مقالات الأعداد السابقة

جلال الدين حقانى العالم الفقية.. والمجاهد المجدد -4-

– أطباء ومهندسون حاولوا جمع تبرعات للمجاهدين الأفغان من أحد المساجد في أبو ظبي، فاعتقلتهم الشرطة بتهمة التسوّل “!!”.

– حقاني ومولوي خالص يدفعان سياف إلى قيادة الاتحاد الإسلامي لتحرير أفغانستان”، فكانا أول ضحايا انحرافه.

– تحول سياف من قيادة طارئة إلى عاهة مستديمة للجهاد.

– اللقاء الأوّل لحقاني مع الشعوب العربية. وبداية الدور السياسي الخارجي لحقاني.

– حقاني نقل نبض الجهاد إلى العرب، ومجددي أحبط فكرة “المتطوّعين العرب”.

– عبقرية حقاني في العمل السياسي لا تقل عن عبقريته العسكرية.

– القوة السياسية في الداخل هي عماد العمل العسكري للمجاهدين، وأساس القوة السياسية في الخارج.

– كيف استفاد حقاني من أهمية باكتيا في الاستراتيجية وفي السياسة وفي الحرب؟

انتهت زيارتنا إلى الجبهة بوداع مؤثر مع مجموعتنا (متعددة اللغات )، ومع مولوي عبد الرحمن الذي بعث معنا دليلًا ليأخذنا إلى مركز “سرانا”. كان شهر رمضان يقترب، كما أن موسم حصاد القمح أصبح على الأبواب، لذلك كان عدد أعضاء المجموعة مرشحا للانخفاض بشدّة وكنا نحن أول الغيث. تركنا هدية للموقع عبارة عمّا نمتلكه من أكياس للنوم، وسترات الميدان. وكنا الوحيدان المالكان لتلك الأشياء العجيبة.

بعد تلك الزيارة تكوّنت لدينا فكرة لا بأس بها عن أحوال المجاهدين واحتياجاتهم. ومشاركتنا القتالية البسيطة أو ضحت لنا الكثير.

كانوا فقراء في كل شيء ما عدا الإيمان والمعنويات العالية، أي في حقيقة الأمر كانوا هم الأغنى في كل شيء. لأنّ ما يملكونه هو ما حسم الحرب في نهاية المطاف.. بعد سنوات مجيدة من الحرب الطاحنة.

جلسنا مع حقاني بعد عودتنا من مركز مولوي عبد الرحمن. استقبلنا الرجل بابتسامة عذبة، وقال لي: ” لقد خشيت عليك أن تستشهد”.

تعجبت كثيرا من قوله، وهو القائد الذي لا يكاد يمر يوم إلا وهو يودع شهيدًا إما من رجاله أو من رجال القرى المحيطة به، حتى تصورت أنه لايخشى من شيء ولا يخشى على أحد حتى على نفسه.

سألته عما يريد إبلاغه للعرب، حتى نوصله إليهم عند عودتنا. وسجلت ذلك كتابة وكنت قد لمست بنفسي كل ما ذكره من احتياجات ـ ولكنه ذكر نقطة أخرى وهي حاجة المجاهدين إلى إذاعة صغيرة يوصلون بها صوتهم إلى الشعب الأفغاني الذي يجهل الكثير عمّا يحدث.

وقد حاولنا في كل ما ذكره حتى مسألة الإذاعة، التي فشلنا فيها تمامًا. ولكن حقاني الذي لا يستسلم للفشل تابع ذلك الهدف حتى حصل بعد أعوام على إذاعة صغيرة متحركة وضعها في موقع خلفي يسمى “جاور”. فكانت سببًا في صعود نجم “جاور” ونموّها كقاعدة خلفية نشطة للمجاهدين، فأصبحت هدفًا للعدوّ، وموضوعًا لصراع مرير بين حقاني والحكومة في كابول، التي شنّت على “جاور” حملات مدعومة من الجيش الأحمر، بهدف احتلالها بشكل دائم أو على الأقل تحطيم بنيتها التحتية بما فيها الإذاعة.

 بعد عودتنا إلى أبوظبي، واتصالاتنا لنا كثيرة، مع بيان طبعناه ووزّعناه سرًّا على كبار الإسلاميين المهتمين. كان الأثر كبيرًا ولكن لم يحدث (ثورة معلوتاتية) شعبية لأن ذلك يلزمه ضوء أخضر من أولي الأمر. وحتى هؤلاء كانوا في حاجة إلى ضوء أخضر من جهة أعلى.

وقد حاولت مجموعة متحمسة من الأصدقاء، وهم مهندسون وأطباء ومحاسبون وطالب ثانوية عامة. أن يجمعوا تبرعات للمجاهدين الأفغان بعد صلاة العصر في أحد مساجد العاصمة فألقت عليهم الشرطة القبض بتهمة التسوّل”!!”.

وكانوا على وشك قضاء ليلة في الحجز، لولا أن تم الإفراج عنهم بعد وساطات مكثفة ودهشة الشرطة من أن المتسوّلين هم من أصحاب الوظائف العليا. ولكن المفرج عنهم كانوا من أصدقائنا المقربين لذا أسميناهم “أصحاب السوابق الجنائية “.

بعد عودتنا إلى أبوظبي بأسابيع قليلة حدث انقلاب في كابل أطاح بالرئيس “نور محمد طراقى” وجاء بشيوعي من جناح منافس هو “حفيظ الله أمين”، الذي لم يمكث سوى أسابيع قليلة حتى تفاقمت الصراعات الداخلية وأوشك النظام على السقوط، فقتل بمعرفة السوفيت واجتاح الجيش الأحمر أفغانستان في أكبر عملية غزو إبرار جوي بعد الحرب العالمية الثانية. كان ذلك إيذانا بتحوّل جذري في وضع الأزمة الأفغانية وتحوّلها إلى موضوع كبير في الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية، ولم تلبث أن تحولت أفغانستان إلى أخطر قضايا الحرب الباردة بين الكتلتين، والتي أسفرت عن أعمق الآثار الجيوسياسية في عالم اليوم، إذ سقطت الإمبراطورية السوفيتية واستفردت أمريكا بالعالم مدعية أنها انتصرت في الحرب الباردة وأسقطت الاتحاد السوفيتي، وبذلك أصبحت سيدة العالم بلا منافس، تفعل به ما تشاء.

تفاهة دبلوماسية في مواجهة الاحتلال:

توقيت الغزو السوفييتي لأفغانستان كان لا يخلو من المهارة. فإلى جانب أنه تم في الشتاء حليفهم التقليدي في الحروب سواء في أفغانستان أو غيرها، فإنه تم في توقيت سياسي ملائم للغاية. فقد كان غريمهم الأمريكي في نقطة ميتة سياسيا فالرئيس الأمريكي كارتر كان في لحظاته الأخيرة في البيت الأبيض. والرئيس الجديد ريجان الذي تسلم منه الحكم، وجد أمامه أمرًا واقعا في أفغانستان. لهذا لم يوجه أحد إليه السؤال: لماذا تركتم ذلك يحدث…

وماذا فعلتم والسوفييت يحتشدون لعبور حدود قانونية لدولة ضعيفة ؟. ولكن بدأت الأحاديث حول إجراءات عقابية ضد السوفييت وإجراءات لتطويق آثارالغزو على المصالح الأمريكية في جنوب وغرب آسيا وخاصة مناطق نفط الخليج. لم تتحرك الدول الإسلامية إلا بعد أن مارست الإدارة الأمريكية الجديدة مهام عملها.

وأصدرت أوامرها وحددت السياسة (الإسلامية) العامة لمواجهة خطر الغزو السوفييتي على العالم الإسلامي والخطوات اللازمة في إطار المنظور الأمريكي. وبناء عليه عقد مؤتمر طارئ لوزراء خارجية الدول الإسلامية في إسلام آباد لبحث الموضوع وتم إصدار البيانات المعهودة التي لا معنى لها واتخاذ خطوات أشد تفاهة، كان أعظمها خطرا هو إرسال طائرتى معونات إنسانية من خيام وأطعمة للمهاجرين الأفغاني فى باكستان كدعم عاجل من المملكة العربية السعودية. وعلى صعيد (المقاومة الأفغانية) فإن تأثيرات ذلك المؤتمر عليها هو إصرار القائمين على المؤتمر على تشكيل كيان متحد للمقاومة تستطيع الدول الخارجية التعامل معه فيما يختص بالقضية الأفغانية. وكان عدد الأحزاب الأفغانية للمقاومة ستة أحزاب. وبشكل عاجل تم تشكيل واجهة موحدة هي (الاتحاد الإسلامي لتحرير أفغانستان) برئاسة عبد الرسول سياف، الذي خرج لتوه من سجون النظام في كابل. وفي أقل من شهرين تحول من سجين سياسي سابق إلى رئيس (الاتحاد الإسلامي لتحرير أفغانستان) ليكون أول أعماله هو الاجتماع بوزراء خارجية الدول الإسلامية لمناقشة موقف تلك الدول من قضية بلاده. ورغم أن زعامة سياف وظهورها على سطح الحياة السياسية (للمقاومة الأفغانية) كان يبدو وقتها كأثر ثانوي لذلك المؤتمر ، إلا أنه بمرور الوقت ظهر أنه كان واحدا من أخطر الأحداث في المسار السياسي للقضية. خاصة في علاقتها بالتيارات الإسلامية العربية التي تعاطفت عن بعد، أو قدمت للمشاركة ميدانيا في الجهاد.وأيضا من حيث تفاقم الصراعات الداخلية في حركة (المقاومة) الأفغانية المتشرذمة أصلا.

