
تمجيد أمراء الدم والحرب
عرفان بلخی
لقد جرت الانتخابات الرئاسية في بلادنا وفق ما أراده الاحتلال، وكان الأوفر حظاً فيها أشرف غني ثم عبدالله عبد الله. و”مما لا شك فيه أن حملتيهما مارستا التزوير، وقد تكون إحداهما فاقت الأخرى في ذلك، لكن الأخرى أيضا لم تألوا في ذلك جهدا”. إن الانتخابات -مثل سائر الشؤون الأفغانية- تكون مرتعا للجهات الأجنبية، فقد أرجئت نتائج الانتخابات مرارا، وأعلنت أخيرا ووصل الأمر إلى الدعاوى بفوز كل واحد من عبد الله واشرف غني، وأعلن كل واحد منهما نفسه رئيسا للبلاد وأجرى مراسم التحليف.
وهكذا أصبحت الرئاسة والحكم لأشخاص نهبوا أموال البلاد، وجرفوا خيراتها، وأذلوا أهلها، وملؤوا بهم سجونها، وجعلوهم أرقاء لهم ولخاصتهم من أشباههم من الخونة واللصوص والعملاء. تأخرت الانتخابات مرتين ولم يكن من المتوقع أن تجرى على الإطلاق بعد أن نحّتها جانباً محادثات السلام بين الولايات المتحدة والامارة الاسلامية، لكن عندما ألغى ترمب المحادثات في 8 سبتمبر (أيلول)، سارع المرشحون فجأة بالقيام بحملات مكثفة لإجراء انتخابات، على الرغم من طبيعتها المتسارعة والمخاوف الأمنية، فكانت النتيجة أن أعلن كل واحد من (غ) و(ع) نفسه رئيسا للبلاد، وفي هذه الأواخر تصالح الطرفان ووقع كل من غني وعبد الله اتفاقا ينهي الأزمة السياسية المستمرة منذ انتخابات الرئاسة في 28 سبتمبر/ أيلول 2019.
وبموجب الاتفاق، سيرأس عبد الله “المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية ”، ويقوم بتعيين نصف أعضاء الحكومة. والغريب في الأمر أن رفع غني بموجب هذا الاتفاق، رتبة نائبه الأول العسكرية عبد الرشيد دوستم، ليمنحه لقب مارشال ؟؟؟
إن الكثيرين من المواطنين من أتباع اشرف غني ومعجبيه في بداية انتخابه الأول عقدوا آمالهم على المفكر وزعموا انه يستطيع بخبرته الفائقة إنعاش الاقتصاد واستتباب الأمن وإعادة الاستقرار إلى البلاد ومكافحة الظلم والغطرسة والانحراف، لكن سرعان ما خابت آمالهم إذ قام بتعزيز قاعدته السياسية بأمراء الحرب والمجرمين الطغاة والمفسدين السفاحين الفاسقين مثل: أمير الدم والحرب الشيوعي عبد الرشيد دوستم -الذي يسمي نفسه صانع الملوك والذي أجلسه الرئيس آنذاك إلى العمل معه وجعله نائبًا أولا له في رئاسة البلاد.
دوستم الذي ينتمي عرقياً إلى قومية أزبك، نشأ في ولاية جوزجان في شمال البلاد، ولم يتمكن من دراسة المرحلة الثانوية، اشتغل في بدايات شبابه عاملًا عاديًا في شركة التنقيب عن البترول، وفي أعقاب الثورة الشيوعية عام 1978 والاحتلال السوفيتي 1979، شكلت الحكومة الأفغانية الموالية للاتحاد السوفييتي كتائب من المليشيات المرتزقة، على أساس القوميات والعرقيات المتواجدة في البلد، وانخرط دوستم في مجموعة المليشيات العرقية التابعة للحكومة الموالية للاتحاد السوفيتي، التي كانت مهمتها محاربة المجاهدين. وخلال معارك كثيرة خاضها دوستم جنباً إلى جنب مع القوات السوفيتية والحكومية، أظهر شراسة واضحة في مواجهة المقاومين المسلمين مما أدى إلى عناية الشيوعيين به، وترقيته إلى مواقع قيادية في كتائب المليشيات المنتمية إلى عرقية الأزبك، وعرف عن المليشيات التابعة له الشراسة القتالية، وارتكاب أعمال القتل والنهب، حتى صار اسم دوستم ومليشياته علامة للرعب والخوف في البلاد. وفي القصص القديمة سمعنا عن مظالم (الأوزبك) أنهم حين هجموا على (خراسان) أخذوا يقتلون الرجال ويعلّقون رؤوسهم على أعناق خيولهم ويربطون حبلاً بعنق زوجته أو ابنته أو أخته أو أمّه، ويشدّون ذلك الحبل بالفرس..ثم يهيبون به فيعدو سريعاً..والمرأة المسكينة تزحف من ورائه يميناً وشمالاً.. ورأس قريبها معلّق على رقبة الفرس!
وما الخسف أن تلقي أسافل بلدة أعاليها ولكن أن تسود الأراذل
سطع نجم دوستم في عهد آخر الرؤساء الشيوعيين، وهو الرئيس نجيب، حيث حصل على رتبة جنرال، ورّقّي إلى عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وبرز اسم دوستم ومليشياته “غلم جم” بمعنى طي البساط حيث يريدون به طي بساط المجاهدين، وسيطرعلى أجزاء من الولايات الشمالية، خاصة “جوزجان” و”بلخ” و”فارياب” وبدأ يتصرف باستقلالية عن سلطة الحكومة المركزية في كابول؛ الأمر الذي أدى إلى نشوب خلافات بينه وبين نجيب الله، ولكن نظرًا لقوة دوستم عجزت الحكومة الشيوعية عن إزاحته من موقعه.
واليوم من شروط تصالح الرجلان أن يمنح لهذا المجرم لقب “مارشال”، وبسبب منحه هذا اللقب انصدم الشعب الأبي الأصيل مرة أخرى؛ لأنَّ دوستم متعطش للدماء، وقد اشتهر في الماضي هو وميليشياته قبل كلّ شيء بارتكاب المجازر، وكما رأينا في الأيام الأولى للاحتلال الآمريكي كيف مارس عملية إبادة جماعية لعدد كبير من الأسرى المظلومين في قلعة “جانجي” بعد أن تم تأمينهم على حياتهم وأرواحهم، وهذه الابادة كانت في القلعة التي تخضع لأوامر” دوستم”، وقد تعرضت قلعة “جانجي” لعملية إبادة كاملة للأسرى العزل في صورة من الوحشية المفرطة، حيث تم قصف القلعة بالمدفعية من جانب قوات التحالف الشمالي، والقصف بالطائرات الأمريكية عقب اصطناع ما سمي بتمرد الأسري، وهي مؤامرة متفق عليها بقصد إبادة مئات من الأسرى من عناصر حركة طالبان الإسلامية، والواقع أن هذا السلوك المفرط في البربرية والوحشية، كان متنافيا مع أبسط مبادئ الأخلاق والقانون والشرف، إذ كيف يستطيع مجرم بأوامر من أسياده أن يرتكب هذه الجريمة البشعة ضد أسرى عزل لا حول لهم ولا قوة بعد أن تم تأمينهم على حياتهم وأرواحهم. إن ما حدث في قلعة “جانجي” بقيادة هذا الملعون كانت جريمة حرب بشعة، وستظل وصمة عار، وشاهد إدانة لا يغيب على سقوط مجتمع القانون الدولي والعودة إلى قانون الغابة، العصر الذي تسود فيه القوة والجبروت وتعلو على الحق والعدل.
حدث عن المجرم بكل التفاصيل ولاحرج، فعند بروزحركة طالبان الإسلامية عام 1994م دخل دوستم عبر وساطات تحالفاً غير معلن مع طالبان؛ لإسقاط حكومة برهان الدين رباني، وحينما تمكنت حركة طالبان الاسلامية من السيطرة على كابول، نشبت خلافات داخل مليشيات دوستم وتمرد الجنرال عبد المالك أحد قادته المجرمين وتعاون الأخير مع الحركة، مما أدى إلى فرار دوستم إلى أزبكستان، والعيش هناك في المنفى خلال فترة حكم الإمارة الإسلامية والذي استمر حتى عام 2001م.
وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وهجوم القوات المعتدية الأمريكية على أفغانستان واحتلالها، عاد المجرم للبلاد مرة أخرى، واستخدمه الأمريكان للقتال ضد الامارة الاسلامية. وقد اشتهر دوستم وصار حديث وسائل الإعلام عندما قامت مليشياته بتعاون مباشر مع القوات الأمريكية، بأسر وقتل الآلاف من أفراد الامارة الاسلامية في مزار شريف، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : «يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة، ووزراء فسقة، وقضاة خونة، وفقهاء كذبة، فمن أدرك ذلك الزمان منكم فلا يكونن لهم جابياً ولا عريفاً ولا شرطياً». وظاهر في هذا النوع من الأمراء أنهم يقربون منهم بطانة من الفسقة والخونة والكذبة يستعينون بهم، ولذلك نقول لهؤلاء أن منح الألقاب للمجرمين بمثابة فظيعة أخرى فوق الفظائع الجمة ولله درّ من قال:
ومن يربط الكلب العقور ببابه *** فكل بلاء الناس من رابط الكلب.