مقالات الأعداد السابقة

حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 6)

أ.مصطفى حامد المصري

 

مغامرات مع المجموعة الأولى من المتطوعين المسلمين في أفغانستان.

طائرات تدعمنا من حيث لا نحتسب، وتدمر مواقع العدو المقابلة لنا.

حقاني في قرية شاهي كوت يجهز لفتح قرية تعمير في وادي زورمات في أهم مواجهة مع السوفييت في ولاية باكتيا.

حقاني يُجْرَح في معركة تعمير مع 40 مجاهدًا، لكن فكرة فتح المدن ترسخت لديه، أما قابلية السوفييت للهزيمة فقد أصبحت من البديهيات.

دبابات ورشاشات ثقيلة وملابس شتوية وأطعمة، من غنائم معركة تعمير في الوقت الحرج لدخول الشتاء.

التوجه صوب خوست: كان التحول الاستراتيجي الأهم في مسيرة حقاني العسكرية.

 

مجموعات المتطوعين المسلمين كانت موضوعًا حساسًا في الحرب الأفغانية، وأصبحت أكثر حساسية بعد نهاية الحرب وانقلاب الغرب والعرب على هؤلاء المتطوعين، الذين تحول الكثير منهم إلى منحى أكثر عنفا وتطرفا فقهيا. وذلك موضوع هام للغاية مازال يكتب فيه الكثير من الآراء المتضاربة التى يخضع أكثرها لحسابات ومصالح سياسية واقتصادية، حيث أن موضوع” الجهاد الإسلامى” بعد أن اختطفته أيدى غير إسلامية صار عاملًا مؤثرًا في النظام الدولي ككل.

حقاني كان الأكثر نجاحًا في التعامل مع تلك الظاهرة وأوّل من احتك بها وسخرها بشكل إيجابي، كانت الظاهرة يدة تمامًا على الأفغان، والعرب والمسلمين. وكان الجميع يراقبون بدهشة في محاولة للتبع والفهم بالغريزة القتالية الحادة تمكن حقاني من إدراة من قدم إليه من المتطوعين من جنسيات مختلفة، وتمكن من استخراج أفضل مالديهم من عطاء قتالي، وقد كان كثيرًا متدفقًا بسخاء مع دماء شابة قدمت من أجل التضحية فقط.

 

مغامرات مع أول مجموعة جهادية دولية:

ــ وكنت مع رشيد والشباب الباكستانيين الذين معنا وعددهم حوالي خمسة أشخاص تقريبا. كنا جميعا مرشحين بجدارة كي نكون ضمن تعداد القتلى في ذلك اليوم. إذن لخسرت أفغاستان أول مجموعة (دولية) من المتطوعين المسلمين، ولا أدري كم كان ذلك سيؤثر على مسيرة الجهاد الطويلة في أفغانستان، سلبيا أم إيجابيا، فالمهم أننا لم نقتل. وفي الواقع أن الصاروخ (سام7) قد وضعنا جميعًا في مأزق خطير فقد حملنا الصاروخين، وتسللنا إلى سفح جبلي منبسط مواجه لسهل جرديز، وكمنا لمروحيتين (مي ـ24) كانتا تصبان الحمم على الخط الأول للمجاهدين.

كان أحد الصاروخين جاهزًا للاستخدام وكان رشيد هو الذي يحمله وكنت أقوم بدور مساعد الرامي، بينما الشباب الآخرون يحملون الصاوخ الثاني ويقومون بالحماية من قريب. كما ذكرنا مر صاروخنا مرور الكرام من خلف ذيل الهيلوكبتر الأخيرة. فواصلت الطائرتان سيرهما إلى نهاية الوادي وانحرفت الأولى عائدة إلى المدينة أما الطائرة الأخرى فقد استدارت راجعة نحونا. توجست شرا من تلك الاستدارة، أما رشيد فقد جن جنونه وانتابته عصبية شديدة حتى أنه فشل في تركيب البطارية الخاصة للصاروخ الثاني. وهي عادة تركب بسهولة.

ونتيجة للعصبية استعصت، فتجمع الشباب حول الصاروخ ولكني طالبت بمغادرة المنطقة بسرعة. رفض رشيد ورفض الآخرون، بل إنّهم أعطوني بنادقهم حتى يتفرغوا لهذا الصاروخ وبطاريته المشاكسة.

كان تكدسًا خطرًا ومحزنا. حلقة من الشباب تصارع صاروخا كأنه بغل جامح. لم أرفع نظري عن الهيلوكبتر وبات واضحًا ـ لي فقط ـ أنها تتوجه إلينا. ومن جانبي أرسلت إلى المجموعة بيانات مقتضبة وتحذيرات ولكن لا مجيب. مسحت المنطقة بعيني لاختيار المكان المناسب كي أتواجد فيه خلال الأزمة القادمة لا محالة بعد ثوان.

 

وعدت بنظري إلي الطائرة. وخيل إلي أن نظراتي التقت بنظرات الطيار ويالها من نظرات، إن أحدنا على وشك أن يقتل الآخر، ولن أكون أنا سوى القتيل.

لم أرفع نظري عن خصمي وأنا أصيح في جماعتنا بصوت كالرعد ولكن بلغة إنجليزية سليمة (إجرى)!. وتابعت القول بالعمل وجريت في اتجاه متعامد على خط اقتراب الطائرة ـ ولا أدري هل كان ذلك بناء على تفكير سليم مسبق أم أن قدماي قد اكتسبتا خبرة ـ إضافة إلى غريزة فطرية قوية في الهروب السديد واختيار المكان المناسب في الوقت المناسب. تحركت بسرعة لا بأس بها إذا وضعنا في الاعتبار أنني كنت صائما كما أنني كنت أحمل على كتفاي بنادق المجموعة كلها تقريبا. أما باقي المجموعة فقد تحركوا إلى أعلى السفح حيث كتلة ضخمة سوداء من الصخور، لقد غامروا بالتحرك في نفس خط تحرك الطائرة، ولكنهم نجحوا في الحصول على مكان أفضل من الذي فزت به. فقد وجدت نفسي محشورًا في شق ضيق حفرته مياه السيول وعمقه أقل من قدم ولكنه طويل جدًا ومتعرج.

ولمدة عدة قرون وهي المدة التي تخيلتها للمعركة غير المتكافئة بيني وبين الهيلوكبتر وكانت معركة من جانب واحد كما هو واضح.. معركة صراع بقاء ومنافسة بين أفضل تكنولوجيا عسكرية في عالم طائرات الهيلوكبتر وبين غريزة الإنسان في التخفي والاختباء النابعان من حب البقاء. لقد تغطيت بالرداء الأفغاني (الباتو) وحاولت المناورة بالزحف وتغيير مكاني بين كل زخة نيران ترشقها الطائرة على جانبي الحفرة. وبعد كل تغيير أتلقى عددا آخر من الزخات كدليل على أن رامي الرشاش يراني بوضوح كامل. ومن حسن الحظ أن هذا الطيار (الحاقد) كان قد أفرغ صواريخه جو/ أرض في رماياته السابقة على مجاهدينا في الخط الأول، وإلا فإنني وإخواني عند الصخرة كنا قد فزنا بمنازل الشهداء في يوم الثالث من رمضان عام 1401هـ، وياله من يوم مبارك، ولكننا لم نكن في المستوى اللائق لنيل درجة الشهادة، لا في ذلك اليوم ولا في أي يوم جاء بعده حتى لحظتنا هذه.

 

نجحنا في مغادرة المكان بعد انصراف الطائرة التي أفرغت كل مخزونها من الطلقات حتى أصبحت خالية من الذخيرة. ولكن لم نلبث أن وقعنا فی ورطة مع القصف المدفعي حتی عادت الطائرات بعد ساعة أو أكثر.

ولكن القوات الحكومية تجمدت في أماكنها ثم تراجعت تماما بعد العصر. وحامت الطائرات النفاثة فوق مواقعنا لكنها لم تشارك في الاحتفال لسبب مجهول. وهكذا فشلت التكنولوجيا ـ متمثلة في صاروخ سام7 ـ في أن تتوائم معنا. وتكرر ذلك معنا في السنوات التالية مع أجهزة أخرى ومناسبات مختلفة. ولم تمض سوى أيام حتى اكتمل الدرس أمام أعيننا، وظهر سلاح آخر ـ ضد الطيران أيضا لا يعتمد على التكنولوجيا ولكن اعتمد على عوامل غيبية نعجز عن فهمها. ولنضع هذا الحادث إلى جانب حادثة (سام7) ثم نقارن.

 

طائرات تدعمنا من حيث لا نحتسب !!.

في التاسعة صباحا من ذلك اليوم الرمضاني المشرق كان جميع من في المركز نائمين، حيث لا نوم تقريبا أثناء الليل. كنا في خيمة أعلى الجبل. صوت الطائرة النفاثة المنقضة فوق الخيمة أثار فزعنا ونقمتنا.

أحد المجاهدين دخل الخيمة غاضبا واستلّ مسدسه وأطلق عدة طلقات في أعقاب الطائرة، فلم أتمالك نفسي من الضحك. وحتى الآن أبتسم كلما تذكرت الموقف. دارت الطائرة وهي تتمايل حول قمة جبلنا ولكن على ارتفاع مناسب ربما تفاديا لمسدس صديقنا. انصرف الطيار بعد أن استعرض مهارته في إغاظتنا. اختفى ولم يرم علينا قنابله رغم أننا لا نشك في أنه رآنا. لعبت الوساوس في رأسي وسألت رشيد عن رأيه فيما حدث، وبالأحرى فيما سوف يحدث.

 

وجدته هو أيضا في قلق ويتوقع شرا. فاقترحت أن نفعل شيئا تحسبا للأمر. من أعلى الجبل (الحائط) نزل بسرعة رجل يحمل رسالة من رشيد إلي المجاهدين في المركز بالانتشار وتجهيز الدوشيكا للطوارئ. وبعد عشرين دقيقة تمامًا من اختفاء الطائرة الأولى ظهرت ثلاث طائرات واضحة الفخامة ذات لون رمادي ـ على غير عادة الطائرات الشيوعية ذات اللون الفضي ـ تعرف رشيد على الطائرات بأنها من طراز (ميج ـ 23).

مرت الطائرات من فوق خيمتنا البيضاء ثم شكلت حلقة تدور حول قمة جبلنا. لم يعد هناك مجال للتخمين، لقد جاء (الكبار) للقضاء علينا. لم تكن الطائرة الأولى سوى صبي شقي نقل الخبر إلى إخوانه الكبار. كل من يحمل سلاحا منا أطلق في اتجاه الطائرات، نعرف أننا لن نصيبها، ولكننا سوف نقتل على أية حال.. هكذا تصورنا. كمن رشيد مع صاروخ سام7, ولكني لم أكن مستعدا لتكرار المأساة ورأيت أن الكلاشنكوف أكثرمصداقية، وبدأت في استخدامه ضد الطائرات.

بعد عدة دورات اختفت الطائرات الثلاثة في اتّجاه الغرب، ولعدة دقائق حبسنا فيها الأنفاس، فنحن على يقين بأنهم سوف يعودون ولكن كي يقصفونا مباشرة بلا أي لف أو دوران.

وأخذت أتلو كل ما أعتقد أنه ينفعني عندما ألقى الله بعد دقائق معدودة. سمعنا صوت طيران بعيد نسبيا ثم تكبيرة هائلة من القمة القريبة يطلقها مجاهد أخذ يتقافز طربا، صائحا (زنده باد إسلام)، ثم صوت انفجارات تأتي من جهة الوادي. أسرعنا إلى القمة القريبة فكان منظرا لا يصدق. الطائرات الثلاث التي نتوقع أن تقصفنا تقوم بعمل غير معقول !! إنها تقصف مواقع العدوّ على جبل (جوجارى) على بعد حوالي عشرة كيلومترات فدمرتها شر تدمير. كانت مواقع العدو تستخدم للترصد وحماية المدخل الشرقى للوادي، فالجبل منيع ومرتفع ويقع معظمه في الوادي بحيث يسهل الدفاع عنه وتموين قواته.

كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها عملية قصف جوي بهذا الجمال. كان منظر الطائرات رائعا وهي تدور ثم تنقض على هدفها ثم أعمدة الدخان والنار تتصاعد من الانفجارات، وما أن تفرغ طائرة من انقضاضها حتى تتبعها الثانية ثم الثالثة.

ولا يمكن تصور حالة الذعر التي أصابت القوات الشيوعية فوق الجبل، لأن آخر ما كانت تتوقعه هو أن تتعرض لقصف جوي. وقد وصلتنا في اليوم التالي معلومات عن خسائر العدو وأقل ما توصف به أنها كانت فادحة. ذلك هو العامل الغيبي الذي لم يحطم طيران العدو، بل حوله إلي العمل لصالحنا.

ولم أشهد حادثا مثل هذا بعد ذلك. ولكن شاهدت فيما بعد كيف مكننا الله من تدمير طائرات العدو وهي على الأرض (أي وهي في أضعف حالاتها)، ولذلك قصص أخرى.

لم نلبث إلا عدة أيام حتى تحولنا إلى شاهي كوت وهي قرية ساحرة جنوب وادي زورمات ومقابلة تماما لمركز تعمير ـ الهدف القادم للمجاهدين ـ شاهي كوت قرية جبلية ولكنها وفيرة المياه وأشجار الفاكهة وذات جمال يطول وصفه ويطول وصفها. ويمكن القول أنها إحدى الجنات المجهولة التي تزخر بها أفغانستان. بيوتها جميعا طالها الدمار الكامل أو الجزئي. كانت أشجار التوت والمشمش تملأ الطرقات الضيقة وأفنية البيوت المهجورة.

وكميات هائلة من الثمار مطروحة أرضا لا تجد من يلتقطها. وجدنا في القرية أسرة واحدة فقط. مجاهد واحد مع زوجته وطفل وطفلة، كلاهما تحت السادسة من العمر يقفان في ذهول وسط الطرقات المقفرة، والحقول المليئة بالأعشاب البرية الموحشة.

كان منظر الطلفين لا يقل وحشة وحزنا عن منظر القرية المدمرة. تخيلت هذا المكان قبل الحرب وكم كان مرح الأطفال وسعادتهم في وسط كل هذه الأشجارالمثمرة الظليلة وجداول الماء التي تروي العطش ولا يرتوي منها النظر. تخيلت أطفالي لو جاؤوا معي إلى هذا المكان. تبسمت لهذا الخاطر كم ستكون صعوبة أن أجمعهم مرة أخرى من فوق الأشجار وجداول الماء، وحتى من الحقول المهجورة ذات الأعشاب الوحشية.

زارنا مولوى جلال الدين في القرية وعقد جلسة شورى موسعة مع مجاهدي المنطقة وما تبقى من السكان، وأخبرني عن وفد ذهب إلى باكستان كي يقنع أهالي شاهي كوت بالعودة التدريجية على أن يعود الرجال أولا مع بعض النساء لزراعة الأرض. أفلحت مجهودات التشبث بالأرض لفترة محدودة ثم انهارت للأسباب التي ذكرناها.

وقد عدت مرة أخرى إلى شاهي كوت عام 1988م، ولم أجد فيها سوى المجاهدين فقط وبدون أثر لحياة مدنية للسكان. إنها سياسة الأرض المحروقة، وتفريغ الأرض من السکان، والتي تكاتف على تنفيذها السوفييت وقادة الأحزاب في بيشاور مع (منظمات الإغاثة الإنسانية) بسياساتها الخبيثة.

بالتدريج بدأت تتضح فكرة الهجوم على مركز تعمير. وكما ذكرنا فإن الروح المعنوية كانت في قمتها. فضربات المجاهدين ناجحة باستمرار والمبادرة العسكرية في يدهم دائما، والعدو في حالة إحباط وهجماته فاشلة، وسلاحه الجوي يبدو كأنه فقد تأثيره حتى تعود الناس على الإفلات منه وتحمل تواجده كضيف ثقيل… ضار أحيانا. عقدت العديد من جلسات الشورى داخل بيوت شاهي كوت المدمرة، تمتعت خلالها بأكل أكبر وأشهى كمية من فاكهة المشمش والتوت. كنت مسرورا أكثر من أي شخص آخر، ليس من أجل الفاكهة فقط، ولكن لكوني أرى اتحادا حقيقيا بين المجاهدين، اتحاد يتخطى القبيلة والحزب. لم أكن واهما في ذلك فقد أثبتت معركة تعمير أن ما كنت أراه كان حقيقة.

فالمعركة كانت أكثر من رائعة، وكانت أكبر تحدي للسوفييت في باكتيا. القتال كان في منتصف وادي زورمات فسيح الأرجاء، حيث الغلبة العسكرية لمن يسيطر على الجو ويمتلك الدبابات. المعركة أثبتت العكس. الكفة كانت (للمسلمين المُتَحِدين) الشجعان الفدائيين. تجمع قادة المجموعات في أيام وليالي رمضان يتناقشون، وتجمعت الإمكانات وكانت الحصيلة مذهلة بمقياس ذلك الوقت. تجمعت لدى المجاهدين ست دبابات إضافة إلى عدة مدافع ميدان عيار 122مم ومدافع جبلية عيار 76مم.إضافة إلى عدد كبير من المجاهدين شاركوا في الهجوم. لقد تأخر الاتفاق كثيرا ولم تنفذ العملية إلا بعد عيد الأضحى. وانتهاء جميع المناسبات الدينية التي تستدعي إجازة إجبارية من العمليات، لذلك لم أستطع حضورها. وأبلغني رشيد بنتائجها تليفونيا. كما تلقيت رسالة كتابية من حقاني حول نتائج المعركة. بعثت بها إلى جريدة الاتحاد مع شرح موجز لأهمية نتائج المعركة والتحديات الخطيرة التي تمثلها.

 

لقد تركت تلك المعركة تأكيدًا في نفوس من خاضوها بأن الروس قابلون تمامًا للهزيمة. وهي نتيجة كان من العسير إقناع الناس بها، فبقيت حكرًا على المقاتلين فقط. لذلك اختلفت كثيرًا حسابات خطوط القتال مع حسابات بيشاور والمتعاونين معها. وأظنني تبنيت وجهة النظر الأولى وتصادمت بشدة مع معتنقي الرأي البيشاوري. كونت رأيا مفاده أن المساعدات يجب أن تصب مباشرة في الداخل وأن يتواجد المتطوعون العرب هناك، كي يقوموا بمهمة مزدوجة. فمن جهة يساعدون على إقامة اتحاد حقيقي بين المجاهدين الحقيقيين، ومن جهة أخرى ينظمون أنفسهم ويقاتلون إلى جانب إخوانهم الأفغان. وكنت أرى أن دور الإخوان المسلمين مازال ضروريا لتنظيم العمل العربي نفسه.

 

 

عن معركة تعمير(1981 ) مرة أخرى: 

استمرت المعركة خمسة أيام متواصلة. حوصر فيها الموقع، وحاولت قوة عسكرية من جرديزالقريبة أن تفك الحصار فأوقعها المجاهدون في كمين ودمروها. استمرت المعركة أربعة أيام إضافية فتح فيها المركز.

 

وأمامي الآن قائمة الغنائم وكانت:

دبابتين سليمتين من طراز (تي ـ54) ــ ومدفعين من عيان 76مم ــ مع 3 رشاشات ثقيلة من طراز دوشكا. و7 صناديق قنابل يدوية و122 ألف طلقة كلاشنكوف و6 رشاشات خفيفة. مع عدة سيارات محملة بالأغذية والملابس الشتوية (كان الشتاء على الأبواب).

وقد جرح حقاني في هذه المعركة ومعه 44جريحا آخر.

أما عدد الشهداء فكان ثلاث عشر شهيدا. استمر المجاهدون في وادي زورمات أكثر من شهرين ـ قبل وبعد العمليات ـ وقطعوا تماما الطريق بين جرديز وغزني وقطعوا أيضا اتصال جرديز مع كابل. أي أن جرديز قضت فترة من الحصار البري الكامل. وفشل الروس في تطهير وادي زورمات الفسيح طوال عدة أشهر بل فشلوا في صد هجمات المجاهدين على مواقع رئيسية في ذلك الوادي وفي مقدمتها مركز تعمير. هل كان ذلك يعني شيئا آخر سوى أن السوفييت ليسوا سوى نمور من ورق وأنهم قابلون للهزيمة؟.. لقد ولدت فى تعمير وترعرعت فكرة فتح المدن الكبيرة، وبعد أن كانت طيفا شاحبا قبلها، أصبحت بعد تعمير فكرة معقولة. لم تبارح تلك الفكرة الطموحة ذهن جلال الدين حقاني. وسوف نتحدث عن نمو تلك الفكرة وتطورها في برامجه العسكرية حتى حقق أكبر إنجاز عسكري في حرب أفغانستان متمثلا في فتح مدينة خوست. هذا الكلام يتعلق كثيرًا بما ذكره محمد يوسف في كتابه فخ الدب وإدعاءاته كضابط مخابرات ـ بأن أفكار الدفاع الثابت عن القواعد الاستراتيجية للمجاهدين كانت فكرته، وأنه ساند مشروعا للهجوم على خوست عام 1985م قام به المجاهدون ولكنه تكلل بالفشل. وسوف نتعرض لكل ذلك في حينه.

 

التحول الاستراتيجى الأهم: التوجه إلى خوست:

من أهم التحولات في العمل العسكري لحقاني كان نقل ثقل عمله العسكري من جرديز عاصمة ولاية باكتيا إلى منطقة خوست الحدودية والتي تضم أهم المراكز العسكرية والاستخبارية في أفغانستان في ذلك الوقت. وفرت خوست لحقاني خطوط إمداد أقصر مرتكزة على المدينة الحدودية ميرانشاه، وفيها سوق للأسلحة والذخائر، مع توافر مشتقات النفط والأغذية ومقدار بسيط للخدمة الطبية، تعاظم مع السنوات وتوافد بعض منظمات الإغاثة “الإسلامية”.

ما أن هبطت الثلوج في جرديز في شتاء 1981حتى نزل حقاني إلى الجنوب وبدأ نشاطه العسكري في خوست، حيث البرودة أقل قسوة ويمكن للمجاهدين العمل فيها أثناء الشتاء فتمكن من الاستيلاء على حصن (دابجي) الذي يتحكم في أحد الممرات الطبيعية الواصلة بين وادي خوست والأراضي الباكستانية.

أتاح هذا النصر حرية حركة أوسع للمجاهدين من خلال ذلك المنفذ. ولكن الاستفادة منه لم تكن كبيرة للغاية لسببين:

الأول بعده النسبي عن ميرانشاه الباكستانية والتي كانت المعقل الصديق خلف الحدود، حيث الإمداد ومراكز القيادة والإدارة لمنظمات المجاهدين. والسبب الثاني والأهم أن قبائل من منطقة (ميرعلي) الباكستانية القريبة من ذلك المنفذ الحدودي لم تكن متعاونة مع المجاهدين، وكانت تتلقى دعما ماليا وتسليحا من حكومة كابل الشيوعية.

وفي هذه الأيام ـ وقت كتابة هذه الأسطر ـ أشعربالأهمية العالية لفتح حصن (دابجي) بأكثر مما كنت أشعر به فى وقت حدوثه.

 

عقيد الاستخبارات (محمد يوسف) عبر في كتابه وبشيء من الاحتقار لتلك الفتوحات الحدودية. وقال عنها: إنها كانت محببة لدى (قومندانات) ـ قادة ـ المجاهدين الميدانيين لكونها قريبة من مراكز الإمداد داخل الحدود الباكستانية كما أنها تضمن لهم الثناء والمكافأة من الحكومة الباكستانية والسمعة العالية في الخارج عبر وسائل الإعلام. كان ما يقوله العقيد صحيحًا في بعض الحالات، سوف يرد معنا ذكر بعضها. ولكن فتح (دابجي) لم يكن من تلك الحالات. أقول… أدركت الآن أهمية تلك الفتوحات الحدودية وضرورتها لتأمين منافذ آمنة ومحمية يستخدمها المجاهدون في العبور. وقد عاصرنا في العامين الأخيرين (1993م ـ 1994م) مأساة المجاهدين في طاجيكستان وهم لا يجدون تلك المنافذ، فقد اتخذ الروس من نهر جيحون (آمو داريا) عائقا طبيعيًا أقاموا خلفه نقاط الحراسة والدوريات مانعين المجاهدين من العبور.

 

وخلال هذين العامين لم يكن العبور ممكنا إلا بدفع رشوات محترمة للضباط الروس، مع وجود مخاطر دائمة أثناء عبور المجاهدين الذي يستمر أحيانا بطول ستين كيلومترًا على طوال النهر وتحت ملاحظة الروس حتى ينحرف المجاهدون شمالا إلى عمق البلاد.

 

كانت الحدود الأفغانية دائمًا تستعصي على الإغلاق لطبيعتها الجبلية وطولها الذي يستحيل تغطيته. وليس الحال كذلك ـ بكل أسف ـ في حالة طاجيكستان في جهادها الراهن. لهذا لم يشعر (العقيد) بأهمية ذلك العمل، فقد وصف محاولات الروس إغلاق الحدود الأفغانية مع باكستان بأنها مثل محاولة إغلاق صنبور المياه بوضع اليد على فوهته. لقد حاصر حقاني حصن دابجي لمدة شهر ونصف ومنع كل النجدات القادمة من خوست ودمرها.

 

وفي النهاية فرت حامية الحصن في جنح الظلام تاركين العديد من القتلى والجرحى وكميات من الأسلحة والعتاد من بينها دبابتان من طراز (تي ـ 34) ومصفحة واحدة. وقد بذل جلال الدين حقاني جهودا كبيرة حتى أقنع السلطات الباكستانية بنقل تلك الدبابات عبر الأراضي الباكستانية وإدخالها مرة أخرى إلى أفغانستان عبر ممر (صدقي(أو ممر(غلام خان) القريب منه وكلاهما يؤديان إلى مناطق نشطة وحساسة عسكريا. وكان لتلك المعدات تأثير كبير في عدد من الصدامات الهامة مع القوات الشيوعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى