في فتنة الاستضعاف، وهم الآن على المحك فإن أحسنوا فلأنفسهم، وإن أساؤوا فعليها، ولنا فيهم ومنهم دروس وعبر لعلنا نتحدث عنها فيما بعد.

 

الأخطاء في الجهاد أمر لا بد منه والواجب التصحيح

طبيعة كل عمل بشري لا بد فيه من وقوع بعض الأخطاء، فَحَصَلَ من هذه الجماعات وهؤلاء الرجال أخطاء يقتضيها القصور البشري، دخل منها الأعداء للتشكيك في هذا الدين وحملته، وخاصة شريعة الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، كما صح ذلك عن النبي ﷺ، فتقيأ الزنادقة نفاقهم وحربهم على هذا الدين في جميع وسائل الإعلام، خاصة بعد تحول هذه الأخطاء إلى انحراف واضح وممنهج على أيدي جماعات الغلو، الذين شوّهوا صورة الإسلام والجهاد، وصدّوا عن سبيل الله.

 

أثر جماعات الغلو في تشويه شريعة الجهاد

كم جرَّ هؤلاء الغلاة على الإسلام وأهله من الويلات، فكانوا جنوداً للشيطان لا للرحمن، وكان شرهم على المسلمين أعظم من شرهم على الكفار؛ فأعملوا القتل في أهل الإسلام، واستباحوا دماء أهل القبلة وكفروهم بأدنى الشُبَه. وصدق النبي ﷺ حيث قال فيهم: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان).

والعجيب كيف تقاطعت مصالحهم مع أعداء الدين، فبمجرد ظهورهم تنفس العدو الصعداء، وبدأ يتماسك ويكسب على الأرض، ويسترد المناطق، ومن يزعمون أنهم دولة الإسلام يوجهون سلاحهم إلى إخوانهم من الجماعات الأخرى، ويغدرون بالمسلمين عن طريق المفخخات، وعمليات اغتيال للقادة المؤثرين.

وهؤلاء أمرهم واضح قد جلاهم النبي ﷺ لنا لكي لا نغتر بهم، ونعرف حقيقتهم، وحكم ﷺ عليهم بالإبادة؛ فقال -كما جاء في الحديث-: (لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد)، وما ذاك إلا لعظيم شرهم وأذاهم للمسلمين وإفسادهم للدعوة الإسلامية.

وخوارج العصر كخوارج الماضي وإن كانوا لا يكفرون بالكبيرة، لكنهم انحرفوا في هذا الباب فكفّروا بما ليس بمكفر، ولا يفرقون بين مجتهد وغير مجتهد، وجعلوا من أنفسهم ممثلين للدين الحق والإسلام الذي جاء به محمد ﷺ، فمن ينتقدهم ينتقد الإسلام، ومن يطعن فيهم يطعن في الإسلام، وعليه فهو عندهم كافر حلال الدم، فاستباحوا دماء وأعراض مخالفيهم، ولم يقبلوا ممن يخالفهم صرفاً ولا عدلاً.

وعلم الأعداء كيف يستغلون هذا الفهم الأعوج للإسلام، فحرصوا على تسليمهم المناطق من غير قتال، ليوهموهم بامتداد نفوذهم، وزرعوا فيهم قيادات مهمتهم المحافظة على هذا الانحراف، وإخماد كل صوت معترض يدعوا لتصحيح المسار.

فنسأل الله ﷿ أن يزلزل عروش الطواغيت، ويخزيهم خزياً عظيماً على خذلانهم لأهلنا في غزة. ونسأل الله ﷿ أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً وأن يُهيء لنا من أمرنا رشداً، وأن يرزقنا قائداً ربانياً وإماماً مُخْلِصاً مُخَلِّصاً، يجاهد في سبيل الله، ويقودنا بكتاب الله.

اللهم إن اليهود طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم يا ربنا سوط عذاب، اللهم أنزل بساحتهم زواجر العذاب، واجعلهم عبرة لجميع الأحزاب، اللهم غرّهم حلمك وكذبوا رسلك وقتلوا أولياءك، اللهم فدمرهم تدميرا، والعنهم لعناً كبيراً، اللهم انصر إخواننا في غزة، اللهم تقبل شهداءهم واشف جرحاهم، اللهم لا يهلكون وأنت رجاءهم، اللهم انصرهم نصراً عزيزاً، اللهم آمين آمين آمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى