مقالات الأعداد السابقة

حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 24)

أ.مصطفى حامد (أبو الوليد المصري)

 

معارك جبل تورغار

– تلك هي المرة الأولى التي أشاهد فيها حقاني عن قرب وهو يقود واحدة من العمليات الكبيرة. لقد تغير الوضع كثيراً عما كان عليه في عام 1981م، وهي آخر مرة شاهدت فيها حقاني يقود عملية.

– ساد الصمت الجنائزي فوق الجبل وما حوله وحتى جميع المواقع الأخرى هدأت هدأة الموت. وكان على حقاني أن يعالج ذلك الموقف الحرج، فأمسك جهاز المخابرة كي يتوجه بخطاب عام لجميع الوحدات المقاتلة، وللجماعة المهاجمة فوق الجبل بشكل خاص.

– انفجر الصاروخ في المدخل تماماً بفارق ثواني عن دخول حقاني إلى المغارة. هذه ثلاثة حوادث أعتبرها محاولات اغتيال متعمدة، لصعوبة أن أصدق أن المصادفة يمكن أن تقع ثلاث مرات بأسلوب واحد.

– هل أدخل الروس في تلك المرحلة صواريخ موجهة بعيدة المدى؟ خاصة وأنهم منذ سنوات قد استخدموا قذائف موجهة تطلقها الطائرات.

 

الأحد 14 يناير 1990 ــ 16 جماد الثاني 1410هـ

في رحلتنا إلى باري رافقنا الصديق عثمان الصعيدي، وهو شاب شهم فارع الطــول قضى سنوات عديدة في جهاد أفغانستان.

كان مركز القيادة مزدحماً، فقد توجهنا إلى (جبل الترصد) وهو جبل مرتفع على الحافة الجنوبيه الغربية لوادي خوست، يتخذه حقاني كموقع للقيادة في بعض الأوقات. وأقام فيه مركزاً ثابتاً للاتصالات اللاسلكية، ومنه يتم التصنت على مكالمات العدو اللاسلكية في المدينة، وعلى مكالمات الطيارين أيضاً. وكان ذلك عملاً عظيم النفع، استفدنا منه في عمليتنا ضــد المطار بعد ذلك بعدة أشهر. ومن ناحية صحفية أيضاً كان ذلك المركز مصدراً فريـداً للمعلومات خاصة التفاصيل الدقيقة لمحادثات صانعي القرار. وكان مسئولا اللاسلكي في الموقع هما “عبد العزيز” وهو ضابط سابق قوي البنية، هادئ ولامع الذكاء. والآخر “فضل” وهو شاب من المجاهدين يتمتع بنفس مزايا صاحبه فيما عدا قوته الجسمانية، ولكنه يعوض ذلك بسعة الحيلة والدهاء.

كلاهما قدم خدمات جليلة للمجاهدين ثم لنا أيضاً أثناء عملية المطار. وفي الواقع فإن زياراتي للجبهة واحتكاكي القريب بالعمل هناك خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام أفادني بشكل كبير جداً في فهم أسلوب عمل المجاهدين وتفكير قياداتهم، خاصة حقاني، والإمكانات المتوفره لديهم. وأن أفهم بشكل أدق أسلوب وإمكانات العدو.

وقد مكني ذلك من كتابة عدد من الدراسات العسكرية حول تلك الموضوعات، كما أفادني في ترتيب وقيادة عمليتنا الأولى ضد المطار، ثم عمليتنا التالية أثناء فتح المدينــة في العام التالي (1991).

قص علينا عبد العزيز أحداث جيدة حدثت ليلة الأمس (بعد نكسات تورغار وإسماعيل خيل). قصف أحد مدافع المجاهدين مدرج المطار فأصاب طائرة كانت قد هبطت للتو فاشتعلت بـها النيران. وكان في الجو طائرتي نقل تحاولان الهبوط وشاهدتا الحدث، فطلبت منهما القيـادة الأرضية في المدينة الهبوط لنقل طاقم الطائرة المحترقة إلى كابل. فرد أحد الطيارين بأنه لا يمتلك أوامر بالهبوط كما أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بلا حماية كافية. ولكن الطيار الآخــر هبط بطائرته ولم يكد يفعل حتى أصابته قذيفة هو الآخر، فاستنجدت القيادة الأرضية بالطيـارالثالث أن يهبط، فرد قائلاً: آسف لن أهبط. وكان آخر ما التقطه عبد العزيز هو قول القيادة الأرضية: سنحاول إصلاح الطائرة. في الرابعة عصراً جاءني حاجي إبراهيم راكضاً وهو يقول بلهفة إحضر فوراً هناك طائـرة سوف تهبط في المطار، كنت جالساً مع عثمان نراقب المدينة بالمنظار، ونتحدث في أمورشتي.

جرينا صوب عبد العزيز الذي كان يتابع المحادثات اللاسلكية بين الطيار والمدينة، بينما إبراهيم يترجم لنا. كانت طائرة عسكرية قد أصابها عطب وطلب الطيار إذناً بأن يقفز منـها بالمظلة، ولكن قيادة المدينة طلبت منه الهبوط في المطار. ويبدو أن تردد الطيار كان راجعاً إلي خوفه من مدفعية المجاهدين، ولكنه هبط أخيراً مستعيناً بمظلة خلفية لتهدئة سرعة الطائرة فوق المدرج. أخذ عبد العزيز يستنجد برامي المدفع “محمد بوستان الكوتشي” الذي أصاب طائرتين بالأمس فوق المدرج.ولكن ذلك استغرق وقتاً، وكم كان مثيراً عندما أخذت عده أجهزة لاسلكي تصيح بالرامي (بوستان) كي يقصف الطائرة الواقفة في منتصف المدرج تماماً.كانت شامخة قوية بعكس طائرات النقل، التي تعود المجاهدين ضربها في المطار.كانت قاصفة مقاتلة مـن طراز(سوخوي ـ 7) وهو طراز قديم. بعد فترة انتظار مثيرة، وكان بوستان قد أغلق مخابرته فذهب إليه بعض المجاهدين لتنبيهه إلى ما يحدث على مدرج المطار، فبدأ العمل بينما عبد العزيز يصحح له الرمايات. وقد سقطـت عدة قذائف على مسافة غير بعيدة ولكن الطيار تحرك إلى أقصى الطرف الشرقي من المدرج ثم اتجه قليلاً إلى الشمال حتى صار آمناً من قذائف (بوستان). بعد ذلك سرت إشاعة بأن سبب إتلاف الطائرة هو يعود إلى صاروخان “ستنجر” أطلقا عليـها دفعة واحدة فأصابها أحدهما. ولكن آخرون نفوا ذلك وعزوا ما حدث للطائرة بأنه عطـل فني، وذلك ما تأكدت منه بعد أكثر من عام بعد فتح المدينة وقد شاهدت الطائرة بنفسي وتفحصـتها وركبت في مقعد السائق، وكان جسم الطائرة مصاب ببعض الشظايا الصغيرة، في الغالب من نتائج رمايات بوستان التي سقطت قريبة منها.

 

* وبعد الفتح تسببت تلك الطائرة في مصرع واحد من مجاهدي الكوتشي (البدو)، فقد انحشر إثنان منهما في قمرة القيادة وأخذا يعبثان في كل ما تصل اليه أيديهم من أشياء وفجأة انطلق مقعد السائق عالياً في السماء ومعه المجاهدان الفضوليان، وعند ارتطامهما بالأرض مـرة أخرى قتل أحدهما فوراً وأصيب الآخر إصابات بليغة. أما صاحبنا الكوتشي البطل (محمد بوستان) فقد أجريت معه حديثاً لمجلتنــا “منبع الجهاد” واكتشفت أنه من جماعة صديقنا القديم، الشهيد عبد المنان، وكان بوستان شاباً، برغم شاربه الكث، غاية في الحياء والتواضع بعكس ما يوحي به مظهره من خشونة وقوة بأس. وقد استشهد رحمه الله بعد ذلك بعدة أشهر نتيجة رمايات مدفعية العدو، وذلك قرب مدخــل (بوري خيل).

ومازلت مندهشاً لتلك البراعة الكبيرة من جانب البدو الأفغان في اتقان العمل على المدفعيـة وصواريخ ستنجر رغم عدم تلقيهم لأي تعليم كان. أثناء الليل أيقظنا الحرس من غرفتنا فوق الجبل كي يسوقون لنا البشري بأن طائرة نقل للعدو حاولت الهبوط في المطار فأصيبت بنيران المدفعية واحترقت وقتل من فيها. وبذا يكون عدد الطائرات المصابة خلال 24 ساعة هو أربع طائرات منها واحدة سوخوي. وفي تلك الليالي المقمرة والصافية يكثف العدو محاولاته لإنزال طائرات النقل في المطار، وفي الواقع إنه لا يواجه نفس المقاومة العنيفة دائماً لذا فعنده احتمال للربح مع المجازفة. وقد ربح أحياناً كثيرة عندما كان يختار الوقت المناسب على حين غرة من المجاهدين وكان ذلك غالباً في الوقـت الواقع ما بين العاشرة ليلاً والصباح الباكر، وقد أفادتني تلك الملاحظات كثيراً فيما بعد.

 

الإثنين 15 يناير 1990 ـ17 جمادي الثاني 1410هـ

وصل إلى معسكر القيادة في باري، والمسمى مركز خليل، وصل عدد من الجنود الفارين.

أحدهم كان فوق جبل تورغار، وأفاد بأن نتيجة قصف المجاهدين للجبل أمس قتل 9 أشخاص من بينهم 5 من الميليشيات وثلاثة من الضباط كما جرح تسعة آخرون. وهناك 6 جثث متناثرة على سفح الجبل لجنود الحكومة منهم فرد من الميليشيا ثيابه بيضاء لم تتمكن الحكومة من سحبهم.

 

* والذين يرتدون الثياب البيضاء من الميليشيات هم من سكان خوست والقبائل المحيطة بها ممن لهم عائلات بالمدنية. والثياب البيضاء تعني المباهاة والشجاعة والاستقرار في المنطقة، بعكس حالة الجندي الغريب القذر الخائف. ومن أخبار الأمس التي وصلتنا اليوم هو استشهاد أربعة مجاهدين في منطقة باري نتيجة لقنبلة طائرة سقطت فوق مغارتهم فانهارت عليهم.

* وقد مررت على تلك المغارة فيما بعد ولم تكن سوى حفرة واسعة في جرف ترابي غــير متماسك وقد سقطت القنبلة على سقفها مباشرة، وكان يمكن أن تنهار حتى بدون ذلك. وكنت مهتماً بالمغارات التي يحفرها المجاهدون من الناحية الهندسية ومن الناحية العسكرية، وقد كان للمغارات دور رئيسي في عمليتنا ضد المطار، كما سنرى لاحقاً. وكما وفرت المغارات دفاعاً هاماً للغاية ضد غارات الطيران والقصف الصاروخي، فإن شبكة الطرق التي بناها المجاهدون في الجبال أكسبتهم مرونة كبيرة في الحركة ويسرت كثـيراًعمليات الإمداد والتموين لمقاتليهم.

في الصباح استطعنا الجلوس مع الشيخ حقاني، فقال إن المعارك قد بدأت منذ شهر ونصف (أي من ديسمبر الماضي) ولكنها اشتدت كثيراً في الأسبوع الأخير، وأنه من الأفضل لي أن أبقى حتى تنتهي المعارك. أما عن المجلة فسوف نطبعها في لاهور. ثم أخبرني أن اليوم سوف تبدأ معارك بهدف قطع الطريق بين خوست وجاجي ميدان في نقطتين لمنع عمليات التهريب القادم من باكستان. عدنا إلى نقطة الترصد، فشاهدنا نيراناً تنبعث من جبال جهة الشمال في مقابلنا، أخبرنــا عبد العزيز أن المجاهدين قد استولوا على عدة مراكز عسكرية “بوسـطات” في (ماشـغور) وأن الطيران تلقي أوامر بقصفها ولكنه اعتذر بأن هناك أمطار والرؤية غير واضحة. وأن الطيران تلقي أمراً بقصف الطريق بين لوجار وجرديز لتمهيد الطريـق لقوة عسكرية كي تمـر إلى جرديز. في الساعة الثانية والنصف ظهراً سقط إثنان من صواريخ سكود، واحدة خلف جبل تورغـار”حيث تتوقع الحكومة وجود تحشدات للمجاهدين هناك”، والأخرى طرف نـادر شـاه كوت، الأتربة والدخان المتصاعد من انفجار تلك الصواريخ يكون مهيباً ويرتفع في الجو مئات الأمتار في شكل عش الغراب كما يحدث في الانفجار النووي، كما أن فرقعات انفجارها هي الأضخم بين باقي القنابل والصواريخ.

* أخبار أخرى من ماشغور، فالقتال الذي بدأ في السابعة صباحاً انتهى ظهراً بالاستيلاء على ثلاثة بوسطات، ومديرية (مركز إداري لمنطقة قروية) وأخذوا غنائم كثيرة جـداً من بينـها دبابتين، وقد أسروا جميع الجنود الذين فر منهم أربعة فقط. الحكومة قالت أنها خسرت كل الأسلحة التي في المواقع، وأنها استردت المواقع مرة أخـرى فيما بعد عدا المديرية، ولكن المجاهدين قالوا أنهم في كل المواقع التي أخذوها.

كانت قمة ماشغور هي الأعلى جهة الشمال كما هو جبل تورغار في الجنوب والمسافة بينهما من 30 إلى 35 كيلومتر في خط مستقيم يمر بمركز المدينة وسقوطه مع سقوط تورغار يعني كماشـة ضخمة من فكين في الشمال والجنوب، وهو مالم يحدت على أية حال حتى سقوط المدينة. وكتبت في مذكرتي وقتها إنه بسقوط ماشغور، وعند نجاح عمليات اليوم لقطع طريق التهريب من جاجي ميدان، وإذا سقُط تورغار يكون 70% من مهام فتح المدينة قد تم إنجازه.

لم أكن أعلم أن هناك عملية قريبة ضد تورغار بهدف الاستيلاء عليه، وكنا من وقت لآخـر نسمع صوت إطلاق نار كثيفة فوق تورغار وكنت أفسره بأنه نتيجة خوف الجنود وتوترهم، لكن الأغلب أنهم شاهدوا تحركات مريبة قريباً منهم فقد كان المجاهدون قبل كل هجوم يعملون خفية في نزع الألغام التي زرعتها قوات الحكومة وفتح طريق لهجماتهم القادمة. اليوم أيضاً التقط عبدالعزيز مخابرة من توغار إلى قيادة المدينة يهدّدهم فيها بالتسليم إذا لم تصله الإمدادات، فالأعصاب إذن متوترة، والإمدادات قليلة والإداريات مرتبكة، فهل حانـت ساعة السقوط؟. في الخامسة والنصف (عند الغروب) حدث اشتباك من مسافة قريبة فوق تورغار استخدمت فيه البنادق الآلية والرشاشات الثقيلة وصواريخ RBG هل هو هجوم حقيقي، أم عملية جس نبض يقوم بها المجاهدون؟ أم هو تحرك سريع من جانبهم بعد أن التقطوا رسالة تورغار إلى المدينة ويهدد فيها بالتسليم؟ وقبل أن أحصل على الإجابة سقط صاروخ سكود فيما بين جبل تورغار وجبل زرمانكي الواقع إلى غربه، وهو منطقة تجمع فعلية للمجاهدين، وتكثر فيها المغارات، وهناك مركز صديقنا”أبو الحارث”. واستخدام الحكومة لصواريخ سكود يعني أنها تواجه أزمة حقيقية. ولكن الخوف وتوتر الأعصاب يجعل بعض الأحداث العادية تظهر كأنها خطر حقيقي. لذا كان بعض استخدامهم لتلك الصواريخ حمقاً وسفهاً. ولكن في أحيان أخرى كانت دقــة تصويبهم تثير الإعجاب. فعلى سبيل المثال فقد أصابوا مركز خليل في مدخل الشعب الضيق المؤدي إليه ثلاث مرات على الأقل بفارق أمتار قليلة في كل مرة، تصادف في معظمها أن كان حقاني قد دخل لتوه إلى المعسكر !! فوجدت في العسير أن أفترض أنها مصادفة، ومن العسير أيضاً التشكيك في قدرتهم على الإصابه الدقيقة للغاية بتلك الصواريخ.

وما زالت أشك في أنهم استخدموا، أحياناً، صواريخ موجهة مثل صواريخ كروز الأمريكية وأن الأقمار الصناعية قامت بدور ما في الرصد والتوجيه.

 

الثلاثاء 16 يناير 1990م

الاستيقاظ لصلاة الفجر في هذا الشتاء البارد وفوق هذا الجبل المرتفع تجربة صعبة، ولكنها لاتخلوا من جمال، خاصة إذا كان الجو غائماً والسحاب منخفض بحيث يضع الجبل ومن فيـه وسط غلالة رقيقة ساحرة الجمال من الأبخره الباردة المبللة. وتزداد النشوة بإمكانية التحرك الحر فوق الجبل فالعدو لن يرانا وبالتالي لاقصف ولا يحزنون. كنا في غرفة ضيقة مزدحمة بالفرش والأشخاص مع بخاري متهالك للتدفئة. الغرفة كلها تقريباً غائصة في بطن الجبل قريباً من خط الأفق. قطع الخشب المخصصة للبخاري تشغل حيزاً ملموساً من الغرفة، وبينه وبين السقف تعيش مجموعة من الفئران الصغيرة المـرحة، التي تقضي معظم ليلها في كر وفر بين النائمين بالغرفة. الزملاء في الغرفة تفرقوا مبكراً، وبقيت مع حاجي إبراهيم وعثمان الصعيدي لتناول إفطارالصباح المكون من الشاي الأخضر والخبز اليابس، وابتسم لنا الحظ بأن وجدنا بعض السكر عند عبد العزيز فتم لنا الاستمتاع بشاي الصباح الساخن في جو الصباح المتجمد.

صعدت مع عثمان لنلقي نظرة على المطار، كانت الطائرة السوخوي بلونها الفضي تقف قرب الأشجار في الطرف الشرقي في المطار، أما في الطرف الغربي فقد أحصيت سبعة طائرات مصابة ومحطمة، جميعها من طراز(AN-32) ذات المروحتين وبألوان عسكرية مبرقشه.

كتبت في مذكرتي بعدها: (بحيرة بجع بائس هذا هو مطار خوست بطائراته المحطمة). الجو مشرق أحياناً، والرمايات المدفعية متقطعة، حتى الحادية عشر صباحاً لم يظهر طيران العدو.

إذاعة كابول أذاعت اليوم بأن الإصلاح جاري في الطائرة السوخوي المعطلة في مطار خوست، وأنها مصابه بحوالي 23 شظية واحده منها في خزان الوقود. أبلغ عبد العزيز النبأ للمجاهد (محمد بوستان) الكوتشي الذي شرع في القصف مرة أخرى محاولاً إصابة الطائرة السوخوي. في نفس الوقت ظهر عمود من الدخان الأسود الكثيف تصاعد إلى الأعلى لمسافة كبيرة جداً، وكان ذلك من جهة الشرق، ربما بسبب عمليات إغلاق طريق جاجي ميدان. مرة أخرى تبادل إطلاق نار فوق ظهر تورغار في الساعة الثانية والنصف ظهراً ثم نقل إلينا عبد العزيز الخبر التالي: في الساعة الثالثة من صباح اليوم هاجم مجاهدي المنطقة الشمالية جبال ماشغور واستولوا على ثمان مواقع عسكرية ومواقع إدارية ومقر عسكري في ( باتشا زاده ) وأسروا عددا كبيرا من الجنود وخمسة من أفراد الميليشيات، وتفاصيل الغنائم كثيرة جداً. وفقد المجاهدون سته شهداء واثني عشر جريحاً.وصلتنا صحيفة باكستانية، التي نقلت عن مصادر حكومية في كابل قولها: “أن رئيس الدائرة السياسية في وزارة الداخلية، الميجر جنرال أسد الله بيام يقوم بزيارة لمدينة خوست التي هي أسخن نقطه في البلاد الآن، وأنها تتعرض للهجوم الثاني عليها، فالهجوم الذي بدأ الخميس الماضي قد استؤنف يوم الإثنين وأن المجاهدين قد تكبدوا في تلك الهجمات 585 قتيلاً وجريحاً !!”.

ولم يتطرق المسؤول الشيوعي إلى ذكر إصابة الطائرة السوخوي.

 

الأربعاء 17 يناير 1990م

الجو غائم ممطر طول الليل، وهكذا استقبلنا الصباح، إضافة إلى مفاجأة أخرى وهي أن السيارة التي تحمل الطعام إلى المركز لن تحضر لكونها معطلة. وهكذا لن نفطر وربما لن نتناول طعام الغداء أيضاً. لم يمنعنا ذلك من الاستمتاع بهذا الصباح المنعش، وبمتعة التجول فوق الجبل بدون الخشية من أن يكتشفنا العدو فنحن وهم لانكاد نرى لأبعد من أمتار قليلة، نتيجة السحب التي تلف المنطقة كلها. وكأن الجبال هي التي أصبحت تمر بين السحاب المثقل بقطرات الماء.

ونحن مازلنا أمام البخاري طلباً للتدفئة جاءنا حاجي إبراهيم بخبر غريب لكنه سار ومجهول المصدر، يقول الخبر أن الحداد أعلن في خوست لمدة ثلاثة أيام لمصرع ميجر جنرال عجب خان مزاري قائد (لواء سرحدي) والذي ظل يقاتل في المنطقة منذ ست سنوات، وأن 15 شخصاً آخر قد قتلوا معه والتفاصيل غير معلومة. لقد أدهشني ليس خبر مقتل عجب مزاري بل أدهشني أنه مازال حياً ويعمل في خوست أيضاً، لقد كان قائداً للحامية الحكومية فوق تورغار في وقت أن كنا نعمل في باري في أيامنا القديمة وحتى إستشهاد عبد الرحمن.

 

تورغار.. المحاولة الثانية (الخميس 18 يناير 1990م)

بدأ الصباح بارداً كثيف السحب، وهذه بدورها تثاقلت حتى صارت تجر نفسها جراً فوق الجبال فضعفت الرؤية كثيراً. المطر يتساقط ضعيفاً منعشاً لكنه كاف لتكوين أوحال تعرقل الحركة في الأماكن الترابية، ولكن الأسوأ هو أن ترتوي الملابس من ذلك المطر وفي مثل ذلك الطقس البارد مع شيء من الهواء يمكن أن يسقط المرء صريع الرجفة. ليس ذلك لمن يجلس مثلنا في هذا الصباح داخل الغرفة إلى جوار البخاري الذي احمرت أوداجه بالأخشاب المشتعلة داخله، ولكن بالنسبة للرجال الذين يتحركون الآن في ذلك الصباح المبكر من أجل الاستيلاء على أهم موقع عسكري في معركة خوست كلها: جبل تورغار.

همس لنا عبد العزيز أن اليوم يبدأ الهجوم على تورغار، استبشرت بالخبر واعتبرت أن طقس اليوم مناسباً تماماً لذلك العمل. فطائرات العدو الأكثر إزعاجاً لن نسمع اليوم صوتها القبيح، والمجاهدون يمكنهم التقرب إلى بعد أمتار قليلة من خطوط العدو فوق الجبل قبل أن يكتشف تواجدهم. في الثامنة صباحاً بدأ المجاهدون قصفهم المدفعي ضد تورغار، ومدفعيات العدو في الوادي تقصف مواقع المجاهدين على غير هدى. الساعة الثامنة والنصف صعد الشيخ حقاني إلينا في نقطة الترصد وأخذ موقعه إلى جانب عبد العزيز ومساعده فضل وقد نصبوا عدداً من أجهزة اللاسلكي الكبيرة، وقد غطوها وغطوا أنفسهم بأغطية بلاستيكية، فرذاذ المطر ينهمر باستمرار. حقاني وعدد من مساعديه يستخدمون عدداً من أجهزة اللاسلكي الصغيرة للاتصـال بالوحدات المختلفة. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أشاهد فيها حقاني عن قرب وهو يقود واحدة من العمليات الكبيرة. لقد تغير الوضع كثيراً عما كان عليه في عام 1981 وهي آخر مرة شاهدت فيها حقاني يقود عملية. وكانت ضد القلعة الحكومية في مدخل وادي ليجاه.

تسلحيه الشخصي يومها كان عبارة عن كلاكوف، وكان سلاحاً لا يحمله إلا الروس فقط، وقد غنمه أثناء المعارك، وكان يحمل دوماً قاذف RBG، لمقاومة طائرات الهيلوكبتر.

ومازلت أذكره يوم دب الزعر والفوضى في معسكرنا بين شعاب ليجاه نتيجة ركوب الهيلوكبتر لموقعنا فقد صعد فوق الجبل القريب يتبعه حارسه الشخصي (علي جان) كي يطلق صواريخ RBG على الطائرات. كان الثبات تحت هجمات الهيلوكبتر أمراً عسير المنال وقتها، فقد كان لها تأثيراً كبيراً ورهبة، فلم يكن الناس قد تعودوا التعامل معها أو نجحوا في مقاومتها رغم وجود صواريخ (سام) بأعداد قليلة وقتها. لذا كان همّ حقاني وقتهــا بث الشجاعة والثبات في الرجال وتحطيم هيبة الهيلوكبتر ومقارعتها بالصواريخ وقد نجح في ذلك إلى حد كبير.

 

في ذلك الوقت في ليجاه لم يكن في الموقع كله أي جهاز لاسلكي صغيراً كان أم كبيراً. وأيضاً معركة جاور كانت أحد أوجه ضعف المجاهدين فيها عدم وجود اتصالات لاسلكية بين المجموعات المختلفة.

ما أراها الآن شبكة اتصالات رائعة لها قدرة على ربط جميع الوحدات ببعضها وبالقيادة، وأيضاً القدرة على التصنت على اتصالات العدو الأرضية والجوية. كان الزحام شديداً في نقطه الترصد والقيادة. فبالإضافة إلى الحرس الشخصي للشيخ حقاني، هناك مجموعة أخرى مع سيارة خاصة لتنفيذ بعض المهام التي قد يكلفون بتنفيذها مثل متابعة أمر هام مفاجئ، أو إيصال بعض الأوامر بشكل مباشر بدون نشرها على الملأ في أجهزة المخابرة.

وزاد الزحام تطفل مجموعتنا (الصحفية) التي رافقني فيها عثمان الصعيدي وحاجي إبراهيم، وقد أخذنا نسجل معظم الاتصالات اللاسلكية. وكذلك فعلنا في عدد من المعارك التالية، ومازلت أحتفظ بتلك التسجيلات التي ربما صارت (تاريخية).

في فترة هدوء نسبي قال لي الشيخ: الرؤية غير جيدة بالنسبة للأسلحة الثقيلة والدبابات، ولكن الجو الممطر والضباب مفيد للمهاجمين فوق الجبل. كانت الملاحظة في محلها تماماً بل أن استمرار هذا الطقس قد حرم المهاجمين على الجبل من مساعدة الأسلحة الثقيلة، فكان عليهم أن يتعاملوا بمفردهم مع تحصينات قوية جداً لعدو مسلح حتى أذنيه، ومتفوق عددياً على المهاجمين، وتلك كانت مأساة ذلك اليوم الذي تمنيت أن يكون يوم الفتح.

* الساعة 9.30 صباحاً الضباب يزداد كثافة والمطر مستمر، فهدأت الرمايات القليلة فوجدت فرصة لاستئناف الحديث مع حقاني، فسألته عن تأثير الاستيلاء على تورغار في مجرى معارك خوست فرد قائلاً: هذا الجبل بالنسبة لهم مثل العين، يرصد تحركاتنا، ويوجه المدافع والطائرات ويضرب مواقعنا، فإذا أخذناه زال كل ذلك فيمكننا تقديم مدافعنا إلى الأمام وتحديد مواقعهم حول المطار وضربها، كما أن الرعب سوف يصبهم إذا استولينا على تورغار، فمن كثرة دعايتهم حوله وتبجحهم بإمكان صد المجاهدين عنه، جعل الناس عندهم من عسكريين ومدنيين يشعرون أن تواجدهم وحياتهم معلقة بهذا الجبل. ثم سألته عن سبب فشل عملية إسماعيل خيل الأسبوع الماضي فذكر ثلاثة أسباب هي:

1 ـ عدم قيام الأحزاب المشاركة في العملية بالمهمام الموكلة لها.

2 ـ استشهاد وجرح قادة المجموعات الأربع التي تقوم بالهجوم.

3 ـ انسحاب الدبابات (وكان عددها ثمانية) بدون أوامر، إثر إصابة قادة الهجوم.

وقال حقاني: إن الطائرات قد استخدمت مؤخراً قنابل ثقيلة جداً سقطت إحداها قرب دبابة فغطتها النيران.

وعن مصير عجب مزاري قال إن الأخبار غير مؤكدة ولكن مصادرنا في خوست تؤكد أنه قتل ولكن الحكومة تتكتم الأمر، كما أن مواقع ماشغور مازالت في أيدي المجاهدين.

قال حقاني بأن المجاهدين يتقدمون الآن في الطرف الغربي بجبل تورغار، بينما تقوم دبابة خليل في الوادي بقصف تحصينات العدو على تلك الحافة، ولكن العدو استفاد هو أيضاً من الظروف الجوية، ودفع بتعزيزات جديدة نحو الجبل، رغم كمائننا المتقدمة التي التفت إلى خلف الجبل من جانبه الغربي وتقدمت إلى مسافة معينة، فلم تستطع تلك الكمائن أن تشاهد تعزيزات العدو أو تتصدى لها.

* في الساعة العاشرة والخمسين دقيقه سقط صاروخ سكود تلاه صاروخ آخر بعد عشر دقائق قرب جبل تورغار، ولكن لا إصابات، ولكن تكهرب الجو وساد التوتر عنـدما انقطعــت الاتصالات مع خليل (أخو حقاني) ودبابته في عمق الوادي الذي يقصـف بهـا من الخلف تحصينات تورغار، لذا كانت دبابة خليل تحت نيران كثيفة قاتلة.

* الساعة 12.45: في غرفة عبد العزيز الضيقة شبه المظلمة جلسنا مع حقاني لتناول طعام الغداء، وكان قلقاً للغاية على أخيه خليل، لذا قطع تناول الطعام كي يتابع محاولة الاتصال.

 

* الساعة 12.45 بدأت معركة بالرشاشات فوق سفح الجبل، الرمايات كثيـفة جـداً نسمعـها بوضوح. يقع مركزنا على بعد 4 كيلومتر غرب تورغار وإلى الجنوب قليلاً منه. للمجاهدين دبابه أخرى الآن تقصف، تحصينات الحافة الغربية بجبل تورغار ولكن من موقع على جبل زورمانكي الواقع غرب تورغار ومن إحدى هضابه منخفضة الارتفاع.

أثناء صعود المجاهدين نحو القمة يكون جزء من الطريق مكشوفاً لمدفعية العدو في الوادي، وقد ركز العدو رمايته على ذلك الجزء ولكن المجاهدين كانوا قد تجاوزوه والعدو غير منتبه نتيجة الغيوم والضباب الذي يلف الجبل وما حوله.

الزاحفون نحو القمة يشكون من رماية رشاش ثقيل لدى العدو ( زيكوياك) وأنه أوقف زحفهم ويطالبون من (فيروز) التدخل وإسكاته.

فأجابهم خليل بصوته، لقد بذلت غاية جهدي ورميت عليه كثيراً، فتقدموا أنتم وأسكتوه. كان المتكلم من فوق الجبل هو الدكتور نصرت الله قائد كتيبة سلمان الفارسي وهو يتحرك بساق واحدة منذ سنوات بعدما فقد الأخرى في أحد المعارك.

كان نصرت الله قد وصل إلى نقطة الذروة، فالباقي هو قفزة واحدة وأخيرة يكون بعدها مع رجاله في خنادق الخط الأول للعدو والتي تحيط بقمة الجبل مثل السوار المحكم، وفي طرف الجبل تلك القمة المحصنة الرهيبة الشبيهة بغرفة ضخمة تخرج منها فوهات قاتلة لرشاشات ثقيلة، وقاذفات قنابل يدوية من النوع الشهير باسم (نارينجاك)، وهو سلاح غاية الفعالية في مثل تلك المواقف التي نشاهدها الآن، وكان ينقص المهاجمين امتلاك سلاح رائع من ذلك النوع.

 

تواصل الحوار لفترة بين نصرت الله (وفيروز) حتى بدأت رماية الرشاشات فوق الجبل تخفت فعمت الجميع مسحة من الحزن والألم. لقد وصل المهاجمون فوق الجبل إلى نهاية مغلق ولا يتسطيعون أداء قفزتهم الأخيرة التي لا تتعدى أمتار قليلة لا تزيد عن عشرة أمتار ولكنها تفصل بين النجاح والفشل، بين النصر والهزيمة، بين فتح خوست في نهاية الأمر، أو البقاء في حلقة مفرغة قد تؤدي إلى هاوية لمسيرة جهاد استمر لأكثر من اثني عشر عاماً.

ساد نوع من الصمت الجنائزي فوق الجبل وما حوله وحتى جميع المواقع الأخرى هدأت هدأة الموت. وكان على حقاني أن يعالج ذلك الموقف الحرج، فأمسك بجهاز المخابرة كي يتوجه بخطاب عام لجميع الوحدات المقاتلة، وللجماعة المهاجمة فوق الجبل بشكل خاص.

وتكلم الشيخ بنبرة هادئة قوية فذكرهم بالله والاعتماد عليه وحده وعدم التعلق بالأسباب لأن النصر هو من عند الله وليس بالأسباب الظاهرية، وطالبهم بالإطمئنان إلى وعد الله والتوكل عليه.

وقال إنه لا بد من الاستمرار وإنهاء العمل هذا اليوم الذي قد لا نجد مثله فيما بعد فلا طائرات ولا مدافع تعمل ضدنا، ثم طلب من أفراد جميع المواقع أن يصلوا ركعتين لله ثم يدعــوه أن ينصر المجاهدين.

أنهى حقاني كلمته وتوجه إلى الصلاة وكذلك فعل كل من في الموقع ثم انهمـك الجميـع في الدعاء وأحياناً في البكاء.

* الساعة 3.12 المجاهدون فوق الجبل يبدأون إطلاقاً شديداً للنيران الرشاشة مع قذائف مضادة للدروع. رشاش (زيكوياك) لدى العدو يصمت فجأة وأيضاً ينقطع الأتصال اللاسلكي مع المهاجمين تصورت وقتها أن الاقتحام قد تم وأنها الآن دقائق عصيبة فوق الجبل حيث لا وقت لأن يتحدث أحد مع أحد بغير زخات الرصاص.

المجاهدون يقصفون مراكز العدو في شيخ أمير لمنعه من التفكير في مهاجمة دبابة خليل من الخلف، وهو ما كان يخشاه حقاني ولأجل ذلك بث كمائن متقدمة للدفاع. حدث انفجار ضخم في مواقع العدو في شيخ أمير وحقاني يصيح مشجعاً المجاهدين ويبشرهم بالنصر.