سياف.. من رئاسة طارئة ، إلى عاهة مستديمة للجهاد:

عندما أوشك المؤتمر الطارئ لوزراء خارجية الدول الإسلامية على الانعقاد لم تكن المنظمات الجهادية في حالة تسمح لها بحضور المؤتمر. فالخلافات مستعرة وعدد الأحزاب ستة أحزاب كاملة التحزّب. فطلبت باكستان منهم، عندما وجدت أن الزعماء الستة يريدون حضور المؤتمر كل زعيم يمثل حزيه ، طلبت اختيار شخص واحد يمثل الأحزاب جميعا أمام المؤتمر. كانت المشكلة التي يخشاها الزعماء أنه في حال اختيار ممثل واحد عن الأحزاب يخاطب المؤتمر فإنه سوف يكون الشخص المعتمد لدى العالم الخارجي.

 وبالتالي فأي معونات خارجية يتسلمها نيابة عن الآخرين، سوف يستأثر بها لنفسه, وقد يتحول إلى صاحب حزب, فمن السهل أن يشتري من يريد وما يريد بواسطة المال الذي توفر لديه.

وكانت القاعدة أنه عندما يرغب حزبان في الاتحاد، يتم اختيار شخصية ضعيفة كي ترأس الاتحاد المزعوم.

وبنفس الأسلوب وصل عبد الرسول سياف إلى سدة الزعامة. فقد كان ضعيفا، خارجا لتوه من سجون كابل. ويسكن في غرفة متواضعة، ويتلقى مساعدات مالية من أصدقائه داخل المنظمات.

كان أشد المعترضين على ترشيح سياف هو حكمتيار الذي واجهه بحملة عنيفة من التشكيك والاتهامات.

 فقد كان يرى أن سياف قد خرج معافى من سجون الشيوعية في كابل ـ في قصة غير مقنعة ـ حيث كان الشيوعيون يقتلون الناس لمجرد الاشتباه فما بالهم بشخص مثل سياف كان في صفوف متقدمة من زعامات العمل الإسلامي في كابل ؟؟.

لماذا لم يقتلوه وهو تحت أيديهم في السجن ؟.

وأضافت مصادر حزب حكمتيار بأن سياف قد استفاد من حماية الزعيم الشيوعي حفيظ الله أمين المهندس الحقيقي للانقلاب الشيوعي, والذى تولى رئاسة الدولة فيما بعد. فتولى الرئاسة بعد أن تخلص من سلفه نور محمد طراقي. فقد كان سياف وأمين أبناء خالة. لذلك فإن سياف لم يسجن في السجن الرهيب “بولي شرخي” بل أنه نقل سريعا إلى نوع من الاحتجاز المرفه تحت حماية ابن خالته.

ولمزت مصادر الحزب في الظروف التي اعتقل فيها سياف في عهد محمد داوود. فقد اعتقل وهو في مطار كابل وكان في طريقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بعثة تعليمية موضوعها (التأهيل القانوني )!!.

 بالنسبة لهم فإن الإفراج عن سياف في أعقاب الاحتلال الروسي، واغتيال ابن خالته أمين ما كان ليتم خطأ كما يدعي سياف، ولا بد أن وراءه تدبيرًا معينا بين سياف والشيوعيين والروس. كانت الاتهامات خطيرة، لكن رواج الشائعات سواء بالحق أو بالباطل, أفقد تلك الاتهامات أهميتها.

تبنى يونس خالص وجلال الدين حقاني قضية سياف حيث رأيا أنه المخرج الوحيد المتاح مع ضيق الوقت على انعقاد المؤتمر. ومارسا ضغوطا على باقي الأطراف لقبوله رئيسا يمثل اتحاد أحزاب المجاهدين، ثم أنه قد وقَّع لهما بالفعل على تعهد بعدم إنشاء حزب جديد لنفسه. نجح مسعاهما بعد مجادلات طويلة مع قادة الأحزاب الأخرى وجميعهم متخوف ومتشكك في الرجل ونواياه. وقد ندم حقاني وخالص فيما بعد إذ كانا الأكثر تضررا من انحراف سياف واستئثارة بالمعونات المالية القادمة من الخارج. فاشترى الكثير من أتباع المنظمات في الداخل منشئا حزبا جديدا تحت اسم الاتحاد وكون جهازًا بيروقراطيًا كبيرًا في بيشاور جاذبًا عدا من المشاهير في الداخل وثبتهم في مكاتب قضت على فاعليتهم في الميادين. ثم ضيق على مندوبي المنظمات الأخرى في دول الخليج خصوصًا، مدعيا أنهم يعملون خارج الاتحاد بشكل غير قانوني. فعانت المنظمات ماليًا وكان أكثرهم معاناة هو يونس خالص وحقاني الذي كافح كثيرًا حتى لا يغرقه سياف في مشكلات مفتعلة في الداخل والخارج.

 من أجل ملاحقة المؤتمر ظهر إلى الوجود اتحادا جديدا هو (الإتحاد الإسلامي لتحرير أفغانستان). ولم يكن اتحادا فعليا ولم يكن بالطبع هوالاتحاد الأخير إذ تغير اسمه فيما بعد إلى (الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان) في محاولة لإصلاح الخلل، لم تسفر عن أي إصلاح. وظلت بيشاور حتى نهاية الجهاد هي أرض الفتن كما وصفها الكثير من المجاهدين المخلصين ومنهم حقاني.

حقاني ينقل نبض المجاهدين إلى بلاد العرب:

انتهى مؤتمر وزراء الخارجية بدون أي التزامات واضحة أو مساعدات للشعب الأفغاني. كان فقط مناسبة لتسجيل موقف لا يترتب عليه أي نتائج. كانت صدمة للقادة الأفغان وصدمة لأنصار الجهاد والقضية الأفغانية من أمثال صديقنا المنياوي (زميلى في الرحلة الأولى)، والصحفي من صحيفة الاتحاد الظبيانية سمير عبد المطلب (أول صحفى عربي زار أفغانستان. وقد زار الأورجون أثناء تواجدنا في جرديز في رحلتنا الأولى). فطالب الإثنان من سياف أن يترأس وفدًا أفغانيًا كي يزور دول الخليج لطلب المساعدة من الناس مباشرة.

وكانت المشكلة أن سياف لم يتلق دعوة رسمية بزيارة أياً من دول الخليج. فكيف له أن يصل إلى هناك ؟.

صديقنا المنياوي قال بأنه سوف يسعى إلى الحصول على تأشيرة لوفد المجاهدين برئاسة سياف، على اعتبار أنه وفد باكستاني جاء للحصول على تبرعات لمدرسة دينية.

وقام سياف بتحديد شخصيات الوفد وكانوا كالتالي:

عبد الرسول سياف صبغة الله مجددي ـ محمد نبي محمدی ـ جلال الدين حقاني. كان صديقنا الصعيدي يعمل وقتها سكرتيرا للدكتور عز الدين إبراهيم المستشار الثقافي لرئيس الدولة آنذاك. تكفل أحمد بتمرير أوراق الوفد عبر القنوات الرسمية كواحد من الوفود التقليدية التي تأتي لجمع التبرعات من مساجد الدولة وتطلب العون من هيئاتها الإسلامية. ولم ينتبه أحد إلى أسماء الوفد الذين لا يدري عنهم موظفوا الدولة أي شيء.

كانت تلك الزيارة ـ المعجزة ـ الخطوة الأولى لسياف كي يرسي دعائم قوية لعلاقاته العربية بشقيها الرسمي والشعبي. بل كانت فرصة لأول لقاء مباشر بين جهاد أفغانستان والشعوب الإسلامية ـ خاصة شعوب الخليج التي لعبت الدور الأهم في (التمويل الشعبي) للعمل الجهادي.

أجرى سياف خاصة ـ والوفد المرافق عامة ـ لقاءات واسعة جدا داخل مدن الإمارات.

وقابلوا ما لا يحصى من الأفراد العاديين والمتحمسين والمسلمين المتدينين. وعقدت لقاءات كثيرة في المساجد ، وحتى داخل تجمعات الأفغان ، خاصة المنطقة الصناعية في مدينة العين التي تعتبر معقلا للبشتون من أفغانستان وباكستان.

رتبنا مؤتمرا صحفيا لسياف والوفد المرافق له ، في الفندق الذي يقيم به الوفد في أبو ظبي. اتصلنا بالصحف المحلية ، وقبل بداية المؤتمر إتفقنا مع مندوب جريدة الإتحاد على توجيه السؤال التالي: “هل أنتم في حاجة إلى متطوعين مسلمين لمساندتكم في الجهاد؟ “.

عقد المؤتمر وانهالت الأسئلة وتأخر سؤالنا المنشود حتى قرب نهاية الجلسة. وما أن ألقى مندوب جريدة الإتحاد السؤال حتى تكهربت أعصابنا وتعلقت أنظارنا بالأستاذ سياف الذي تلقى السؤال وتهيأ للإجابة. ولكن صبغة الله مجددي إندفع كالقنبلة وتولى الإجابة بعصبية واضحة قائلا: نحن لسنا في حاجة إلى رجال، ولكننا في حاجة إلى أموال وأسلحة للقتال ، وأن على الدول العربية ودول الغرب أن تمد الشعب الأفغاني بمختلف نواحي الدعم السياسي والمادي كي يواجه الغزو السوفييتي.

 اعتبر الصحفيون إجابة مجددي هي الإجابة الرئيسة، رغم أن سياف عقب عليها برد دبلوماسي لا يفيد شيئا، حيث قال: إن الشعب الأفغاني يتصدى ببطولة للغزو السوفييتي ولكن إذا كنا نحن لسنا في حاجة للمتطوعين المسلمين، أليس المسلمون في حاجة إلى الجهاد؟.

في كل المناسبات التالية ولمدة سنوات كان سياف يكرر نفس الجملة عند تعرضه لهذه النقطة الهامة.

كان تخلصا دبلوماسيا لبقا من “أمير الجهاد”، فلا هو طلب متطوعين ولا هو رفض، وعلى كل طرف أن يفهم الجملة حسب هواه. اكتشفنا في وقت متأخر نسبيا أنه من المحظور على زعماء المنظمات في بيشاور توجيه دعوة عامة للتطوع في صفوف المجاهدين الأفغان ـ أي إعلان جهاد إسلامي عام.

 ومع هذا فقد كانت الزيارة صخرة ضخمة ألقيت على سطح العمل الإسلامي الخليجى الراكد.

 كان حقاني قد خرج لتوه من صدام عسكري مع الجيش الأحمر. لذا كان النغمة اليتيمة في الوفد الأفغاني ، لأنه الوحيد الذي يمثل الحقيقة الميدانية للجهاد. بينما رئيس الوفد “سياف” قد خرج منذ أشهر قليلة من سجن مطول فى كابل إستغرق حوالى ست سنوات. وبالتالي فليس لديه أدنى فكرة عن الجهاد المسلح الدائر في أفغانستان.

 وبالمثل باقي أعضاء قادة الأحزاب”الجهادية” مجددي ومحمدي، وكلاهما ليس له علاقة مباشرة بالجبهات القتالية لا قبل الإحتلال الروسي ولا بعده.

 وما كان يريد حقاني طرحه لم يكن متجانسا مع الطبيعة الاحتفالية للمواضيع التي طرحها الوفد، والطابع الانفعالي الحماسي للاجتماعات، كما لم يكن متجانسا مع طبيعة الجمهور العربي المتعود على سلبية الاستماع ونشوة الحماس والتأثر بالخطابات البليغة. فلم يكن ممارسا لحيوية المشاركة وما تجلبه من متاعب وصعاب لم يتعود عليها. ويصح ذلك بوجه خاص على المجتمع الخليجي فائق الرفاهية، بما في ذلك تجمعاته (المواطنة) أو (الوافدة).

وأعظم ما تبلغه همم تلك التجمعات ـ حتى وقت الزيارة ـ كان دفع دريهمات لمشاريع الخير هنا وهناك. وما الجهاد عندهم ـ حتى ذلك الوقت ـ إلا واحدا من المشروعات الخيرية ، مثل بناء مسجد أو دار أيتام أو استكمال مركز إسلامي في دولة أوروبية.

كان حقاني يريد أن يناقش القتال ومستلزماته، والمجاهد ومطالبه، والجهاد وخطوط إمداده. وقد تحدث مع قليلين حول تلك الموضوعات واستوعبه أقل القليل منهم. وظلت الجبهات ومشاكلها القتالية أكبر الغائبين عن ساحة الاهتمام الشعبي العربي طوال مدة القتال، مع تحسن نسبي بعد ظهور “أبوعبد الله” ـ أسامه بن لادن ـ على ساحة العمل القتالي العربي في أفغانستان.

كانت تلك هي المرة الأولى التى يمتد فيها الدور السياسى لحقاني ليشمل نطاقا عربيا، بعد أن كان محصورًا في النطاق القبلي الذي هو أساس القوة الحقيقية للعمل الجهادي، ولكن الاتصال الخارجي ونجاح حقاني فيه تحول إلى مدد هام جدا وفر له دعما ماليا وإعلاميا ومددًا من المتطوعين العرب فيما بعد. ورغم قلة عدد العرب في جبهات حقاني إلا أن إسهاماتهم كانت جيدة بل وهامة أحيانا.

الدور السياسي الداخلي.. أساس القوة الجهادية لحقاني:

إذا كان الدور العسكري لحقاني، يكاد لا يكون له نظير في فترة الحرب ضد الجيش الأحمر السوفيتي، وشاهد ذلك إنجازاته العسكرية الكثيرة الذي كان فتح خوست فخرها الأكبر والدليل الذي لا يدحض على تلك العظمة العسكرية.

ولكن إنجازاته وعظمته السياسية لا يكاد يلتفت إليها أحد، رغم أنه لولا تواجدها ما كان له أن يحقق إنجازاته العسكرية كلها، وبوجه خاص فتح مدينة خوست.

وحيث أن حقاني ـ مثل باقي القيادات الميدانية في ذلك الوقت لم يكن مدعومًا من قيادة عليا جهادية أو حتى قيادة حزبية مقتدرة، فكان هو في ذاته القيادة العليا الشاملة التي عليها أن تواجه ميدانيا جميع التحديات العسكرية والسياسية.

 من الممكن ملاحظة التحديات العسكرية ونتائجها، كونها صاخبة صخب ميدان المعركة، ونتائجها واضحة وصريحة: فإما نصر مشهود أو هزيمة ظاهرة لا يمكن التستر عليها خاصة في الملاحم الكبرى. أما الاشتباكات المحدودة الحجم والنتائج، والتي تعمل بالتراكم البطيء، فتكون سببًا للانتصار الكبير أو الفتح الأعظم. ولكن لا ينتبه أحد إلى أهميتها لأنها مثل ضوء المصباح الصغير. ولكن ضوء ذلك المصباح الصغير والمتكرر والدائم هو الذي أنار الطريق نحو النصر النهائي المبهر. لذلك فكل مجاهد استشهد في تلك الإشتباكات الصغيرة التي لا تحصى، هو صانع حقيقى ضمن صناع كثيرين ومجهولين لذلك النصر الكبير.

 ** في أثناء جولتنا التاريخية في مسيرة حقاني سنتعرض من وقت إلى آخر إلى جوانب من نشاطه السياسي وأهم فروعه هو العمل بين القبائل، وهو ذو صلة مباشرة بالنشاط الجهادي. وبدونه يغدو ذلك النشاط مستحيلا. حيث المحيط السكاني ذو تكوين قبلي. وفي ذلك الوقت عانت القبائل من عدة ضغوط: تهدد تواجدها ـ وتهدد تماسكها ـ وتهدد مصالحها المباشرة.

ــ أما ما يهدد تواجدها فهو هجوم جيش الاحتلال وأعوانه في النظام الشيوعي الحاكم على القبيلة مباشرة.

ــ وما يهدد تماسكها ووحدتها فهو النشاط الحزبي الموجه من أحزاب بيشاور بتخطيط من باكستان والأعداء الخارجيين الذين ارتدوا لباس الصداقة الكاذبة، مثل الأمريكيين ودول أوروبا وحكومات الخليج وخاصة النظام السعودي.

فقد عملت تلك الجبهة من أجل تفكيك القبائل بطرق شتى على رأسها استبدال الولاء القبلي بالولاء الحزبي. خاصة وأن الولاء الحزبي يجلب المال والسلاح. وبتعدد الأحزاب إلى سبعة أحزاب (غير ثلاثة انشقاقات أصغر) تقسمت القبائل إلى هذا العدد. ناهيك عن الاختراقات الحكومية ولم تكن علنية في أغلب الأحوال. لكن عند سيطرة الحكومة على منطقة قبيلية معينة، فسريعًا ما تظهر كتلة قبيلية متعاونة معها بدوافع انتهازية بحته وطمعًا في الأموال والزعامة القبلية. والعلاقات بين القبائل من المهم جدًا معرفة تاريخها القريب والبعيد. فالمشكلات القبلية تتوارث لزمن طويل. خاصة المشاكل على الأرض والمراعي والغابات والماء.

أما الثارات فهي الطامة الكبرى، التي من الصعب علاجها، وتبقى سابحة عبر الأجيال والأزمان. ولعلاجها لابد من تصدي العلماء والزعماء القبلين وبذل الأموال حتى تحل المشكلة. حساسية القبائل تجاه كرامتها وسيادتها على أراضيها كانت مشكلة كثيرا ما تواجه المجاهدين في تحركاتهم العابرة لأراضي قبائل عديدة، خاصة إذا كانت متكررة أو يترتب عليها معارك قد تطال القبيلة أو تعرضها لانتقام العدو. والصراع الحزبي لم يكن نادرا، وفي بعض المناطق كان مزمنًا.

ــ حتى المعارك التي تدور بالقرب من أراضي القبيلة، وتنتهي بنصر المجاهدين، فقد تقفز زعامات من القبيلة مطالبين بجزء محترم من الغنيمة في مقابل أراضيهم التي استخدمت في العبور إلى مناطق القتال، أو دار فوقها بعض القتال.

كل تلك المشاكل تحتاج إلى دراية عميقة بطبيعة القبائل والتاريخ السياسي لكل قبيلة، وخريطة العلاقات بينها.. الآن.. وقديمًا.

تقريبًا من المستحيل أن تحل أي مشكلة قبلية بدون وجود عالم دين فما بالك إذا كان هو حقاني بكل مهابته واحترامه وبطولته؟

ــ كان حقاني مع تعدد “الكومندانات ” العسكريين داخل كل قبيلة، وأنه مجبر على التعامل المباشر معهم اعتبارًا للقوة التي تحت أيديهم من سلاح ورجال، إلا أنه لم يهمل أبدًا التعامل مع كبراء القبائل وزعمائها التقليدية من كبار السن، وعلماء الدين فيها. وكان بذلك يضمن خطا خلفيا يلجأ إليه في حالة تعثر الاتفاق مع “الكومندانات ” حاملي السلاح والتابعين لأحزاب بيشاور، وتشكيل ضغط عليهم من داخل قبائلهم نفسها.

حقاني والسياسة الإقليمية: كيف استفاد حقاني من أهمية باكتيا، في الاستراتيجية وفي السياسة وفي الحرب؟

 أهم السياسات الخارجية كان بالطبع السياسة مع الجارة اللدود باكستان، التي هدفت إلى التحكم في كل ما يجري على الساحة القتالية في أفغانستان وفي مقدمتها (الكومندانات) أي القادة العسكريين القبليين، كبيرهم وصغيرهم، بالسلاح والإمدادات والمال (وجميعها عناصر قادمة من الخارج وليس من الحزينة الباكستانية). تسيطر باكستان على كل شيء بواسطة جهاز استخباري عسكري هو(ISI) صاحب السمعة والقدرة، والذي أسسه ضياء الحق الرئيس الباكستاني من أجل التدخل في أفغانستان.

كان حقاني من الحالات النادرة التي ظلت عصية على الهيمنة الباكستانية، وفرض عليهم معاملة ندية، بل أن يده كانت هي العليا. والسبب هو قوته الشخصية والعسكرية، وإحكام سيطرته على قبيلته زدران وهي القوة الضاربة الأولى في ولاية باكتيا. تشاركها في تلك الولاية ثلاثة قبائل هي منجل وجربز وتاناي. ولم تشهد باكتيا قتالًا قبليًا أو حزبيًا، والسبب الأساسي كان مجهود حقاني التصالحي والجامع الجهادي بين القبائل. لم تكن الخلافات أو حتى الأزمات غائبة ولكنها دومًا كانت تحت السيطرة بمجهود كبراء القبائل الشرفاء المخلصين لانتمائهم الإسلامي. وهكذا كانت باكتيا هي الأفضل من حيث التماسك والسلام القبلي بين سكانها.

 أعطى ذلك أهمية فائقة لحقاني في السياسة الخارجية عمومًا، خاصة السياسة إزاء باكستان حيث أن ولاية باكتيا لها أهمية استراتيجية فريدة بالنسبة لأفغانستان وباكستان معًا. فهي الولاية التي تحتوي أكبر عدد من الممرّات البرية الطبيعية التي تربط بين البلدين، لذا كانت سيطرة الجيش الأحمر أو القوات الشيوعية على تلك الولاية تمثل كابوساً يؤرق السلطات الباكستانية. وحائط الصد الأساسي في ولاية باكتيا هي قيادة حقاني التي تحفظ للولاية تماسكها وقوة ردعها التي تصد الجيش الأحمر.

وكان ذلك عاملًا حاسمًا في استمرارية الجهاد ونجاحه في نهاية المطاف. فإن 80% من الإمدادات الذاهبة إلى الجبهات في معظم المحافظات كانت تمرّ من باكتيا. وبالتحديد ممر جاجي ثم ممرّ خوست عبر قاعدة حقاني في جاور. وفي كلا الموضعين (جاجي وجاور) دارت أعنف معارك الحرب بسبب تلك الممرات، التي استمات السوفييت في إغلاقها واستبسل المجاهدون في الدفاع عنها، دافعين أغلى الأثمان بالدماء والأرواح.

( سوف نمرّ على أهم تلك المعارك خلال هذا الكتاب).

وكانت تلك هي ورقة القوة الأساسية في يد حقاني والتي وفرت له اليد العليا في التعامل مع باكستان وأجهزتها الإستخبارية. رغم أن تلك الأخيرة حاولت بشتى الطرق الحد من نفوذه أو إيجاد قيادات منافسة تقلل من قوته. وفي بعض الأحيان حاولوا التخلص منه نهائيًا (بالاغتيال) خاصة قبل فتح مدينة خوست والذي كان خطًا أحمرًا ـ باتفاق دولي بين الكتلتين ـ حتى يرغموا المجاهدين على قبول تقاسم السلطة مع الشيوعيين في كابول. حتى أنهم نقلوا إلى حقاني تهديدًا (بضربة نووية ) إذا اقتحم خوست !!.

لم يرضخ حقاني للتهديد النووي، كما لم تردعه محاولة الاغتيال ــ ثم حاولوا إفشال اقتحام جرديز، ونسجوا مؤامرة نجحت في تعطيل المحاولة الأولى للفتح (أكتوبر1991) ولكن في الربيع لم تسطع حامية المدينة تحمل الحصار والرعب الذي أصابها من تحفز المجاهدين ومناوشاتهم الدائمة والخطيرة.

في مثل المجتمع الأفغاني فإن السياسة القبلية للمجاهدين هي عماد قوتهم السياسية وبالتالي قوتهم العسكرية. وبشكل عام فإن القوة السياسة الداخلية (داخل الوطن) هي عماد القوة في مجال العمل السياسي الخارجي ــ والعكس غير ممكن ــ لأن القيادة التي تسيطر على زمام العمل الجهادي بدعم الخارجي عسكري وسياسي ومالي وتسليحي، لا يلبس أن تكون كارثة عظمى على شعبها، سواء نجح مسعاها أو فشل، فإن حمامات الدم تصبح حتمية. وقد شهدت أفغانستان ـ في العصر السوفيتي ـ تلك الحالة، خاصة في مثالها الأهم وهي الأحزاب (الجهادية) في بيشاور والتي تصدرتها شخصيات لا دور يذكر لها في قيادة قبائلها أو شعبها.

فتسببت في مآسي لأفغانستان سواء في عهد الاحتلال السوفيتي أو في عهد الاحتلال الأمريكي فكانوا ضد شعوبهم على الدوام وفي خدمة القوى الاستعمارية الخارجية التي تشتري خدماتهم، وتصنع زعامتهم المزيفة.

ونظرًا لخطورة موضوع السياسة في الحروب، سنعود إليه مرارًا في سياق هذا الكتاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى