حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 26)
أ.مصطفى حامد
جبل تورغار.. معركة الفتح
– بعد صلاة الظهر، نظَرْتُ إلى حقاني المستغرق في الدعاء فإذا به أصبح رمادياً وقد غمرته الظلال. ولم يكد حقاني يتوجه إلى جهاز اللاسلكي حتى أصبحنا كأننا في وقت الغروب.
– تجمد المجاهدون أمام حقل الألغام وتساقطت عليهم القنابل اليدوية مثل المطر. أوشك الهجوم أن يفشل لولا ذلك البدوي العجوز قليل الكلام، الذي اندفع إلى خندق الشيوعيين فقتل قائدهم. فاشتعل حماس الشباب، فمرقوا مثل الشهب وسيطروا على الخندق ثم على الجبل كله.
– البَدَوِيَّان بَطَلا ذلك الانتصار الكبير: “أكبر محمد”.. و”طالب جولاب ” الشهيد الوحيد.
الجمعة 16 فبراير90:
كانت الشمس قد ارتفعت في الشروق، وتهيأت السيارة كي تنقلنا إلى جبل الترصد. سأتحرك مع الصحفي البريطاني، ولكن حقاني سوف يتأخر لمتابعة بعض التفاصيل في هجوم اليوم.
فأخبرني بأنهم جاهزون لعملية اليوم ضد تورغار، ولكن المجموعة التي سوف تهاجم من الطرف الشرقي ليست كبيرة، أما في الجنوب، وهي الواجهة الطويلة من الجبل من جهة المجاهدين، فلم ينجح المجاهدون في فتح ثغرة في الألغام هناك، فقد أصيب أحدهم بانفجار لغم فتوقف العمل. تحركت بنا السيارة صوب الجبل، ولم يكن ما سمعته من حقاني مشجعاً، وأيضاً فإن هذا الجو المشرق والسماء الزرقاء الصافية أصابتني بالهم والغم، فالطيران سوف يكون قوياً، ورمايات العدو أكثر دقة، والمؤكد أن الخسائر في الأرواح ستكون عالية.
والإضافة الوحيدة عند المجاهدين اليوم هي الهجوم من طرف الحافة الشرقية بمجموعةصغيرة، فهل سيجدي ذلك كثيراً؟
كنت غارقاً في هواجسيوما أن صعدنا فوق الجبل، ووضعنا أمتعتنا في الغرفة الصغيرة، حتى بدأ الصحفي (تيم) يسأل عن معارك الفترة الماضية ويطالع المواقع بالمنظار من خلف الصخور فوق القمة، وتوليت توضيح الموقف العام له. ثم عدنا إلى الغرفة مرة أخرى في انتظار وصول حقاني وكنت أعلم أن العمليات لن تبدأ إلا بعد وصوله لمتابعتها من فوق هذه القمة.
بدأنا الحديث في الوضع السياسي في أفغانستان، فكلمته بصراحة عن دور أمريكا ودول الغرب في الإضرار بالشعب الأفغاني، وأنهم كتموا عن العالم حقيقة أن الأفغان هم الذين حرّروا شعوب شرق أوروبا بعد قضائهم على الإمبراطورية السوفيتية في أفغانستان، وأن شعوب روسيا وغرب أوروبا قد استفادت من انتصار الأفغان. فقال بأنهم في أوروبا يرون أن انتصار الأفغان كان عاملاً مساعداً علىانهيار الاتحاد السوفيتي. فأجبته قائلاً: بل كان العامل الحاسم وإلا فإن النظام السوفيتي إذا كان قد تمكن من إخضاع الأفغان، لاستمرّ على قيد الحياه قرناً آخر، وإلا فالسبعون عاماً التي قضاها ليست بالعمر الطويل في حياة الدول.
من الثامنه صباحاً بدأ الطيران يعمل بنشاط، في جو رائع وشمس مشرقة ورؤية غاية في الصفاء. القاذفات المروحية الثقيلة رمت أطناناً من القنابل على المواقع المشتبه بأنها قد تساند هجوماً أو قد ينطلق منها هجوم، وركزت على ليجاه وباري، واستمرت تؤدي دكها بانتظام حتى الساعة الحادية عشر. فظهرت الطائرات النفاثة وباشرت هي المهمة واستراحت الإنتينوف.
أخيراً وصل الشيخ حقاني وخلفه سيارتان للحرس، وبرفقته إثنان من الضيوف أظنهما من السعودية، أحدهما كأنه صحفي، والآخر ضخم الجثة قوي مثل المصارعين، ومن حديثه ظهر كأنه واعظ في أحد المساجد مع التزامه بالسمت السلفي أكثر من زميله.
إثنان من المجاهدين من حرس حقاني ما أن شاهداني أخرج من خندقي المفضل وعلي كتفي المنظار المقرب الخاص بي، حتى استعاراه وجلسا في مكاني ولم أتمكن من استرداده إلا بصعوبة بعد أكثر من ساعة.
– الساعة 11.38: ظهر أول دخان فوق قمة تورغار نتيجة قصف المجاهدين، بدأ السحاب يتكاثر ببطء، ولكنه لم يصل إلى شئ مما كان عليه في العملية السابقة إلا أنه قد يعرقل نسبياً عمل الطيران.
قال الشيخ إنه سيجعل وقت بدء المعركة مع وقت صلاة الجمعة حتى يستفيد المجاهدون مندعوات المسلمين لهم. ثم صلى بنا الظهر في ساحة صخرية صغيرة أعدها المجاهدون كمسجد للموقع وأحاطوه ببعض الصخور الصغيرة وجعلوا لها تقوساً في محل المحراب.
نظرت إلى السماء قبل البدء في الصلاة، كانت شذرات السحب قليلة وربما انقشعت في أي وقت، فوقنا بقعة صغيرة من السحاب الأبيض، الذي تبعثر هنا وهناك في كتل باهته لا معنى لها.
قلت في نفسي: (ياله من يوم صعب. كم من الرجال الذين يتحركون بحيوية في مواقعهم سوف يسقطون شهداء اليوم. وكم من الذين أعرفهم سوف لا أراهم مرة ثانية؟ وماذا لو فاجأتنا الطائرات النفاثة وقصفتنا ونحن متجمعون من صلاة الظهر وإمامنا هو حقاني قائد عملية اليوم، والخطر الأكبر على النظام في كابل؟ ألم تقصفنا تلك الطائرات في نفس هذا المكان من قبل؟).
بعد انتهاء الصلاة بدأ حقاني في دعاء طويل ونحن نؤمّن خلفه سأل الله النصر وألحّ في الدعاء، وبكى أكثر الداعين، ثم قام واتجه إلى جهاز اللاسلكي وخاطب الجميع، وطالبهم بالتوكل على الله والاعتماد عليه وحده، ثم لقنهم هذا الدعاء وطالبهم أن يستمروا في ترديده (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لايبصرون) وتذكرت أنه لقنني هذا الدعاء منذ ما يقارب عشرة أعوام، ومازلت أذكر أنه لقنني يومها درساً في الشجاعة والثبات تحت قصف الطائرة، وأن أطلق عليها نيران البندقية بدلاً من الاختباء في حفرة، فأنا عربي ولا يليق بي ذلك. لقد أخجلني يومها، لكنه لم يقنعني بجدوى إطلاق البندقية على طائرة نفاثة.الآن إدرك أنه على حق فلا جدوى من الاختباء من الطائرة فذلك نوع من العبث يطمئن به الإنسان نفسه فلا عاصم من تلك المصائب التي تتساقط فوق الرؤوس سوى الله سبحانه وتعالى. لكن الذي لفت نظري حقيقة هو أنه أثناء الدعاء الجماعي بعد الصلاة كانت السماء تتلبد فوقنا بسرعة، كان الجميع وقت الدعاء مطأطأي الرؤوس ينظرون إلى أكفهم المنبسطة أمام وجوههم، وكنت الوحيد وربما شاركني اثنان من حرس حقاني ننظر إلى السماء.
كنت أراقب السحب التي تتجمع بسرعة، ثم نظرت إلى حقاني المستغرق في الدعاء فإذا به أصبح رمادياً وقد غمرته الظلال، بل الجميع أصبحوا كذلك، ولم يكد حقاني يتوجه إلى جهاز اللاسلكي حتى أصبحنا كأننا في وقت الغروب.
انشرح صدري لتلك (الكرامة)، وتمنيت أن يكون ذلك بشرى بالنصر وبداية المدد الإلهي للمجاهدين عامة، والمهاجمين فوق الجبل خاصة.
– الساعة 1.59: بعد الدعاء وجه الشيخ أمراً إلى (مارشال) ببدء القصف، ظننت أن الإسم هو شيفرة لمجموعة مدفعية لكن حاجي إبراهيم قال: (بل هو اسم شهرة لأحد المجاهدين).
بدأت دبابة خليل في القصف، وأصابت مواقع العدو فوق القمة وحققت أول إصابة مباشرة. فتصاعد عمود من الدخان الأسود من الحصن الواقع على الحافة الغربية. رد العدو بقصف شديد على الجانب الغربي من الجبل حيث تسلل المجاهدون في محاولاتهم السابقة. والظاهر أنهم لا يتوقعون تقدماً من جانب الحافة الشرقية للجبل، وهو مالم يفعله المجاهدون قبلاً. بعد خمسة دقائق لعلعت رشاشات العدو الثقيلة فوق الجبل.
– الساعة 2.35: مدفعية المجاهدين تقصف مدفعيات العدو الخلفية، (بوستان) و(باتشا دينا)على المدفعية يعملان بشكل جيد ودقة ملحوظة.
دبابة خليل تتلقى قذائف كثيرة من مدفعيات العدو، مجموعات الهجوم فوق الجبل بخير ولكنها لم تبدأ بعد في التقدم.
– الساعة 3: أشرقت الشمس لفترة قصيرة ثم أطبق السحاب كثيفاً مرة أخرى، أجهزة اللاسلكي مزدحمة بالصيحات، ودعوة للمهاجمين بالعمل مع تشجيعهم.
التدخل اللاسلكي شديد، وحرب نفسية على أشدها على الأثير مليئة بالتهديد وأحياناً بالسباب بين المجاهدين والعدو.
حقاني يصيح مشجعاً المهاجمين وينقل إليهم أخبارالإصابات التي وقعت في صفوف العدو نتيجة القصف ثم يهتف صائحاً(الله أكبر زنده باد إسلام) فيردد المجاهدون خلفه نفس الهتاف الساعة الثالثة والنصف: سقط سكود إلى الشرق من تورغار وبعد خمسة دقائق سقط صاروخ آخر في نفس المنطقة.
– الساعة 4.10: قوات العدو فوق تورغار تفقد واحد من قادتها، التقط عبد العزيز الخبر، أما المجاهدون المهاجمون من جهة الشرق، جماعة جولاب الكوتشي شقيق الشهيد منان، فقـد أفادوا بأنهم يواصلون نزع الألغام من المسافة المتبقية ومقدارها (متران)، على حسب تقديرهم، وقالوا بأن العدو لم يطلق النار عليهم حتى الآن.
طائرات الهيلوكبتر تطلق نيرانها من بعيد على حواف الجبل لكن بلا تركيز ثم هبطت خلف الجبل من جهة المدينة ربما لحمل جَرْحى وقتلى أو لنقل بعض الذخائر إلى المدافعين رغم أن عندهم ما يكفي.
طائرات الأنتينوف القاذفة تحلق فوق السحب السوداء بدون أي أمل لها بالمشاركة وهي عمياء في ظلام السحب، ولكنها ظلت في السماء طوال الوقت، ربما لبث الطمأنينة في نفوس المدافعين، إذا شعروا أن الطائرات قريبة منهم.
– الساعة 4.42: اجتاز المهاجمون من الحافة الشرقية حاجز الألغام، وتبادلوا مع خط الخنادق الأول للعدو الرماية بالقنابل اليدوية.
وبينما يقوم (جولاب) بإبلاغ حقاني الرسالة، إذ أحد المجاهدين يصيح فرحاً (تورغار ختم تورغار ختم) فنهره حقاني بشدة وقال إن ذلك غير صحيح، فقد رأى أن إذاعة خبر بسقوط تورغار والمعركة في نقطتها الحرجة قد يسبب إضراباً في سير العمل، فقد يطلق كثيرون النار في الهواء ابتهاجاً، بينما العدو في خنادقه صامداً، والدبابات قد تتوقف عن قصف المواقع الدفاعية والإدارية للعدو فوق الجبل ظناً منها أن المجاهدون قد وصلوا.
وسنعود مرة أخري إلى قصة الجانب الشرقي، وراوية المهاجمين لما حدث في تلك اللحظة الحرجة، لحظة الهجوم على الخط الدفاعي الأول من خنادق العدو، والذي قام به جماعة البدو (الكوتشي) بقيادة جولاب، صخرة الدفاع وسيف الهجوم.
– الساعة 5.50: ضغط الهجوم كله من جهة جولاب بينما جهة الغرب حيث الدكتور نصرت الله خامدة لدرجة كبيرة، وكان يساعد نصرت الله مجموعة من طلاب العلم في قندهار يقودهم القائد الشجاع (ملا شاه زاد) الشهير بإسم ملا قندهاري. واضح أنه بعد تجربة الهجمات السابقه والتي كانت كلها، على مر السنين، تتم من الجناح الغربي أن العدو قد ركز معظم قواته على هذا الجناح. لذا يمكن توصيف ما حدث هذه المرة أن المهاجمين من جهة الغرب قد جمدوا معظم قوات العدو، حتى تمكنت قوة جولاب الأصغر حجماً من اقتحام دفاعات العدو الشرقية والتقدم فوق الجبل مثلما يفعل السكين في قالب الزبد، حتى تضيف جماعة الكوتشي الشهيرة، جماعة الشهيد منان، إضافة أخرى إلى سجل لا يضاهي من الأمجاد القتالية.
أفاد رجال الكوتشي الذين اقتحموا الجانب الشرقي من تورغار أن هجومهم كاد أن يفشل، لأنهم عند اقترابهم من خط الألغام الذي يلي خنادق العدو مباشرة، وكانوا قد نزعوا معظم ألغامه ليلاً ولكن ليس كلها، وعند تقدمهم للاقتحام الأخير كشفهم العدو وهم على حافة حقل الألغام فأصلاهم ناراً حامية من البنادق الآلية والرشاشات الخفيفة، ثم رمى قنابل يدوية بكثافة غير معهودة، ولاحظ رجال الكوتشي أن القنابل إما أن تسقط في الوادي العميق أو تسقط إلى جانبهم ولكنها ترتد مثل كرة المطاط لتعود مرة أخرى إلي خنادق العدو لتنفجر هناك.
ومع ذلك ظلوا جامدين خلف الصخور، إلى أن قام منهم رجل عجوز أبيض الشعر واللحية، مشهوربينهم بالبساطة الشديدة وقلة الكلام، قام ذلك الرجل وضرب خنادق العدو بقذيفة RBG فقتل ضابط الموقع ويدعى (عبد الله خان) من قبيلة تاناي فهرب باقي العسكر. ثم عبر حزام الألغام بسلام وقفز داخل خنادق العدو، فاشتعل حماس الشباب ومرقوا خلفه مثل الشهب في سماء مظلمة وقفزوا إلى الخنادق، وقتلوا من فيها، وتابعوا من هرب من الجنود، وكانوا 30 جندياً وواصلوا التقدم صوب باقي المواقع حتى تم فتح الجبل كله.
وفي نهاية المعركة سألوا الرجل العجوز عن السبب وراء اندفاعه العجيب المفاجئ، فقال لهم ببساطة: لما رأيت القنابل اليدوية تتساقط علينا مثل المطر، ولكنها ترتد على العدو مرة أخرى وتتفجر عنده أدركت أن الله قد أنزل الملائكة لنصرتنا فاندفعت نحو العدو وأنا موقن أنهــم مهزومين وأن شيئاً لن يضرنا، يدعى ذلك البدوي العجوز”أكبر محمد”.
– الساعة 5.11: الطرف الشرقي من الجبل في قبضة المجاهدين تماماً، ومن هناك يقصف المهاجمين بالرشاشات الثقيلة قصفاً عنيفاً للغاية على باقي المواقع المعادية فوق الجبل متجهين صوب الغرب.
– الساعة 5.15: تقرير لحقانيمن المجموعات المهاجمة فوق الجبل، كلها، بأن مقاومة العدو فوق الجبل أصبحت ضعيفة جداً. بدأت عملية تطهير المواقع ممن تبقي بها، وأكثر الأحياء لاذوا بالفرار إلى الشقيق التوأم لجبل تورغار والواقع إلى الشمال والمرتبط به بحبل سُرِّي، أو ما يطلق عليه “سَرْج”، وهذا التوأم الأصغر يدعى(ورا تورغار) أي تورغار الخلفي.
– الساعة 5.50: تقابل المهاجمون المتقدمون من الشرق مع المهاجمين من الغرب فوق ظَهْر الجبل، لقد وقع تورغار أخيراً في أيدي المجاهدين بعد سنوات طويلة ومريرة منذ فقدوه آخرمرة.
لقد فتحوا تورغار، وأصبحت المدينة نفسها قاب قوسين أو أدنى من الفتح، ولكن ذلك لم يحدث بالسرعة التي كنت أتوقعها.
سألني الصحفي البريطاني (تيم) عما حدث، فقلت له: لقد استولى المجاهدون على تورغار، واجتهدت أن أبحث في وجهه عن أيانفعال فلم أعثر على شئ فشعرت بالغيظ، ولكنني تماسكت أمام ذلك اللوح الجليدي القادم من بريطانيا العظمى، التي ذاقت في أوائل هذا القرن ما يذوقه السوفييت والشيوعيين في أواخره على أيدي نفس هذا الشعب الخارق.
ثم سألني ببرود: تقول أن تورغار هو مفتاح مدينة خوست فمتى تتوقع أن يتم استيلاء المجاهدين على المدينة. فرددت عليه: من المفروض ألا يزيد ذلك عن شهر.
لقد أخطأت في تحديد ذلك الموعد، لأن المدينة فتحت بعد ذلك بحوالي ثلاث عشر شهرا ونصف.
وقد قابلني تيم بعد ذلك بعدة أشهر في بشاور، وكان يتذكر بدقة ما قلته له من أن المدينة يمكن أن تفتح خلال شهر، وسألني بشماتة لا تخفى: لقد قلت إن المدينة سوف تفتح بعد شهر، فماذا أخّر الفتح حتى الآن؟
فرددت عليه قائلاً: إن تدخل أمريكا وباكستان هو السبب. ثم ذكرت له بعض مجهوداتهم لإفساد فتح خوست.
التقرير الأول عن خسائر المهاجمين هو شهيد واحد ولا جرحى، وبعد ساعة جاء تقرير آخر متضارب يقول الخسائر ثلاثة جرحى ولا شهداء. في اليوم التالي كان التقرير النهائي هو شهيد واحد وثلاثة جرحى.وسبب التضارب هو أن التقرير الأول كان لإحدى المجموعتين وهو شهيد واحد بلا جرحى والتقرير الثاني للمجموعة الثانية كان ثلاثة جرحى بدون قتلى.
كانت تلك الخسائر المتدنية مفاجأة كبرى ومدهشة إلى أقصى حد، أن يتم تحقيق هذا الإنجاز الفائق بهذا القدر الذي لا يكاد يذكر في الخسائر.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن دقة الإعداد وتوفير الوسائل اللازمة للعمل واكتساب الخـبرة الكافية فيأدائه هي من أعظم أسباب النصر، وقبل كل ذلك هو ذلك التأييد الإلهي الذيلا يمكن تصويره بالقلم أو اللسان. فحالة الطقس مثلاً، من غيوم تحجب الرؤية فتمنع الطيران والمدافع المعادية، ثم تعود فتنكشف قليلاً فتساعد المهاجمين على تبين الألغام وأسلاك الإعثار المنبثه فيما حولهم.
حتى فشلهم في السنوات الماضية في الهجوم من طرف واحد هو المنحدر الغربي، قد استدرج العدو إلى الإطمئنان التام هذه المرة أن الهجوم قادم لامحالة من نفس الطريق فركز دفاعات كلها، أو معظمها، في ذلك الاتجاه، فتمكن جولاب من شق طريق من جهة الشرق بسهولة لم تكن متوقعة، رغم أن الجميع كان يتوقع أن الشرق هو محور ثانوي للهجوم فجاء العكس.
– الساعة 6.07: طائرة أنتينوف تحلق وتقصف بعيداً. السماء انقشعت وظهر ضوء النجوم واضحاً، كان ذلك عظيم النفع للمجاهدين فوق الجبل ومكنهم من معرفة طريقهم فوق الجبل وفي غابة الخنادق حوله وفي (الدُشَم) المحصنة والمسلحة خاصة من الطرف الغربي، ثم المخازن الإدارية في الطرف الشمالي، وبها غرف مليئة بالطعام والذخائر، والأهم من ذلك مراقبة العدو الذي قد يحاول شن هجوم معاكس في نفس الليلة قبل أن يستحكم المجاهدون فوق الجبل.
– الساعة 7.00: سقطت ثلاث صواريخ سكود متتالية حول جبل تورغار. ثم صاروخين آخرين في تودة شني،جنوب تورغار.
خمسة صواريخ سكود دفعة واحدة، كانت حفلة ابتهاج بفتح تورغار ولكن إطلاق النار التقليدي في مثل تلك المناسبات، قامت به الحكومة وليس المجاهدين. ولم تقع أية خسائر من جراء ذلك القصف.
ملاحظه: ثمن صاروخ سكود في ذلك الوقت هو مليون دولار أمريكي، وقد أطلق العدو في تلك المعركة سبعة صواريخ سكود، بينما أطلق صاروخين فقط في محاولة يناير الماضي التي لم تنجح.
– أخيراً غادرنا حقاني متجها إلى مركز خليل فإلى هناك سوف تأتي وفود العائدين من المعركة، مع الأسرى والغنائم، ثم مشاورات عن الخطوة التالية حيث من المفروض، حسب قول حقاني، الاستيلاء على (ورا تورغار)، فقد قال لي: لا فائدة في تورغار إذا لم نمسك (ورا تورغار)، لم أكن أدرك تلك الأهمية قبل ذلك وإن كانت منطقية تماماً، فالجبلان في الحقيقة جسد واحد متصل.
وأي قوات قادمة من المدينة لشن هجوم مضاد لابد لها من الارتكاز على (ورا تورغار)، إذن المعركه لم تنته بعد !!.
لم أغادر مع حقاني لأنني توقعت معركة فوق الجبل في هذه الليلة. وفي الليل اتصل بنا حقاني تلفونياً وقال إنه منتظر وصول الأسرى للتحقيق معهم والبحث عن الشيوعيين من بينهم. وأضاف إنه سيكون عندنا غداً ففهمت أن المعركة سوف تستأنف في الغد. لم أستطع النوم إلا في ساعة متأخرة، فرحاً بما حدث، هائماً مع التوقعات.
السبت 17 فبراير 90:
لم أكد أستغرق في النوم حتى صحوت فزعاً على صوت إطلاق نار كثيف وقذائف. كنت متأكداً أن مصدرها (تورغار) فقد كنت أتوقع هجوماً ليلياً من جانب قوات الحكومة، فتحركهم بالنهار نحو الجبل سيكون انتحاراً، وليس أمامهم إلا الليل، بل هذه الليلة تحديداً قبل أن يستحكم المجاهدون في خنادق الجبل ويحفرون مواضع جديدة في مقابل المدينة. كانت الساعة الرابعة صباحاً.
انقطعت الرمايات فجأة، وطمأنت نفسي بأنه لاشيء مهم، وأن عبدالعزيز نائم الآن فلا أحد عنده خبر بما حدث، فنمت مرة أخرى.
في الصباح سألت عبد العزيز عما حدث في الليل فقال: (خير خيريت)، فأكدت عليه بالسؤال عن أحوال المجاهدين فوق الجبل فأجابني بنفس الجملة.
في السابعة سمعنا طلقتي RPG فوق الجبل (تورغار) ثم قصف مدفعي شديد من الوادي ضد الجبل وما حوله ثم زخات من الرشاشات الثقيلة والخفيفة، طائرات الهيلوكوبتر أطلقت الصواريخ بغزارة ضد (تورغار) فطمأنني ذلك لأن معناه أن المجاهدين متمسكون بقوة بالجبل.
الجو غائم، وتعليقات المجاهدين على أجهزة اللاسلكي مليئة بالمرح والسعادة. وفي الثامنة والنصف صباحاً اتصل بنا حقاني تلفونياً فقال بأن العدو حاول صباح اليوم الهجوم على تورغار واستعادته، ولكن المجاهدين كانوا في أتم الاستعداد، وكانت الذخائر والأطعمة والمياه متوفرة لديهم وأن العدو جوبه بنيران قوية من الجانبين أدت إلى سقوط الكثير من القتلى والجرحى (بالمئات حسب قوله) وفرّ كثيرون منهم نحو المدينة، واعتصم بعضهم في جبل تورغار الخلفي (ورا تورغار) وأن المجاهدين سوف يتقدمون للاستيلاء عليه.
– الساعة 8.35: رغم الغيم الكثيف فإن طائرة انتيوف ألقت قنابلها من ارتفاع عال حول جبل تورغار، ولكن بلا أي تأثير.
تزايد الغيم، والمطر خفيف وريح باردة جداً، عدد المتواجدين معنا على ظهر الجبل قل كثيراً.واضح أان اليوم لا يمكن شن هجوم جديد ضد (تورغار الصغير).
– الساعة 10.10: هبطت فجأة في المطار طائرة نقل عسكرية. كانت مفاجأة مذهلة في وقت وظروف غير متوقعة، (باتشادينا) مشتبك في رماية متبادلة مع راجمة صواريخ كبيرة من طراز BM-41 هبطت الطائرة من الطرف الغربي ثم مكثت في النهاية الشرقية للمدرج أقل من دقيقة ثم استدارت وأقلعت، وكتبت في مذكرتي وقتها: لا أدري ما هي المهمة التي يمكن إنجازها في هذا الوقت القليل؟
– الساعة 10.36: كانت الدهشة أشد في المرة التالية، إذ هبطت طائرة كالعادة من جهة الغرب وما إن وصلت إلى الطرف الشرقي حتى إستدارت وأقلعت، لم يستطع أحد أن يخبر جماعة المدفعية، سألت نفسي: ماذا يحدث؟؟
ولابد هنا، للحقيقة، أن أشيد ببطولة وفدائية الطيارين الأفغان، وسيمر معنا مثل ذلك في معارك قادمة.ولقد رأيت بعض هؤلاء الطيارين بعد نهاية الحرب، ولا أظن أن هناك من هم أكثر استهتاراً بالموت منهم، وهي سمة عامة في معظم الشعب الأفغاني.
فيما بعد قال حقاني: إنه يظن أن تلك الطائرات قد أحضرت شخصيات هامة من كابول، وربما كان ظنه صحيحاً لأنه بعد قليل سيظهر على ساحة الأحداث في خوست، الجنرال عجب مزاري الرجل الشرير والقائد السابق لجبل تورغار.
– لكن نسمة منعشة هبت علينا هذا الصباح حيث شاهدنا عددًا من الأطفال يصعدون الجبل إلينا، كانت ملابسهم خفيفة وممزقة أو مرقعة أحياناً. وقفت مع حاجي إبراهيم نتأملهم ونتسائل كيف وصلوا إلى هنا، فلم تكن سيارات المجاهدين تتحرك هذا الصباح خاصة بالقرب منا.
وصلوا إلينا وصافحونا، وقالوا إنهم طلبة في مدرسة العلوم الشرعية”منبع العلوم” في ميرانشاه، وقد سمعوا بالأمس أن المجاهدين قد فتحوا جبل تورغار فجاؤوا سيراً على الأقدام (حوالي 30 كيلو متر) كي يتأكدوا من الخبر ويشاهدوا المواقع التي فتحها المجاهدون.
تأثرنا بما فعله هؤلاء الأطفال، ورحبت بهم وكذلك فعل إبراهيم وعبدالعزيز وعدد آخر من رجال الموقع، وسمحوا لهم باستخدام المناظير وشرحوا لهم المواقع التي يشاهدونها، وذكروا لهم أحداث الأمس فوق تورغار، ثم قدموا لهم الشاي والخبز.
جاء الصحفي (تيم) هو الآخر يستطلع أخبار هؤلاء الأطفال، فشرحت له قصتهم، وسألته عن دلالة أن يسير أطفال صغار في هذا السن كل تلك المسافة وسط الجبال في جو ممطر بارد، فقط من أجل الإطمئنان على أخبار المجاهدين، وفرحة بانتصاراتهم؟
لم تصدر منه كلمة إعجاب أو مجرد بسمة للأطفال، أنه محايد جداً بلا شك، محايد لدرجة جعلتني أتمنى قذيفة عنقودية تريحنا منه ومن كل صحافة بريطانياً التي كانت، ولن تعود، عظمي.
– الساعة 11.30: وصل الشيخ حقاني إلى مركزنا فوق الجبل، واتصل بالمخابرة مع أخيه خليل قائد الدبابة الشهيرة، وصاحب الدور البارز في تحطيم مقاومة تورغار، وأفاد خليل أن أوضاعهم ممتازة، وأوصى بالاهتمام بالإمدادات خاصة للمجاهدين فوق الجبل.
جلست أتحدث مع حقاني بالنسبة لمشكلة الإمدادات، فقلت له أن العدو لن يسلم بسهولة بضياع تورغار، لأن معنى ذلك أن المدينة قد أفلتت من بين يديه إن عاجلاً أو آجلاً، وأن معركة تورغار قد يكون الفيصل فيها هو القدرة على إمداد الجبل بالمقاتلين والذخائر والطعام والمياة، وأن العدو مازال أقدر على ذلك لأنه خلال السنوات الماضية قد مهد طريقاً للإمداد من خلف الجبل، بينما نحن لانمتلك سوى مدق ضيق وخطير يمر وسط ألغام كثيفة جداً، بحيث أن خطوة واحدة خارج المدق قد تعني الموت، أو بتر القدم على الأقل. وقلت له إن أهم ما يجب عمله الآن هو شق طريق للسيارة حتى قمة تورغار، وأن يبدأ الطريق من الطرف الغربي ويهبط من الجانب الشرقي، وبهذا يمكن لنا إمداد الجبل من قاعدتين قويتين للمجاهدين وهما بوري خيل، إلى الغرب وتودة شني، إلى الشرق.
لم يكن حقاني في حاجة لمن يذكره بأهمية الطرق في الجبهات، وخاصه بالنسبة لهدف مثل تورغار. وبالفعل بدأ بعد أيام في دفع كل قواه نحو شق طريق إلى القمه في تورغار، وتحت أقصى الظروف من الغارات الجوية التي لا تكاد تتوقف. وقد ساعده عدد من الفدائيين الحقيقيين من سائقي البلدوزرات، وعمال الحفر والتفجير. وخسر عدد من السيارات والجرحى ولكنه نجح في النهاية في شق طريق ممتاز، ولكنه لم يستطيع أن ينزل به إلى جهة الشرق لأن تضاريس الجبل لا تسمح بذلك بغير أن يتعرض الطرق لنيران العدو في الوادي إذ لا بد أن يمر الطريق من خط الأفق فوق الجبل وليس في السفح الجنوبيالمخفي عن العدو.كان نجاحاً هندسياً وعسكرياً باهراً أكد سيطرة المجاهدين على تورغار وما حوله.
– الساعة 2.17: بعد أن صلينا الظهر قرب قمة الجبل، جاء الخبر من ميرانشاه يقول بأن الأحزاب شاركت حقاني في فتح الجبل، ولكنه دفع لهم مبلغ ثلاثة ملايين روبية حتى يتركوا له الجبل كي ينفرد هو إعلامياً بالانتصار. كانت الكذبة واضحة لمن هو داخل الجبهة، أما في الخارج فلا أحد يستطيع أن يجزم بما حدث. كانت طعنة خبيثة من أحزاب بشاور التي لا تقصر في سكب أطنان من الدهان الأسود، فوق حقاني وجميع أعماله، حتىانتصاراته الباهرة التي تستحق الإشادة والتمجيد.
كان التنسيق داخل جبهات باكتيا عامة وخوست خاصة يسير على أفضل شكل ممكن في مثل تلك الظروف، وبأقل قدر من الاحتكاك حتى أنه لم يحدث صدام مسلح واحد طوال مدة الجهادعلى أساس حزبي. ولكن التنسيق في المعارك كان يتم خارج نطاق الأحزاب وبتفاهم مباشربين المجاهدين فتسمى بعدئذ بالعمليات المشتركة، بينما الأحزاب وقيادتها في بشاور لم تكد تسمع قبلاً بوجود مثل ذلك التنسيق،ولو علمت فالفشل قادم لا محالة إذ تبدأ الضغوط والرشاوي ومؤامرات توريط الأخرين خاصه قادة الميدان البارزين، وبالذات حقاني وزملائه.
سألت حقاني عن عدم اشتراك أحد من الأحزاب الأخرى في معركة (تورغار) فرد قائلاً:إن أحداً لا يتحمل معركة بهذا الطول، لقد استمر الحصار ثلاثه أشهر متوالية. ومن جهتي يمكن أن أضيف أسباب أخرى منها: أن تجارب الهجوم على تورغار منذ عام 1984 قد فشلت، وأسفرت فقط عن قتلى وجرحى، مع إهدار المال والذخائر، ثم اتهامات متبادلة وخصومات بين المجموعات المشتركة في العملية.
السبب الثاني: أن تورغار اكتسب نتيجة لذلك هيبة في النفوس وكان إسمه كفيلاً ببعـث القشعريرة في أبدان المجاهدين.
السببب الثالث: هو أن الاستخبارات الباكستانية تجد الباب واسعاً للتدخل في العمليات المشتركة وهي عادة عمليات كبيرة. وقد كانت هي السبب في إفشال عدد من الهجمات على تورغار لأن إستيلاء المجاهدين عليه يعني وضع رقبة المدينة في قبضتهم، وهو ما يتعارض مع سياسة سادة باكستان، أي الولايات المتحدة.
كانت الخطوة التالية والضرورية لإسقاط خوست هو إغلاق مطارها بشكل نهائي مستفيدين من موقع تورغار وما يوفره من مزايا لهذا العمل، ولكن سنرى كيف أن المخابرات الباكستانية بذلت جهدها لمنع ذلك.
كانت ما تريده باكستان هو عض أصابع نظام كابل في خوست حتى تصل معه إلى شروط تساومية أفضل.بينما كانت مصلحة المجاهدين هي، ابتلاع خوست، لينهار نظام كابــل فيفرض المجاهدون نظامهم الخاص.
وسوف يمر علينا لاحقاً كيف بذلت المخابرات الباكستانية كل وسعها لمنع إغلاق المطار ثم بذلت جهوداً جبارة لمنع فتح المدينة.
أخبرني حقاني أنه قد إحتاط كثيراً في إظهار الفرحة والابتهاج بفتح تورغار، فقد قال عندإعلان النبأ: لقد استولينا على تورغار الكبير والمعركة مستمره على تورغار الصغير. لقد أعجبني كثيراً تصرفه هذا، فهو يدل على التواضع من جهة، وعلى الواقعية من جهة أخرى فمهما كانت معرفته بضعف العدو في خوست، فإن خطورة ما حدث تجعل من المجازفة افتراض أن العدو سيسلم بالأمر الواقع بسهولة. على الأقل يمكن توقع أن يحدث مثلما حدث في دراجي منذ عدة أشهر بأن يتم تداول الموقع بين الجيش الحكومي والمجاهدين حتى يستقر الوضع لصالح المجاهدين في نهاية الأمر.
قال حقاني: نحن مستعدون للهجوم بعد وقت قصير.لقد ناوش المجاهدون تورغار الصغير ودمروا بعض مواقعه الدفاعية،” البوسطات”، فطلب المدافعون إرسال دبابة إليهم لدعمهم.
ونحن بدورنا سنرسل دبابة إلى توده شني لندعم بها مجموعة جولاب كي تهاجم تورغار الصغير، كذلك طالبنا مئتي مجاهد من كتيبتي سلمان الفارسي، والعمري ولن نستخدم قواتنا فوق تورغار للهجوم حتى تبقى دفاعاتنا قوية فوقه تحسباً للطوارئ. كان حقاني يسير بحذر ولم يستخفه الانتصار الكبير. قرب العصر حذرنا عبد العزيز من أن الطائرات النفاثة قادمة للقصف لكنه لا يعلم أين.
كان يتتبع محادثات خوست مع كابل. بعد دقائق ظهر صوت طائرة نفاثة، وعبد العزيز يتابع حديث الطيار مع القيادة الأرضية في خوست، قالت له القيادة: أنت الآن فوق الهدف، أرمي حمولتك. فرد الطيار في براءة، ولم تكن الحكومة قد أذاعت خبر فقدها لتورغار: ولكنني فوق جبل تورغار !!. فردت عليه القيادة: لم يعد هناك تورغار.. اقصف.
فاستفسر الطيار بعصبية: ماذا تعني بقولك؟، هل انتهي تورغار؟؟، ثم أصابته نوبة من الهياج وأخذ يهذي ويصرخ: لقد بعتموه لهم..أنتم بعتم تورغار ضاعت خوست..ضاع كل شيء. ثم دار بطائرته دورة واسعة ثم عاد في إتجاه تورغار وأفرغ شحنة ضخمة من القنابل العنقودية، ولكن بعيداً عن أي هدف، ثم اختفى بطائرته وسط السحب الداكنة.
أثار الحادث الابتهاج والفرحة بين صفوف المجاهدين، فالعدو يعيش أزمة عنيفة تطال ما تبقى لديه من روح معنوية.
ولكن لم نلبث أن أصبنا بصدمة وعمنا الحزن والوجوم حين وصلنا نبأ استشهاد(بوستان) الكوتشي، الذي كان يعمل على مدفعه في مبارزة مدفعية مع العدو، حين سقطت قذيفة على هضبة قريبة منه فأصابته شظية في رأسه فقضى نحبه على الفور، لقد عم الحزن جميع المراكز حتى نسي المجاهدون انتصار تورغار، ولو إلى حين.
ثم وصلنا اسم شهيد تورغار الوحيد يوم الفتح، أنه الكوتشي(طالب جولاب)،فهل يهتم أحد من سكان الأرض بهذا الإسم؟ ولكن يكفيه أن الله أعلم به وبما فعل.
أسقطت الطائرة على المدينة بعض الإمدادات بالمظلات، وكان أهمها براميل البترول، وقدأخذ الهواء عدد من تلك المظلات إلى مواقع المجاهدين، فأخذوها غنيمة إلى جانب غنائم جبل تورغار التي وصلنا إحصاء عنها كالتالي:
عدد 2 مدفع مضاد للطائرات (شلكا) عيار 23 مليمتر.
عدد 3 قاذف قنابل يدوية ( نارنجاك).
عدد 3 دبابة منها واحدة فقط يمكن إصلاحها.
عدد 13 قاذف RPG.
عدد 3 رشاش ثقيل (جبلي) عيار 14.5 مليمتر (زيكوياك).
عدد 14 هاون من عيارات مختلفة.
عدد 60 بندقيه كلاشنكوف.
عدد 1 مدفع جبلي عيار 76 مليمتر.
عدد 1 جرينوف 7.62 مليمتر.
عدد 1 قاذفة صواريخ سلكية مضادة للدروع.
عدد 2 رشاش خفيف.
عدد 1 رشاش وسط (دشكا).
تحدثنا عن فتح جبل تورغار الذي هو مفتاح مدينة خوست، فلنتذكر بالدعاء وطلب الرحمة لأهم أبطال تلك المعجزة. وهما البدوي ـ العجوز الغامض ـ “أكبر محمد”، الذياقتحم منفردا خط دفاع العدو بعد أن أوشك المهاجمون على التراجع. ثم ذلك الشهيد الوحيد في تلك الملحمة الكبرى التي شارك فيها الآلاف من الطرفين وعدد لايحصى من الطائرات وصواريخ سكود الثقيلة. ذلك الشهيد، البدوي الذي لا يكاد يعرفه أحد، “طالب جولاب”… رحمهما الله.