عاد الاتصال اللاسلكي مع المهاجمين فوق الجبل وقالوا بأن عشرة من جنود العدو قد فروا إلى جانب المجاهدين فأمر حقاني بإرسالهم إلى الخلف. وفجأة تظهر طائرات الهيلوكبتر وتقصف وابلاً من الصواريخ على الحافة الغربيــة لجبـل تورغار حيث تتوقع وجود المجاهدين، فالرؤية مازلت متعذرة بسبب السحب والضبــاب، هيلوكبتر آخر تأتي على ارتفاع منخفض من فوق مراكز العدو في شيخ أمير في أتجاه دبابة خليل، وتبدو أنها محاولة لتدمير الدبابة، لكن كمائن المجاهدين المتقدمة واجهتها بقذائف RPG فولت الطائرة بسرعة كبيرة وعلى ارتفاع منخفض للغاية، وهكذا تفعل طائرات الهيلوكبتر لتفادي الصواريخ المضادة للطائرات ولكنها بذلك تعرض نفسها لنيران الرشاشات والقذائف المضاده للدروع فيمكن إسقاطها إذا كان هناك أفراد يقظون وعلى استعداد للاشتباك. راجمات الصواريخ المعادية من طراز BM-41 تقصف مواقع المجاهدين حول تورغار.

* الساعة 3.56 رشاشات العدو الثقيلة والخفيفة فوق الجبل ترمي بلا انقطاع وجعلني ذلك متشككاً في أن الاقتحام لم يتم أو أنه فشل. كان الموقف غير واضح بالنسبة لي، فسألت الشيخ حقاني عن الموقف فوق الجبل فأخبرني بأن مقاومة العدو شديدة جداً.

سقط صاروخ سكود تلاه صاروخ آخر بفاصل ثوانِي قليلة، وعادت الهيلوكبتر تقصف الحافة الغربية لتورغار بوحشية بالغة.

* الساعة 4.45: صاروخ سكود آخر تلته غارة عنيفة بالهيلوكبتر، كأنها تستغل حالة الاضطراب التي تعقب إنفجار صاروخ سكود كي تنفذ مهمتها بأمان أكثر. الرشاشات الثقيلة فوق الجبل مازالت تعمل باتصال، وكذلك بنادق الكلاشنكوف.

* الساعة 5: الهيلوكبتر تواصل غاراتها، وربما تهبط خلف الجبل من جهـة المدينـة كي تنـقل الجرحى والقتلى. أصبح الجو مظلماً وجاء الخبر بأن الهجوم قد توقف، وأن هناك شهداء لم يذكر عددهم.

* الساعة 5.25: فوق تورغار إطلاق نار متواصل بجميع الأسلحة في حفل ابتهاج بفشل الهجوم عليهم، ونجاحهم مرة أخرى في الصمود أمام هجمات المجاهدين. لاشك أن ذلك يرفع معنويات العدو في خوست وكابل ويؤكد لهم قدرة النظام على الإمساك بالمــدن الهامة، وبالتالي يدعم الطرح الدولي بإقامة حكومة (شيوعية إسلامية) في كابل كي تخدم السوفييت وأمريكا معاً.

كتبت في مذكرتي تلك الكلمات: (يبدو أن العملية تحتاج إلى يوم آخر على الأقل ) مع إجراء بعض التعديلات مثل إعادة توزيع الدبابات لقصف مراكز العدو المتحصنة فوق الجبل، والطقس عامل هام، واستمراره ليوم آخر، بنفس الحال، سيكون معجزة لصالح المجاهدين. سألت حقاني عن استئناف الهجوم في الغد فأجاب قائلاً:( لاأعلم هل نستأنف الهجوم غداً أم بعد أيام ولابد أن نغير في الطريقة ونهجم من أكثر من طريق بعد أن نرفع الألغام، وأن نستخدم هاونات عيار120مليمتر لضرب مرابض الرشاشات الثقيلة، سوف نعيد النظر في البرنامج ).

بعد الغروب جلس الشيخ حقاني معنا في غرفة عبد العزيز لبعض الوقت وطلب مني النزول إلى مركز خليل لأن الجو هنا بارد. وبالفعل تجمعنا هناك في مغارة الضيافة وكانت دافئة، وبعد العشاء بدأ أفراد وقادة ممن شاركوا في الهجوم يتوافدون لمقابلة حقاني وتقديم التقارير إليه. كان منهم من أصحابنا القدماء مولوي (أليف جول) والكومندان (شيرين جمال) الذي ظهر عليه الإرهاق وقد علته الأتربة حتى تغيرت ملامحه وقد أحضر معه جثث الشهداء وعددهم ثلاثة، مع أربعة من الجرحى منهم عربي واحد.

قال شيرين جمال بأن بعض أفراد العدو ظلوا يطلقون على المجاهدين نيران الرشاشات والقنابل اليدوية وقذائف RPG، فلم يستطع المجاهدين إتمام الاقتحام.

 

الجمعة 9 يناير 1990م

قضينا الليلة في غرفة أسفل الجبل، وفي الصباح صلينا الفجر خلف الشيخ نظام الدين. وجود البخاري في المسجد لم يفد في جعله دافئاً فالهواء المثلج يتسلل من الشقوق الواسعة في النوافذ التي أغلقت بكل ما تيسر من أقمشة وقطع بالاستيكية وأحجار.

ولإظهار نوع من الفخامة صنعت أرضية المسجد من الأسمنت، ولكنها في شتاء مثل هذا تصبح بارده مثل الجليد، حتي أن أكثرنا قد خلع رداءه (البتو) من فوق كتفيه ووضعه على الأرض تحت قدميه أثناء الصلاة حتى لا تتجمد أصابعه.

مصطفى اليمني وعدد من أفراد مجموعته التقوا بالشيخ حقاني صباحاً. ملامح البرنامج الجديد ذكرها لي حقاني عند لقائي معه فقال:

1 ـ سنفتح طريق جديد للتقدم على تورغار وننظفها من الألغام.

2 ـ ننوي مواصلة الضغط وعدم إعطاء العدو فرصة لالتقاط الأنفاس.

3 ـ سنبدأ عمليات هجومية في ظروف يومين أو ثلاثه.

قبل الظهر مرت طائرة فوق المركز ورمته بصاروخ جاء إلى الخلف قليلاً، ثم وصل (خليل الرحمن) ومعه أربعة أسرى من جنود الحكومة فجلست معهم وأخذت منهم بعض المعلومات عن أوضاع المدينة، سأذكر بعض ما ورد فيها بعد قليل.

جاء أبو الحارث وبعض الشباب من مجموعته فجلست معه حتى صلاة العصر نتحدث في معركة الأمس والبرامج المقبلة.

ثم صعدت على الجبل الذي يعلو المغارات ومشيت عليه منفرداً، أتذكر العالم القديم لأيامنا الذهبيه في تلك المنطقة. كان مركز خليل الذي هو الآن قلب المنطقة النابض، مجرد شعب مجهول ومهمل وقد تستخدمه إحدى المجموعات لأيام قليلة ثم تزهد فيه. وعلى بعد كيلومتر واحد جنوباً يوجد مركز منان الذي كان فيما مضى هو مركز الحيوية والقوة في كل جنوب خوست وجبالها. وعلى بعد عدة أمتار شمالاً كانت تقف فيما مضى إحدى الدبابات التي حطمها منان ورجاله في هجوم 1985 الذي وصلت فيه القوات الحكومية إلى مركز منان لأول وآخر مرة في طول مدة الحرب. وهذه الحفر البيضاء في سفح الجبـــل المواجه لنا شمالاً هي قنابل مازلت أذكر متى ولماذا ضربتنا بها الطائرات عام 1987.

 

نظرت جهة مركز منان لأطالع الطريق المار بقربه قادماً من غلام خان، وأتذكر المشاهد الماضية وكنت غارقاً في تلك الذكريات الجميلة، ولا أعي كثيراً مما حولي. في تلك اللحظة، ظهرت أمام عيني كرة ضخمة من النيران الصفراء والحمراء، ثم دخان أسود يحيط بكرة اللهب، ثم يصعد ذلك كله بسرعة هائلة إلى الأعلى، بينما يتسع إلى الجانبين أيضاً بشكل كبير، كل ذلك وأنا لا أكاد أعي ماذا يحدث أمامي، وفجأة وصلني صوت انفجار رهيب ترددت أصداؤه بين الجبال والوديان، تحركت غريزياً وبلا وعي فجلست بسرعة خلف صخرة قريبة.

أفقت من تخيلاتي ومن دهشتي، وعادت حواسي إلى العمل، لقد كان ما رأيته هو صاروخ سكود لحظة ارتطامه بالأرض، وكان الصاروخ نزل على الطريق الذي تسلكه سيارات المجاهدين أو قريباً منه جداً.

وتذكرت أنني سمعت(علي جان) يتحدث على المخابرة وهو واقف إلى جانب سيارة حقاني المتأهب للرحيل ويخبر من على الطرف الآخر بأنهم على وشك الحركة، وأن شخصاً جاء راكضاً وتكلم عدة دقائق مع حقاني الجالس داخل سيارته، ثم انطلقت السيارة نحو ميرانشاه، وداخلني ما يشبه اليقين بأن تلك الدقائق كانت الفاصل بين الحياة والموت وأن حقاني كان هو المقصود بذلك الصارخ، إنه حادث طبق الأصل لما حدث في يوم الأحد 1/10/89 وقد سجلته في مذكرتي ورجعت إليه الآن وكان التطابق مدهشاً. إذن هما حادثان من نفس النوع وبنفس الطريقة، وهناك حادث ثالث عندما انفجر صاروخ سكود أيضاً في لحظة دخول حقاني إلى معسكر خليل عندما دخلت خلفه كرة من النيران والأحجار والدخان والأتربه لقد انفجر الصاوخ في المدخل تماماً بفارق ثواني عن دخول الرجل إلى المغارة. هذه ثلاثة حوادث، أعتبرها محاولات اغتيال متعمدة، لصعوبة أن أصدق أن المصادفة يمكن أن تقع ثلاث مرات بأسلوب واحد أو متشابه.

وطرحت على نفسي عدة أسئلة محيرة ليس لها إلا إجابات لاتقل عجباً عن الحدث نفسه. فمثلاً:

كيف تتم مراقبه حقاني؟ هل يتم ذلك بمراقبة جهاز اللاسلكي الخاص به؟ أم هناك مركز تجسس في المنطقة يتابع حركة سيارته، أم هناك شخصاً في المجموعة القريبة منه يرســل معلومات مباشرة وفورية عن حركته؟..إلخ.

وأسئلة أخرى عن دقة إصابة صاروخ سكود. والمشهور عنه أنه غير دقيق ويستخدم فقط ضد الأهداف الكبيرة الثابتة. ولكن عدداً لا بأس به من الرمايات كانت في دقة غير عادية، وتم ذلك مرات متكررة بما ينفي عنصر المصادفة.

فهل أدخل الروس في تلك المرحلة صواريخ موجهة بعيدة المدى؟ خاصة وأنهم منذ سنوات قد استخدموا قذائف موجهة تطلقها الطائرات، بل شاهدنا منذ وقت قريب قصفاً جوياً على موقع المجاهدين قرب (شيخ أمير) قال الطيار أنه إستخدم فيه صواريخ موجهة، وقد التقــط عبد العزيز المخابرة.

ومن الثابت أن السوفييت بعد انسحابهم أبقوا على نوع من المشاركة النوعية في الحـرب، بعضها من داخل أفغانستان نفسها بواسطة عدة آلاف من الخبراء خاصة في شئون الصواريخ والطيران. وأشركوا طائرات من أحدث الأنواع التي مازالت في طور التجربة. وقد أعلنوا عن ذلك عند عرض طائراتهم الحديثه في أحد معارض الطيران في دبي في التسعينات.

وأظن أن بعض الغارات بالقنابل العنقودية، والتي شاهدتها في وادي خوست عامي 1990، 1991 عند فتح المدينة قامت بها قاذفات استراتيجية روسية نظراً للحمولة غير العادية التي رمتهـا تـلك الطائرات بحيث غطت الغارة الواحده أكثر من 15 كيلومتر متواصلة من القنابل العنقودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى