مقالات الأعداد السابقة

حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 34)

بداية المفاجآت التكتيكية المذهلة، التي أدت إلى فتح خوست

أ.مصطفى حامد (أبو الوليد المصري)

 

■ طلب حقاني من البدو مواصلة العمل والاستيلاء على المواقع وعدم إطلاق النار إلا عند التأكد من الهدف.

■ عندما تدخل الطيران لإحباط الهجوم على “فارم باغ” أصاب مواقع العدوّ، فعجل ذلك في انهيار مقاومته، حيث أن الضرب الجوي طال أعماقا لم يكن قد وصلها هجوم المجاهدين.

■ مع سقوط فارم باغ أدرك العدو أن ما يحدث هو أخطر من مجرد هجوم ثانوي. ولكن الوقت كان فات ولم يعد ممكنا تفادي الكارثة.

■ أبطال المفاجأة الساحقة كان الأخوان (خليل وإبراهيم) شقيقًا جلال الدين حقاني. فَهُما أصحاب مبادرة الهجوم والاستيلاء على “فارم باغ”.

■ “عملية الهروب الكبير”من أخطر العمليات التي نفذها البدو ـ كصفقة تجارية مع ضباط ميليشيا فارون ـ ولكنها أعطت تأثيرًا مدمرًا على نفسيات العدو.

 

استعاد المجاهدون سلسلة جبال ماليزي بعد معركة غير عادية (إذا أردنا تفادي وصفها بالجنونية)، فوجود حقاني وسط المجاهدين في مكان بالغ الخطورة في الخط الأول أشعرهم بالذنب لأنهم استدرجوه إلى ذلك الموضع بلا ضرورة، إذ أنهم استولوا على الموقع بسهولة عند الفجر. والآن ظهر قائدهم وعالمهم معهم تحت قصف لا يرحم بكل أنواع الأسلحة والطائرات حتى يستعيدوا تلك الجبال. وهو يصيح فيهم غاضبًا: “لاتراجع في هذه المعركة ولا تنازل عن أي موقع نفتحه”. استمات الجميع وقاتلوا بفدائية مطلقة. وبالفعل لم يكن أحدًا منهم يقبل بأقل من الموت في سبيل استرجاع تلك الجبال. كانت روح جديدة تنبعث في خوست بعد أن ظن الجميع أن تلك الروحانيات الجهادية قد رحلت إلى غير رجعة، بعدما تزايدت الانحرافات والشوائب. سنرى ماذا فعل مجاهدو ماليزي وإخوانهم في سائر المواقع التي فتحوها، وقد نفذت ذخائرهم، وحقاني قد نفذت مخزوناته ولم يتبق لديه شيء.

نعود إلى ذلك الموقف الرهيب في ماليزي. وحقاني نفسه في المقدمة معتبراً إياها معركة حياة أو موت. ولم يكن أحد من المجاهدين حتى هذه اللحظة يعلم سر حقاني الكبير في ذلك الوقت وهو أن معركة خوست قد بدأت بالفعل من ماليزي. وكان الجميع يظنون أنها ستبدأ في وقت ما من غرب تورغار. السر الآخر الذي لم يكشفه حقاني لأحد من أقرب رجاله، وهو أن مالديه من ذخائر لا يكاد يكفي لمعركة محدودة بالخط الأول من الجبهة، وليس لمدينة وامتداداتها المترامية وحاميتها وميليشياتها المتخمة بالسلاح والذخائر.

ضغطوا على أعصابه قائلين أن السوفييت سيقصفون خوست بالقنابل الذرية إن هو استولى عليها وكانت إجابته (سوف نتوكل على الله ونفتح خوست). وعندما وجد مخازنه لايوجد بها ما يكفي لمعركة كبيرة، كان تعليقه (سنمضي إلى الفتح متوكلين على الله).

ملاحظة غريبة عن سلاح الإمداد لدى حقاني، وأنه كان يخصص له أكثر رجاله علما وتقوى وزهدا. معتمدا على المدد الغيبي وبركة الرجال المخلصين. كان ذلك هو الحال منذ عرفت حقاني عام 1979، وكان قائد الإمدادات عنده هو مولوي أحمد جول (شهيد معركة ليجاه 1985). وفي معركة خوست كان يشرف على الإمداد من المخازن إلى المشتريات الشاب العابد الناسك مولوي سيف الرحمن، ومعه عدد محدود من الزهاد العلماء.

 

الثلاثاء 2 رمضان 1411 ـ (18 مارس 1991)

عند الفجر تحركت جماعة الكوتشي مرة أخرى صوب قمم جبال ماليزي. كان الضباب كثيفًا للغاية والمطر يهطل برفق. وصلوا بالفعل إلى القمة، ومن هناك اتصلوا بحقاني: نحن الآن قرب قمة الجبل.. نرى أشباحاً تتحرك، ولا ندري هل هم من إخواننا أم من عسكر الحكومة؟ هل نواصل؟

طلب منهم حقاني مواصلة العمل والاستيلاء على المواقع، وعدم إطلاق النارإلا عند التأكد من الهدف.

عندما بدأ عساكر الحكومة في الفرار من الجبهة الأخرى من الجبل؛ انكشفت هويتهم، فأطلق البدو النار عليهم من الخلف.

قبل الظهر انقشع الضباب وأصبحت الرؤية ممكنة. فتمكن العدو من تصويب رشاشاته الثقيلة ونيران دبابة من حصن باشيم (بمعنى جاهزون)، على جبل ماليزي من الخلف، وعلى الطريق الواصل إليه.

اكتشف البدو أن “باشيم” قادر على شل حركتهم، فاتصلوا بالقيادة قائلين: “إن الاستمرار فوق ماليزي مستحيل بدون الاستيلاء على باشيم”

 

الأربعاء 3 رمضان ـ (19 مارس 1991)

قام البدو بدعم من دبابات كتيبة العمري بالهجوم على “باشيم” والاستيلاء عليها بسهولة.

وقد كان موقعا أرضيا في منطقة زراعية ومكونا من منازل ريفية مدعومة بالخنادق ورشاشات ثقيلة ودبابة أو إثنين.

كان “باشيم” يهدد أيضا الطريق بين “ماليزي” و”لاكان” بواسطة الدبابة التي كانت ترى جزءاً ضيقاً من الطريق عبر فرجة بين هضبتين. وقد تمكنت الدبابة من تدمير سيارة (بيك اب) للمجاهدين.

وبث العدو ـ أو المتعاونون معه ـ عدة ألغام مضادة للدبابات في نفس المكان؛ فدمروا شاحنة للمجاهدين، وتسببوا في إرباك المرور على ذلك الطريق لعدة أيام. وكان ذلك قبل العمليات بفترة قصيرة.

 

الدبابات في المعركة

– منذ الإستيلاء على “باشيم ” بدأت المبادرات التكتيكية الذكية والمقدامة تحدد مسار العمليات العسكرية وتحقق النصر النهائي في المعركة.

فما حدث بعد الاستيلاء على ماليزي لم يكن متطابقا مع تخطيط مسبق، بل كان عماده الاستخدام الجريء والمبدع للدبابات بقيادة الأخوين خليل وإبراهيم أشقاء حقاني. كان تحت تصرفهما ثمان دبابات هي كل ما يمتلكه حقاني. أرسلا منها اثنتان لدعم هجوم لكتيبة سلمان الفارسي “5 رمضان” فشل الهجوم وتحطمت الدبابتان.

استمر العمل بالدبابات الست المتبقية في مواجهة أربعين دبابة للعدو ـ وكان العدد المتوقع لدبابات العدو أقل من ذلك بكثير، وقد استبعد المجاهدون ذلك الرقم “أربعون” وكان معلوما لديهم منذ مدة طويلة، ولكن الأداء الضعيف لدبابات العدو، واقتصارها على الدفاع معظم الوقت، واحتفاظ العدو بأفضل دباباته ـ حوالي نصف العدد ـ كمخزون استراتيجي بعيدا عن مواقع الاشتباكات؛ كل ذلك أوهم المجاهدين بأن الدبابات الصالحة للعمل لدى العدو هي عشرين دبابة أو أقل.

على كل حال كان استخدام العدو للدبابات يفتقر إلى الشجاعة والإبداع، فكان أداء دبابات المجاهدين -على قلتها- أفضل كثيرا وأكبر فعالية من دبابات العدو الأربعين، وكان لها رهبة كبيرة في نفوس العدو.

فاستدعى العدو من كابول أطقماً لمكافحة الدبابات مزودة بصواريخ سلكية حديثة. نجحت تلك الأطقم في تدمير دبابتين لكتيبة سلمان الفارسي في هجومها الفاشل.

وبعد ذلك لم يظهر لتلك الأطقم أي تأثير في إصابة دبابات المجاهدين.

– تطور آخر في استخدام العدو للدبابات، ظهر عندما اضطر إلى سحب قواته إلى ماوراء نهر شمل، وحشد العدد الأكبر من الدبابات على حافة النهر لمنع المجاهدين من عبوره ـ وكان فيضان النهر في ذروته.

وركزت دبابات العدو نيرانها على دبابات المجاهدين. فتكثف استخدامهم للذخائر بشكل كبير، حتى حدث عندهم عجز في الذخائر ـ فطلبوا المدد السريع من كابول.

 

من الثغرة.. البدو يخدعوننا

– سقوط “ماليزي” ثم “باشيم” فتح ثغرة خطيرة في خط دفاع العدو وتحديدا في المفصل ما بين الجبهة الجنوبية والجبهة الشرقية.

حدث ذلك في وقت مبكر من بداية المعركة. وقد أثر ذلك سلباً على مستوى العمليات ثم على المستوى النفسي، وهو الأهم.

– من تلك الثغرة قام عدد من الكوتشي بالتسلل عميقا حتى حدود المطار الجديد، في غارات غاية فيالجرأة، أشاعت جوا من اليأس والانكشاف في صفوف العدو.

وفي أحد الليالي اتصلوا بنا لاسلكيا طالبين وقف رمايتنا على “المطارالجديد”، لأنهم قد استولوا عليه بالفعل!

أثار ذلك دهشتنا الشديدة، وكرر السؤال مرارا حاجي إبراهيم ـ المترجم والمساعد في مشروع المطار ـ فأكدوا له أنهم استولوا على المطار، فأوقفنا الرماية بالفعل إلى قرب الفجر ولكن لاحظنا أن هناك طائرات تستخدم المطار. فاتصلنا بالكوتشي فقالوا إنهم تركوا المطار والآن يمكننا قصفه.

تعجبنا لتلك القصة وتحرينا عنها بعد فتح المدينة، فقال لنا البدو إنهم كانوا في عملية تسلل قرب المطار واستشهد لهم شخص هناك وفاوضوا العدو على سحبه، فقبل بشرط أن يطلبوا منا وقف قصف المطار لفترة محدودة. وبالفعل خدعونا بتلك الطريقة حتى سحبوا شهيدهم، واستخدمت عدة طائرات أرض المطار!

 

البدو.. في عملية الهروب الكبير

– ليس ذلك هو الحدث الأهم، بل إن “عملية الهروب الكبير” كانت من أخطر العمليات التي نفذها البدو ـ كصفقة تجارية مع ضباط ميليشيا فارون ـ ولكنها أعطت تأثيرا مدمرا على نفسيات العدو، بما أدى إلى استسلام مواقع حكومية هامة جدا مثل جبل كوكاراك ثم موقع “أليسار” وبالتالي موقع جاجي ميدان على الحدود الباكستانية.

وكان ذلك أكبر دعم تلقته عمليتنا “المطار الجديد” حيث كانت لنا راجمتان قريبتان جدا من جبل كوكاراك وموقع “أليسار”. كان ذلك موضعا إجباريا بالنسبة لنا ـ وكثيرة هي الأوضاع الإجبارية التي كنا مرغمين على قبولها في تلك العملية ـ كان علينا القبول بالعديد من المجازفات الخطيرة حتى نتمكن من العمل ضد ذلك المطار الجديد من داخل “الجبهة الشرقية” التي وصفنا أحوالها.

– قص لي القائد “جولاب” بعد فتح خوست قصة تلك المغامرة. فقال بأن ضباط الميليشيا الذين فروا إلى ميرانشاه بعد المحاولة الفاشلة “لبيع” الخط الدفاعي الجنوبي، اتفقوا مع مجموعتين من البدوعلى تهريب عائلاتهم من خوست إلى ميرانشاه لقاء جائزة مالية كبيرة. اشترك في الصفقة مع “جولاب ” القائد البدوي الآخر “أورانج”.

لم يكن من السهل فإخراج عدة مئات من النساء والأطفال والشيوخ من بين مواقع عسكرية مكدسة ومتلاصقة، وحقول ألغام ربما كانت الأشد كثافة في كل البلاد.

بدأت العملية في اليوم الثاني من المعارك، وكان جولاب وجماعته مشغولون في الهجوم على ماليزي. فتعثر برنامج الهروب في ذلك اليوم، وتشتت الهاربون في الحقول والأراضي الجرداء المهجورة،وتعرضوا لما يشبه الضربات التحذيرية من المدفعية والطيران.

وفي اليوم الثالث للمعارك ـ وكانت جماعة جولاب مشغولة أيضا في فتح موقع “باشيم “، توسعت عملية الهروب وزاد عدد المشاركين فيها، فلم تعد تشمل عائلات ضباط الميليشيا فقط، بل انضمت إليها “الجماهير” من سكان خوست فأصبح الهاربون بالآلاف.

وزادت “الضربات التحذيرية” فتشتت هؤلاء الهاربون بشكل مأساوي في اتجاه الشرق والجنوب الشرقي. وكنا نتابع المنظر من موقع ترصدنا في الشرق ـ في منطقة خرمتوـ وكنا نهلل ونكبر، تماما كما فعلت كل الذين تابعوا هذا “الانهيارالكبير” في جبهة العدو.

ظننت وقتها أن معركة خوست على وشك الانتهاء. ويبدو أن ضباط العدو في جبل “كوكاراك” توصلوا إلى نفس النتيجة فلم يلبث أن سلموا مواقعهم “لمجاهدي ” المنطقة ذلك الجبل كان أشد تحصينا من “تورغار” الرهيب بسبب وجود مجموعة من التباب أمامه وخلفه، جميعها محصنة ومحمية بالجنود والألغام. فكان اقتحام ذلك كله معضلة عويصة. خاصة وأن الموقع لم يتعرض للاستنزاف كما حدث لتورغار في الجنوب.

لم نكن وقتها قد بدأنا العمل ضد المطار الجديد نظرا لتوقف الحركة في المطار بسبب الأمطار والضباب. كنت أخشى كثيرًا من هاونات كوكاراك عندما تتدخل ضد راجماتنا التي كانت قريبة من الجبل بدرجة خطيرة ويسهل على العدو تحديد مواقعنا أثناء العمل الليلي ولديه من الهاونات ما يكفي لجعل حياتنا قطعة من الجحيم.

وقبل استسلام الجبل، استعرض العدو قوته أمامنا أثناء النهار، فكانت هاوناته الثقيلة مصدر خطورة كبيرة على مواقعنا، والوضع ليلا سيكون أسوأ بلا شك.

ولكن الله سلم، وعندما بدأنا العمل الفعلي ضد المطار لم يكن هناك كوكاراك، فكانت معجزة حقيقية أبعد من كل تصور.

ولم يلبث موقع “أليسار” أن استسلم بعد ذلك بثلاثة أيام. وكان عبارة عن هضبة مليئة بالخنادق، تحرسها دبابة متخندقة، وعلى قمة الهضبة موقع حصين لمدفع شلكا مضاد للطائرات ومجموعة من الهاونات، أما الألغام فكانت جنونا حقيقيا، فالساحة الواسعة حول الموقع مليئة بالألغام والشراك الخداعية وقذائف المدفعية المفخخة والأسلاك الشائكة. وجثث لحيوانات عديدة من أبقار وأغنام وحمير قد مزقتها الألغام فأضفت على المكان مسحة جنائزية مرعبة، خاصة مع النباتات والأشواك البرية الكثيفة التي كست المكان.

عملية الهروب استمرت حوالي ثلاثة أيام متتابعة، ينجح البعض ويتعثر آخرون ولكنها أعطت التأثير المدمر على نفسية جيش العدو.

كان توقيت عملية الهروب الكبير غير مرتبط بتوقيت العمليات بل كان متفقا عليه سلفاً قبل أن يعلم المنفذون (جولاب ـ أورانج) بتاريخ بدء العمليات، الذي لم يكشفه حقاني لأحد سوى في الساعات الأخيرة.

في الفترة التي كان قائد موقع أليسار يرفض التسليم للمجاهدين رغم استسلام كوكاراك الأضخم والأقوى ـ طلبت من صديقنا “يحي المصري” أن يشتبك معهم بالهاون والمدفع عديم الارتياد، مع التركيز على الدبابة التي كانت نشطة واستفزازية. وبالتأكيد شعر قائد الموقع بضعف خطنا الأول، وبتفاهم ” المجاهدين” معه، فخشيت أن يحدث تواطؤ علينا، ولم يكن خطنا الأول يطلق طلقة واحدة على العدو.

نجح يحيى ببراعته في إزعاج أليسار حتى أن الدبابة فرت من الموقع وتراجعت إلى الخلف لتصبح أبعد من مدى أسلحة “يحيى”. لاحظنا أن الدبابة مرتبكة ولا تدريماذا تفعل. توقعت أن تكون القيادة نفسها مرتبكة وليس لديها خطة لمواجهة الموقف، وأن القيادة في خوست ليس لديها القدرة على التدخل لمنع انهيار الجبهة الشرقية.

واصلنا الضغط على “إليسار” بواسطة “يحيى المصري” وأسلحته العجيبة وعاونه بعض الشباب في إظهار قوتنا، ليس فقط ضد أليسار بل ضد موقع آخر في مواجهتنا من ناحية الغرب وهو موقع “أيوب خيل” وكان به دبابتان للعدو، مع قوة لا بأس بها من الجنود والهاونات.

كان يحيى وجماعته يتنقلون، جريا، من موقع إلى آخر لضرب أليسار وأيوب خيل حتى ظهر للعدو أن قوتنا كبيرة بأكثر من حجمها الواقعي بكثير.

اقتنع قائد موقع أليسار أن لافائدة من المماطلة فبدأ جديا في مفاوضات التسليم مع مجموعات المنطقة، وبدأوا في تطهير ممرات في حقول الألغام حول أليسار.

كانت غنائم مجموعات المنطقة هائلة من الذخائر والأسلحة، ورغم أن مجاهدي منطقتنا لم يقاتلوا ولم يخطر في بالهم أن يفعلوا ذلك، إلا أن الغنائم التي سقطت بين أيديهم بدون قصد كانت كثيرة جداً.

وهذا يتماشى مع القاعدة التي أشرنا إليها سابقا من أن “المتربصين ” كانوا أوفر حظا من المجاهدين، ونصيبهم من الغنائم دائما أكبر مهما كانت نتيجة المعركة وأيا كان المنتصر.

 

الخميس 4 رمضان ـ (20 مارس 1990)

من “باشيم” كانت المفاجأة، وبداية الانتصار:

استيلاء المجاهدين على باشيم كان بداية سلسلة من المفاجآت التكتيكية المذهلة، أدت في النهاية إلى فتح خوست.

أول وأهم تلك المفاجآت كان التقدم من “باشيم” صوب “فارم باغ” والاستيلاء عليها.

“فارم باغ” منطقة زراعية كثيفة الأشجار تحتوي على قاعدة عسكرية إدارية كبيرة بها احتياطي الدبابات الخاص بالمنطقة الجنوبية كلها.

لم يتصور أحد أن يسقط ذلك الموقع الهام بتلك السهولة الكبيرة. والسبب في ذلك عنصران:

الأول: عنصر المباغته، الذي نفذه المجاهدون بشكل مثالي.

الثاني: حالة الانهيار المعنوي والاضطراب التي أشاعتها عملية “الهروب الكبير” التي تحدثنا عنها سابقا.

 

من ناحية المفاجأة:

– غير المجاهدون أسلوبهم في العمل فجأه. فبدلا من أسلوب القضمات المتتابعة التي تفصلها فترات زمنية طويلة نسبيا، حسب حجم الهدف، نراهم الآن يتبعون أسلوب الهجوم المتواصل بدون فاصل زمني.

اليوم الأول أخذوا ماليزي ـ واليوم الثاني أعادوا الاستيلاء عليها من الحكومة. ثم في اليوم الثالث يستولون على “باشيم “. وهاهم في اليوم الرابع يهاجمون بشكل غير متوقع هدفا يحسب له ألف حساب، يهاجمون أكبر قاعدة جنوب نهر شمل.

– لم يتم قبلا أن هاجم المجاهدون هدفا كبيرا بهذا الحجم، بدون تمهيد مدفعي، ولكنهم فعلوا ذلك هذه المرة.

– لم يهاجم المجاهدون في التوقيتات المعتادة وهي إما فجراً، للاستفادة من ضوء الفجر في نزع الألغام ـ أو قبل الغروب لتفادي ضربات الطيران. وبدلا عن ذلك هاجموا ضحى، رغم أن الطيران كان في حالة هيجان هستيري غير مسبوقة طوال معارك خوست القديم منها والحديث.

وعندما تدخل الطيران لإحباط ذلك الهجوم على “فارم باغ” أصاب مواقع العدو نفسه، فعجل ذلك في انهيار مقاومته حيث أن الضرب الجوي طال أعماقا لم يكن قد وصلها هجوم المجاهدين.

فعندما تحرك الطيران كان المجاهدون قد لامسوا الخط الأول للعدو واخترقوه، فكان مستحيلا بالنسبة للطيران أن يميز بين قواته وقوات المجاهدين.

استخدم العدو القنابل العنقودية، وغطى كل باشيم وفارم باغ، بالطبع شمل ذلك قواته نفسها، والأدهى أنه ركز قنابله الثقيلة حتى الفسفوري منها على هضبة عالية وحيدة في فارم باغ، كان واضحا أن لها دوراً رئيسيا في الاتصالات والسيطرة ـ وظل مركزا مجهوده على تلك الهضبة سائر اليوم.

لا ندري السبب، ربما كانت تحتوي على معدات هامة يخشى العدو من وقوعها في أيدي المجاهدين، ولكن الواضح أنه بذلك العمل قد قصم ظهر الدفاع عن فارم باغ التي غادرتها قواته بسرعة بدون أي مقاومة تذكر.

وكنا نتابع تلك التطورات من موقع ترصدنا في “خرمتو ” ونتابع الاتصالات اللاسلكية للمجاهدين وأحيانا للعدو.

– ساعد على تحقيق المفاجأة اكتشاف المجاهدين “لمدق ترابي” يربط ” باشيم” مع “فارم باغ” كان ذلك طريقا للإمداد. لذا لم يكن ملغوما أو بالأحرى لم يكن العدو قد لغمه بعد. وربما كان يستعد لاستخدامه لأجل استرداد “باشيم ” في هجوم مضاد كان قيد التجهيز ولم يفرغ بعد من الحشد له.

فحتى هذه اللحظة كان العدو ينتظر الهجوم الرئيسي من الطرف الشرقي لجبل تورغار. حيث حشود المجاهدين علي حالها وكان يظن أن كل ما يحدث في (ماليزي ـ باشيم ـ فارم باغ) مجرد هجوم ثانوي لتشتيت انتباهه. ولكنه مع سقوط (فارم باغ) أدرك أن ما يحدث هو أخطر من مجرد هجوم ثانوي.

ولكن الوقت كان فات ولم يعد ممكنا تفادي الكارثة لأن فارم باغ يمر منها طريق ترابي خلفي يربطها بكل خط الدفاع الجنوبي الواقع على الجبال. ذلك الطريق كان يستخدم لتمرير الإمدادات بأنوعها وتقديم الدعم لأي موقع عند الضرورة.

اكتشف المجاهدون ذلك الطريق التراتي “المدق” واستخدموه على الفور لتطويق خط الدفاع الجنوبي للعدو والهجوم من الخلف على مواقعه المنيعة، وعبر مسالك ومدقات أمنه وغير ملغومة.

اكتشاف تلك المدقات والاستفادة السريعة والجسورة منها كان أروع المفاجآت التكتيكية في كل المعركة.

– بقي أن نقول أن أبطال تلك المفاجآت الساحقة كان الأخوان (خليل وإبراهيم) شقيقا جلال الدين حقاني فهم أصحاب تلك المبادرة.

فبعد إسنادهما للهجوم على باشيم بواسطة دبابتين ” كانتا تحت أمرتهما. وباكتشافهما المدق الواصل بين باشيم إلى فارم باغ، تقدما عليه بنفس الدبابتين وبدعم مجموعة محدودة من المشاه فسقطت فارم باغ بسهولة أذهلتهما، حيث فرت دبابات العدو عبر نهر شمل وتبعها المشاة.

وأحرقت الطيران المنطقة كلها. ولكنه فشل في إصابة الدبابتين وأظن أن أحدا من المجاهدين لم يصب بجروح في العملية.

وسرعان ما اكتشف الأخوان أن المدق الترابي العجيب يربط فارم باغ بخط الدفاع الجنوبي كله فطلبا دعما سريعا من المشاة فاستجاب لهم شقيقهما الأكبر وبدأ في اليوم التالي تقدم جسور لتطويق دفاعات العدو وتحطيمها من الخلف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى