جلال الدين حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدّد (9)
أ. مصطفى حامد (أبو الوليد المصري)
– سياف أفشل المشروع الطموح لتصنيع الذخائر.
– حقاني يتجنب منزلق قرية (بابي)، التي تبتلع القادة والعلماء بعيدًا عن ساحات الجهاد.
– مهرجان النيران في (جاجي) يهدر أموال العرب ويبعدهم عن جبهات الجهاد الحقيقية.
– مجموعتنا الخاصة تتجه إلى جاور.. في زيارة خطيرة لم تَخلُ من المرح.
– بسعادة غامرة احتفل المجاهدون بوصول أول أطفال العرب إلى جبهة القتال.
– حقاني يحذر أحزاب بيشاور من أن العدو قد يحاول في عملية واحدة إغلاق منفذي “جاور” و”جاجي”، ليفتح الطرق البرية إلى مدينة خوست.. ولم يهتم أحد.
– حقاني يقول لنا: لماذا لا تغلقون أنتم المطار؟؟ وكان الأمر أكبر كثيرًا مما تصورت.
من نافلة القول أن نذكر فشل مشروعنا الطموح بتصنيع الذخائر الأساسية. وهو المشروع الذي تحمس له حقاني وعدد من ضباط الاتحاد التابعين لسياف. وفشل المشروع عائد لسياف شخصيا الذي يخشى كثيرًا من أي مشاريع جهادية جادة قد تكشف زيفه، وتكشف حقيقة توجهاته المرتبطة بأعداء أفغانستان، الذين يعمل حاليا تحت رايتهم في كابل عاملا على تثبيت أركان الاحتلال الأمريكي.
منزلق بابي:
لعل من أهم معالم عام 1983م في مسيرة الجهاد في أفغانستان هو ظهور اسم (بابي) في قاموس الجهاد.
تكلمت مع حقاني في بيشاور عن رغبتي في إحضار عائلتي إلى باكستان كي أتفرغ للعمل مع المجاهدين. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي نثير فيها هذا الموضوع. فأخبرني أن الحكومة الباكستانية وزعت على قادة الأحزاب وقادة الجبهات المشهورين قطعا من الأرض في منطقة خارج بيشاور تدعى بابي على بعد حوالي 20 كيلومترا في الطريق إلى إسلام آباد.
ثم عرض حقاني أن آخذ قطعة الأرض الخاصة به لأنه لا يحب أن يستقر في بيشاورلأن ذلك سوف يغرقه في مشاكلها، وقد تُوْكَل إليه مهام إدارية في الاتحاد تجعله بعيدا عن الجبهات. وأخبرني أن مولوي أرسلان له قطعة أرض مجاورة له وأنه شرع في بنائها.
أجبته أنني سوف أكون مسرورا بأن أكون جارا لمولوي أرسلان ولكنني مشغول بالنسبة لدراسة الأولاد، فأولادي عددهم كبير ومعظمهم في سن الدراسة. لذا سوف أبحث إمكانية الإقامة في إسلام آباد عندما أتأكد من وضع المدارس العربية فيها.
علمت بعد ذلك أن بعض(فاعلي الخير) من السعودية قد اشتروا من حكومة باكستان مساحة واسعة في منطقة بابي ووهبوها لسياف كي يقيم عليها قرية جهادية يستوعب فيها رجاله وموظفيه وقادته، ومشاريعه الجهادية!! ومدارس ومستوصفات علاجية، وحتى جامعات.
وهكذا مع الوقت ابتلعت بابي ليس فقط أموال العرب التي أغدقوها بغير حساب للتنمية وللتعمير، ولكنها ابتلعت عشرات من قادة الجبهات المقتدرين والعلماء الذين دخلوها ولم يخرجوا منها إلا إلى المقابر أو إلى أفغانستان لتولي بعض المناصب في (الحكومة الإسلامية) بعد الفتح وهي الحكومة التي أدارت الحرب الأهلية بين المسلمين حتى أزاحتها حركة طالبان.
كنت أرى في بابي مجرد(سيرك) يديره مهرجي الجهاد لمجرد سلب أموال العرب وإبعادهم عن المساهمة الجادة في الجهاد، وكانوا يحيطونها بجو كاذب مضلل. ويضخون في أسماعهم يوميا عشرات الأكاذيب والافتراءات، ويرفعون لديهم أقواما ويضعون آخرين.
حتى صارت الصورة التي يتم بثها من بيشاور ـ بواسطة سياف بصفته الجديدة المهيبة ـ وكبار المسئولين حوله، هذه الصورة لا تَمُتْ بصِلَة لصورة الجهاد الحقيقية ولا تساعد بأية حال على معرفة القضية الحقيقية في أفغانستان.
كان سياف وغيره من القادة لا يرغبون إطلاقا في أن يتعمق العرب في صلاتهم الميدانية بأفغانستان والجهاد هناك، لأن ذلك سوف يفضحهم ويوضح أوجه الزيف في العملية كلها.
كان المطلوب هو أن يحضر العرب إلى بيشاور كي يستمعوا إلى الأكاذيب ويشاهد تمثيليات محبوكة يديرها القادة ومساعديهم، مع مزيد من الهياج العاطفي المحموم التي تثيره الأشرطة والمجلات الإسلامية التي ضخمت الحديث حول مواضيع فرعية، أهمها (الكرامات) التي كثر اللغط حولها في أحاديث قليل منها صحيح وأكثرها كاذب.
الكتاب الإسلاميين فى حديثهم عن هؤلاء القادة من الأفغان “الذين يذكرونهم بالصحابة” تمادوا في هذا الاتجاه المدمر، ليس فقط للجهاد في أفغانستان بل لتاريخنا الإسلامي ورموزنا الإسلامية الكبيرة. حتى قال أحدهم عن سياف إنه عُمَر الثالث في زهده وتواضعه!! إلى هذه الدرجة وصل التضليل والعمى.
والويل كل الويل لمن يعترض أو حتى يتحفظ. فهو إما (عدو للجهاد)، وقد نلت هذه التهمة مرارا، أو هو زنديق ينكر الكرامات، أو هو يطعن في نزاهة رواة تلك الكرامات وهم من هذه الفئة التي إن قابل أمثالهم البخاري لأخذ عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من يرد هذه فقد رد تلك!!
سمعت هذا التهريج وأمثاله بأذني من شخصيات إسلامية كبيرة وعلى قرائنا المستقبليين أن يتخيلوا درجة الانحطاط الفكري التي كنا فيها، وانخرطنا بها، في أعاصيرالجهاد على أرض أفغانستان. كانت “بابي” هي بوتقة كل ذلك الغثاء، والهوس الجماعي باسم الجهاد. كانت (حملة إسلامية) لتضليل الأمة الإسلامية ولمنعها من الرؤية السليمة وبالتالي منعها من ردة الفعل الصحيحة.
حملة أوقدها أعداء الأمة وانساق فيها بعفوية وصدق وإخلاص عدد من كبار رموز الأمة التي دفعتهم الساحة الأفغانية إلى مقدمة الصفوف من بين أوساط الإسلاميين.
جاجي.. مهرجان بالنيران:
ولا تذكر (بابي) إلا وذكرت معها شقيقتها (جاجي) ذلك الموقع الحدودي الذي مارس فيها سياف تضليلا عسكريا على جهلاء العرب المتحمسين حتى الموت والمتحرقين للشهادة في سبيل الله، وأكثرهم لم يسمع في حياته صوت طلقة أو يلمس بيده بندقية.
كانت ضغوطات العرب على سياف كي يذهبوا إلى الجبهات آخذة في التصاعد مع تزايد أعداد العرب الوافدين إلى أفغانستان.
تعمد سياف في البداية إرسال المتحمسين العرب إلى جبهات (مضمونة سياسيا) أي تقودها شخصيات غير طموحة سياسيا ومرتبطة بالاتحاد. فكان الاتجاه الأساسي نحو جبهات جلال الدين حقاني. ولكنه كان يخشى من قوة حقاني وشعبيته لذا تفتق ذهن سياف عن جبهة أخرى قريبة من كابل هي جبهة (شكردره) التي يقودها الشاب الذكي الطموح “محمد صديق شكري”الذي كان في طور التلميذ على يد أستاذه وقائده سياف.
ولم يلبث القلق أن انتاب سياف من نباهة “شكري” الذي أتقن العربية بسرعة وبدأ يتكلمها بطريقة سياف ويحاكيه في إلقائه وكأنه صورة طبق الأصل، فحاز إعجاب زواره من الشباب العرب، وعقد صداقة متينة مع الدكتورعبد الله عزام وروى له عدة “كرامات” لا أصل لها، ولكنها حازت إعجاب الشيخ، فأوردها في كتابه عن الكرامات، والمسمى “آيات الرحمن في جهاد الأفغان” بعد أن أقسم “شكري” على صحتها!!
كما زادت زياراته له في بيته في إسلام آباد وفي تجمعات العرب، خصوصا المركز الإسلامي في بيشاور، فزادت شعبية شكري كثيرا.
وبدأت التبرعات تنهال على جبهته مباشرة على شكل هِبَات عينية تسلم إليه شخصيا. شعر سياف بالخطر فكان لا بد له من أن يتواجد بنفسه في سيرك جديد للألعاب النارية يرضي نزوات الشباب العرب. فتفتقت عقليته المتوقدة عن(جاجي) كأول سيرك جهادي للألعاب الجهادية، مخصص للسياح العرب.
في عام1984ــ الانحراف يتأصل:
جاجي كانت نجم عام 1984 بلا منازع بالنسبة للشباب العربي وجماهير المسلمين المتحمسة.
لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لي وبالنسبة لقلة نادرة من العرب، ولا بالنسبة لأكثيرية الأفغان سواء القادة أو (الكومندانات) أو حتى الأفراد العاديين. كنت أراها تهريجا وتضليلا واستنزافا لأموال العرب والاحتيال عليهم.
طريقة سياف في قيادة الاتحاد جعلتني أتشكك في إمكانياته لأن يكون قائدا حقيقيا للجهاد وللشعب الأفغاني. لم يكن أكثر من (قائد آخر) مثل هؤلاء الذين سبقوه.
نفس المنهج ونفس العقلية، إلا أنه أكثرهم قدرة على الخداع والمراوغة ففازعلى الجميع. وأمسك بسيف الشرعية واستولى على الأموال المتدفقة على الاتحاد بصفته رئيسا لذلك الاتحاد الوهمي. ولكنها تحولت إلى أموال شخصية ساعدته في تقوية مركزه وزيادة عدد أتباعه. ولم يُصَبْ منها شيء إلى داخل الجهاد في الجبهات لأن الإنفاق على الجهاد تمويلا وتسليحا كان قد أصبح مهمة أمريكية.
وسياف ـ أو غيره من قادة الأحزاب ـ غير مستعد بالمرة أن يضحي بغنائمه من أموال العرب كي ينفقها على الجهاد نيابة عن الولايات المتحدة.
في ذلك الوقت كانت المخابرات العسكرية الباكستانية تشدد قبضتها يوما بعد يوم على أمور القتال داخل أفغانستان، وكانت حتى ذلك الوقت تستخدم (الأحزاب الجهادية) في بيشاور كقناة رئيسية للدخول إلى أفغانستان والتعامل مع (القومندانات)المحليين.
وسوف نرى أن هذه القناة تم الاستغناء عنها تقريبا في وقت لاحق وتحول الباكستانيون إلى الاتصال المباشرمع كل (قومندان)على حدة، فتهمشت الأحزاب وتحول الزعماء إلى مجرد بيادق على رقعة اللعبة السياسية.
في بيشاور لم يكن الدور الأمريكي قد اتضحت لنا أبعاده الحقيقية حتى ذلك الوقت. وكنا نظنه هامشيا، وكذلك دور باكستان والسعودية.
قبل أن يتوجه سياف إلى جاجي في زيارته الأولى لها، كنت في مَكْتَبِهِ مع الصديق المنياوي كي نطلعه على آخر تطورات البحث حول مشروع التصنيع العسكري. وكنا نعتزم قضاء بعض الوقت في الجبهات ـ عند مولوي جلال الدين حقاني ـ صديقنا الدائم.
كانت مفاجأة لنا عندما علمنا أن سياف قد أسس مركزا عسكريا في جاجي وأنه ينوي نقل مقر إقامته إلى هناك.
كان ذلك أملنا منذ البداية. ولاحظت أن سياف كان متحفظا قليلا وهو يزف إلينا البشرى رغم علمه بإلحاحنا عليه منذ سنوات كي يتخذ تلك الخطوة. وقال بأنه لن ينقل مقر إدارة الاتحاد إلى جاجي ـ كما طلبناـ إلا بعد أن يتأكد من صلاحية الموقع ومناعته. ودعانا إلى مرافقته إلى هناك فوعدناه باللحاق به فيما بعد.
دارت رأسي ولا أكاد أصدق… هل يفعلها سياف أخيرا…. تلك هي فرصته الأخيرة كي يصبح قائدا حقيقيا للجهاد… وأن يصبح الاتحاد اتحادا حقيقيا للمجاهدين وليس اتحادا ورقيا بين الساسة. ولكن لماذا يتحرك منفردا؟.. تساءلنا في إنزعاج، لكونه يدخل إلى باكتيا ـ تلك المنطقة الحساسة ـ بدون قادتها الكبار، وعلى رأسهم حقاني وأصحابه الآخرين مولوي أحمد جول ومولوي أرسلان وعشرات آخرين؟؟
جزئية أخرى من الصورة في بيشاور آنذاك رأيناها عند العصر. لقد وصلتنا دعوة من بعض الأصدقاء لحضور اجتماع في (بيت باكتيا) وهو منزل اتخذه مولوي خالص كاستراحة لقادة محافظة باكتيا ومجاهديها عند زيارتهم لبيشاور. ذهبت مع المنياوي إلى هناك بصحبة مولوي(عبد الرحيم أخونزانده) الذي صار وزيرا للعدل بعد فتح كابل. فوجدنا البيت مزدحما بشكل غيرعادي. كان هناك ما بين خمسين إلى سبعين من قادة الداخل ليس فقط من باكتيا وباكتيكا ولكن أيضا من غزني ولوجر وغيرها من المحافظات.
كانت الوجوه عابسة والكلام يدور بنبرات غاضبة مع تلويح عنيف بالأيدي والقبضات. كان الجو ملبدا وينذر بالخطر. فسألنا مولوي عبد الرحيم عن موضوع الاجتماع وسبب هذا التوتر، فأخبرنا بأن فتنة على وشك أن تقع.
هؤلاء هم من قادة الجبهات من حزب خالص”حزب إسلامي” وجميعهم جاء يشكو ويتوعد، فالضغط العسكري السوفييتي الواقع عليهم يتصاعد بينما ما يصلهم من إمكانات لا يكاد يفي بالحد الأدنى من المطالب. ويسمعون عن الملايين التي يصبها العرب في بيشاور على سياف. وهذا الأخير لا يهتم إلا بحزبه الخاص، ولا يعير اهتماما لباقي المجاهدين. وحزب خالص أفلس تقريبا ـ أو يكاد ـ بسبب ارتهانه الكامل (للاتحاد) من الناحية المالية. وهكذا صارحهم خالص أنه لا يملك أكثر مما أعطاهم، وطالبهم بالذهاب إلى سياف.
والأخير أهملهم بل ترك بيشاور من جراء ضغطهم وضغط مجموعات مماثلة قدمت من الداخل تطالب بالدعم في مواجهة موسم قتالي هو الأشد والأسوأ من نوعه منذ دخول السوفييت (وقد تأكد لي صحة هذا التقييم من مصادر مستقلة متعددة). إذن جاجي كانت لسياف مهربا من ضغوط الداخل،لا تَوَجُّهاً إلى الداخل، أي أنها هروب إلى الأمام كما يقولون.
كما أنها توجُّه نحو مزيد من الانفصالية الحزبية وليست خطوة اتحادية. وهاهم قواد باكتيا وما حولها يهددون وينذرون، وكانت أهم البنود العملية المطروحة على جدول أعمالهم هي اقتراح بمهاجمة قوافل (جماعة سياف)، أي الاتحاد، أينما وُجِدَتْ!!
لقد إقتربت الفتنة وشمرت عن ساعديها، فما العمل؟
كان الوضع سيئا في الداخل، واستخدم الروس بتوسع أسلوب مهاجمة قوافل إمداد المجاهدين بواسطة الطيران وقوات الكوماندوز. واستطاعوا تدمير عدد لا يستهان به من تلك القوافل، بل وعطلوا مسيرها في بعض الطرق، أي أن المجاهدين بدأوا يخسرون طرق إمدادهم وهذا من مؤشرات خسارة الحرب. ولم يقف الأمر عند ذلك بل أن نشاط الكوماندوز السوفييتي (سباتزناز) قد توسع واشتمل على أسلوب الهجمات المباغتة على مراكز المجاهدين في العمق وتدميرها وقتل من فيها حيث أنه يضرب في أماكن وتوقيتات غير متوقعة وبعد الحصول على معلومات تفصيلية عن الأهداف المقصودة.
وذلك بفضل نمو نشاط جهاز الاستخبارات الأفغاني “خاد” ونجاحه الواسع في اختراق الجبهات القتالية، فضلا عن بيشاور المهلهلة. تدفقت علينا أخبار تلك العمليات مثل الصواعق أو السيل المنهمر حتى تخيلنا أن النهاية تقترب.
فمركز مطيع الله قرب الأورجون تم تدميره وقتل من فيه بواسطة قوات الكوماندوز السوفييتية المحمولة بطائرات الهيلوكبتر.
وعدة معسكرات قريبة من الحدود على الجانب الأفغاني تم تدميرها بنفس الطريقة. واستخدم الكوماندوز السوفييتي الأراضي الباكستانية نفسها في الهجوم على بعض تلك المعسكرات، خاصة في محافظة كونر، فكانت المفاجأة تامة بأن كان الهجوم قادما من الجهة غير المتوقعة. وقد تواطأ بعض قادة المعسكرات في قليل من تلك الهجمات أي أن بعضهم كان عميلا (للخاد)وباع المعسكر ومن فيه.
وبعضهم كرر نفس الخيانة أكثر من مرة قبل أن يتم اكتشافه، وبعضهم استمر في مواقع أخرى ولم تتم معاقبته على الإطلاق.
كانت قوافل الإمداد إلي المحافظات الشمالية ضخمة للغاية وتتكون من عشرات البغال والخيل والإبل، وقد دمر الروس الكثير مها بواسطة كمائن مذهلة. وكانت تلك القوافل تكتشف بواسطة الجواسيس المنبثين على طرق الإمداد خاصة في المطاعم العامة “السماوات”، أو بواسطة طائرات الاستكشاف، وأحيانا أخرى يتم رصدها من بيشاور وينتقل معها جاسوس محترف ضمن أفراد القافلة نفسها التي تضم إلى جانب أفرادها الأصليين المخصصين للحماية أفرادا عاديين من عابري السبيل أو المسافرين إلى نفس المناطق التي تقصدها القافلة.
لم يكن ذلك كل شيء، فقد ظهرت الاشتباكات بين المجاهدين. وبعد أن كانت محصورة تقريبا في شمال أفغانستان بدأت تزحف حتى وصلت كابل. وانتقل الصراع السياسي بين أعداء بيشاور إلى كابل فاشتبك رجال حكمتيار (حزب إسلامي) مع رجال برهان الدين رباني (الجمعية الإسلامية)، ودخل رجال سياف لأول مرة رغم حداثة تشكيلهم السياسي فقاتلوا ضد رجال حكمتيار.
كما علمنا أن أفرادا من الاستخبارات الأفغانية (خاد) قد دخلت في صفوف المجاهدين حول كابل، ويصبون الزيت على النار، وبينهم أفراد كانوا ضباطا سابقين في الدولة انضموا حديثا إلى المجاهدين وتولوا مهام قيادية حول كابل، ثم بدأت لعبتهم الكبرى في إشعال الفتنة الداخلية.
والغريب أن الزعماء في بيشاور كانوا يدافعون باستماتة عن هؤلاء المندسين ويشهدون لهم بالإيمان والإستقامة وبأنهم يعملون معهم منذ زمن طويل وأنهم انضموا إليهم علانية عندما اكتشفت الدولة أمرهم. فاختلطت الحقائق وتداخلت الصفوف وأصبح صعبا معرفة الحقيقة أو ومعرفة من يعمل مع من؟
كانت كابل تحظى بأكبر حشد من الرجال والأسلحة بناء على طلب باكستان من الأحزاب الأفغانية. فهكذا تقضي الاستراتيجية التي وضعها الجنرال أختر عبد الرحمن مدير المخابرات العسكرية وأقوى رجل في الدولة بعد ضياء الحق. وحسب أقوال الزعماء في ذلك الوقت فإن عدد رجالهم تراوح ما بين 20 إلی30 ألف مجاهد للحزب الواحد.
سياف رغم حداثته استطاع حشد ثلاثين ألفا حول كابل، حسب تصريحاته الشخصية. وبالطبع تم ذلك على حساب الآخرين فكان من المنطقي أن تحدث الاشتباكات.
في كتابه (فخ الدب) ذكر الرائد (محمد يوسف) رئيس فرع أفغانستان في الاستخبارات العسكرية أن سياف طلب منه أن يتولى بمفرده مهمة الدفاع عن المنفذ الحدود في (جاجي).
وكان يرغب ألا يشاركه حزب آخر في تلك المهمة. ويبدو أن الإستخبارات الباكستانية أوكلت إليه المهمة الرئيسية وتركت للآخرين دورا ثانويا.
كانت المنطقة هامة جدا كمنفذ حدودي تعبر منه الإمدادات من باكستان إلى عدد كبير من الولايات الأفغانية، وذكر(محمد يوسف)أن جاجي كان يعبر منها ما نسبته 40% من الإمدادات. لقد اندفع سياف إلى مقدمة الصفوف بذهابه إلى جاجي. فهو يدافع عن منفذ هام ومنطقة استراتيجية في إعتبارات باكستان، وكان قبلها قد حجز لنفسه مكانا بارزا في كابل، تطبيقا لنفس الاستراتيجية الباكستانية، وإن أدى ذلك إلى قتال داخلي حول كابل. وفوق ذلك كله حققت له جاجي مركزا متفوقا لدى العرب فأصبح زعيمهم الأكبر ومثلهم الأعلى ومهوى الأفئدة والأموال. ومن هنا فإن العلاقات الداخلية بين الدول (الحليفة) أمريكا / باكستان / السعودية كلما تعرضت إلى(مشاكل عائلية)فإنها تنعكس في موقف كل دولة من حليف الدولة الأخرى.
فعندما غضب ضياء الحق من السعودية قال لسياف في أحد المواقف : (إن الأموال لا تصنع الزعماء، فإن لم تفعل ما أقول فسوف أعيدك من حيث أتيت).
ولا يمنع هذا من أنه أضطر أحيانا إلى تأديب فتاه المدلل حكمتيار عندما رفض الأخير مقابلة الرئيس الأمريكي فقال له ضياء الحق : ( نحن الذين صنعناك ويمكن أن ندمرك في ثوان) وأبلغه ذلك عن طريق مدير المخابرات.
وقد عانى حكمتيار من فترات التوتر في العلاقات الأمريكية الباكستانية،حيث وجه إليه الأمريكان حملات إعلامية شديدة وتصريحات عنيفة من مسؤوليهم.
كانت المنافسة الباكستانية مع حلفائها تدور في الخلف ولكنها كانت عنيفة في بعض الأحيان إلى درجة سالت فيها بعض الدماء.
في زيارة خطيرة لم تَخْلُ من المرح ــــ مجموعتنا الخاصه تتحرك إلى خوست :
بحلول عام 1985؛ استقر الوضع في بشاور طبقاً للتخطيط الأمريكي الجديد. ولم يؤثر ذلك بأي شكل على (الأنصار العرب) في بشاور أو بلاد العرب.
كما لم تظهر لنا أي دلالة على أن الدكتور عبدالله سوف يغير قليلاً أو كثيراًمن أسلوب عمله السابق. فى شهر مايو تحركت نحو ميرانشاه مع عدد من أفراد لجنتنا)شبه السرية)في طريقنا إلى خوست حتى نرى طبيعة الوضع هناك.
ونقرر ماذا نستطيع عمله من مشاركة مباشرة في القتال. وطبقاً لظروفنا )التعيسة(وعددنا التافه. غادرت مع (أبو حفص) و(عبد الرحمن المصرى) وكلاهما من مصر ومعنا أبو عبيدة العراقي ولم يكن عضواً في (اللجنة) بل صديقاً حميماً لعبدالرحمن “وحذره مراراً من العمل معي طبقا لما يسمعه عني فى بيشاور”. ولما لم يستجب له قرر أن يصاحبنا كي يراقب الأمورعن كثب. ولم أر بأساً في ذلك، ثم أصبحنا أصدقاء فيما بعد. إصطحبت معي أبنائي خالد وعبدالرحمن.
الأول كان في الحادية عشر تقريباً والآخر في السادسة. وأظنهما أول أطفال العرب دخولاً إلى أفغانستان. وكانت فرحة المجاهدين بهما عظيمة عندما وصلا إلى جاور. وأصبحت لهما شهرة كبيرة في المنطقة، وسرقا الأضواء مِنّا نحن الأربعة الكبار. نزلنا في إحدى مغارات جاور. واستقبلنا فيها شهر رمضان.
{ وعلى بعد خطوات من ذلك المكان، وبعد ثلاث سنوات تقريباً قُتل ابني خالد مع اثني عشر شابا عربيا بقنبلة طائرة روسية. وقبل ذلك بثلاثة أشهر كان قد استشهد صديقى عبد الرحمن المصرى فوق جبل تورغار بواسطة لغم روسى. وفي عام 2001 استشهد أبو حفص المصري بصاروخ طائرة أمريكية}.
كان حقاني في ليجاة في ذروة النشاط، يحاول التجهيز لاستقبال هجوم سوفييتي كبير كان يعتقد أنه قريب. وأرسل تحذيرات شفوية وكتابية إلى قادة الأحزاب في بشاور، يحذرهم من الهجوم المرتقب ويعرب عن خشيته من أن يحاول السوفييت إغلاق منافذ (جاجي) و(جاور) في هجوم واحد يفِكّون من خلاله الحصار المضروب حول مدينة (خوست( ويفتحون الطريقين المؤديين إليها طريق (زدران) وطريق (منجل).
لكن لم يستجب له أحد بطبيعة الحال، فلم يكن ذلك من سياسة الأحزاب ولا سياسة الحكومة الباكستانية. فقط عندما تقع الكارثة تسحب باكستان قادة الأحزاب وترغمهم على فعل شيء ما وإخراج ما لديهم من أسلحة وأموال، وأن يطلبوا من أعوانهم التنسيق فيما بينهم.
كان ذلك فقط إجراءاً إستثنائياً في حالة وقوع الكوارث. أما قبل ذلك فلا.. لم تكن مصالح باكستان أو قيادات الأحزاب تتفق مع وجود قيادة قوية متحدة للمجاهدين في الجبهات، فباكستان ستفقد معها القدرة على السيطرة والتحكم وفق سياسة فرق تسد التي ورثوها عن أسيادهم البريطانيين. أما قادة الأحزاب فمكانهم الطبيعي تحت أقدام سادتهم في العاصمة الباكستانية يتلقون منهم المال والسلاح.. والأوامر، ولا مكان لهم في ميادين الحرب. وأي إتحاد بين قيادات الداخل، وحتى أي تنسيق طويل المدى كانوا ينظرون إليه على أنه مؤامرة موجهة ضدهم مباشرة. وهكذا اتهمنا سياف بالتآمر عام 84 عندما اقترحنا العمل عسكرياً في كل ولاية باكتيا، تحت زعامته وبجميع القادة المخلصين في الداخل بصرف النظر عن الانتماءات الحزبية. ولكنه في حملة1985 ضد جاجي، هرب وترك مواقعه، ولم تتحرك باقي المنظمات
إلاعندما أصبح أمن باكستان مهدداً بالخطر، واقتربت القوات السوفييتية إلى بعد مئات الأمتار من جاجي وخمسة كيلومترات من (جاور(. فهمنا وقتها ــ وللأسف لم يوافقنا سوى قليلون جداً – أن الأحزاب الأفغانية تخدم باكستان قبل أن تخدم الجهاد، بل أنها تضر بالجهاد من أجل سياسة باكستان.
كان عبدالرحمن المصرى وأبوحفص كلاهما قد شارك في معارك الشتاء الماضي في (شريناو) إلى الجنوب من (جاجي)،تحت قيادة مولوي (فتح الله حقاني) وكانت معركة قاسية، بسبب ثلوج الشتاء وقلة التجهيزات، وشدة الهجوم الحكومي.
تعلم الإثنان طريقة تشغيل وإستخدام صواريخ )الكاتيوشا 107مليمتر( من فوق الصخور وبدون جهاز إطلاق.
وكان الإثنان قد خدما سابقاً في الجيش المصري، أبوحفص كضابط احتياط، وعبد الرحمن المصري كلاعب كرة قدم غير حريص على واجباته العسكرية.
واشتهر الإثنان بالامتياز في لعب كرة القدم، حتى نالا شهرة بين عرب بشاور، وبالتالي تمتعا بلياقة بدنية عالية جداً، ثم فطرة شجاعة إلى درجة الجنون. وقد لاحظ الأفغان ذلك في معركة (شريناو) حتى أطلقوا عليهما لقب (العرب المجانين).
صالون حلاقة بالإكراه في مغارات جاور :
كان الجو حاراً فاقترح عبد الرحمن المصري، وكان أكثر المجموعة حيوية ومرحاً مهما كانت المواقف لذلك كان أقرب الإخوة إلى قلبي، اقترح وقتها أن نحلق رؤوسنا بالموس، بدعوى أنه فعل ذلك العام الماضي وشعر بتحسن كبير.
وفعلاً حلقنا جميعاً حتى الأطفال، وكنّا نحن الستة في مغارة واحدة. وبعد إتمام العمل جاء أحد المجاهدين، وعندما رآنا جميعاً برؤوس لامعة فقع من الضحك وذهب ينادي زملاءه حتى يشاهدوا منظرنا العجيب، ستة من المخلوقات الغريبة حليقة الرؤوس داخل مغارة معتمة، ياله من منظر رهيب.
نصحه عبدالرحمن ألا يفعل ولا ينادي أحداً، لكنه أصر، فقام إليه مع أبي حفص وأبي عبيدة وشدوا وثاقه إلى أحد الكراسي وصبوا الماء البارد على رأسه.. ثم حلقوا شعره بالموس، ولم يفده الصراخ حتى صار رأسه لامعاً مثلنا.. ففضل أن يمكث معنا في المغارة.
سبب الطفلان إزعاجاً لي، كانا كثيرا الشجار ليلاً ونهاراً، عبدالرحمن عصبي، وخالد خبير في إثارة المشاكل لأخيه. في تمرينات الرماية تفوق خالد بسرعة مدهشة، عبدالرحمن ما زال يغمض عينيه عند الضغط على الزناد إضافة إلى حاجته إلى شخص يسنده من الخلف حتى لا يسقط أرضاً أو أن يؤذيه ارتداد الكلاشنكوف. بالطبع لا يصيب الهدف ولكنه يتعارك دائماً مع الذي يسنده من الخلف لأنه هو الذي اهتز وأضاع منه الهدف. انتقلنا جميعاً إلى (ليجاه( لمقابلة مولوي جلال الدين هناك حتى نعلم منه ما هو الموقف الآن في المنطقة وماذا ينوي أن يفعل. وصلنا هناك وبدأت مشكلة الأولاد مرة أخرى، ليس بسبب أخطار الحرب ولكن لرغبتهما في المشاركة في الجهاد!! وتوَّقَد حماسهما عندما وصلنا قمة جبل مرتفع حيث مدفع (زيكوياك) مضاد للطائرات مع طاقمه. خالد مُصِرّ على أن يطلق عدة طلقات وأن يتعلم على المدفع.
وبالفعل سمحوا له بذلك لفرط فرحتهم بوصول الأطفال إليهم في ذلك المكان الخطير. عبدالرحمن أطلق هو الآخر من نفس المدفع، فلم يكن ليسمح أن يتفوق عليه أخاه الأكبر. تحركنا فوق الجبل ووقف أحد المجاهدين يشير لنا على مواقع العدو القريبة من حافة الوادي. طالبته بالاحتراس في حركته ولكنه ضحك وأشار بيده مستهيناً بالعدو واستمر في الشرح حتى وصلت قذيفة دبابة قريباً منّا. فاختطفت عبدالرحمن وأسرعت بالانحدار إلى الجانب الآخر من الجبل.
استمر القصف ونحن نتناوب حمل الغلام حتى وصلنا ونحن نعاني من خدوش في الأرجل، ولكن.. وذلك هو العجيب، كان عبدالرحمن في غاية السعادة لتلك المغامرة التي مازال يذكرها حتى اليوم. ولم يكن أخوه خالد أقل سعادة وهو الذي يطير فرحاً إذا حدث أي شيء غير عادي، إنزعج منه الآخرون.
حقاني يقول: لماذا لا تغلقون أنتم المطار؟
فوق جبال ليجاه وقت الضحى، جلسنا مع الشيخ جلال الدين فوق قمة أحد الجبال المشرفة على الوادي. كان شهر رمضان في أيامه الأولى. وحقاني في اجتماع مع قادته.
تركناه حتى يفرغ من محادثة رجاله وجلسنا نتناوب النظر إلى وادي خوست بمنظار مقرب كنت أمتلكه وكان فريداً من نوعه وقتها.
فالمناظير المقربة وأجهزة الاتصال اللاسلكي الصغيرة كانت قليلة جداً وسيئة النوعية. أحد المتبرعين أرسل منظاراً فلكياً!! وجدناه فوق الجبل، حاولنا استخدامه فوجدناه لا يصلح لشيء، أوْصَيْتُ بإرجاعه إلى الإمارات من حيث أتى. حلقت طائرة ضخمة تطير على ارتفاع منخفض فوق الوادي كي تهبط في مطار المدينة الذي لا نراه من موقعنا. ولم تلبث أن جاءت طائرة أخرى وهبطت، أصابتني الدهشة، كيف تستطيع الطائرات أن تهبط هكذا بحرية في المطار؟ سألت الشيخ حقاني هذا السؤال بعد ذلك بدقائق.
فقال بأن القوات الحكومية قد سيطرت على جبل تورغار منذ شتاء العام الماضي بهدف تأمين المطار من هاونات المجاهدين. فذكرت له أن الصواريخ الجديدة مداها كبير (9كيلومتر) ويمكنها إصابة المطار حتى لو كان تورغار مع الحكومة، وتساءلت لماذا إذن لا تغلقون المطار؟
وبمهارة فائقة رد الشيخ بجدية : ولماذا لا تغلقونه أنتم؟ لقد أثرت تلك الكلمة إلى حدٍ كبير في (مستقبلي العسكري!!) فى أفغانستان، ولم أدرك ساعتها عمق ذلك التأثير، فقط قبل نهاية الحرب فهمت إلى أي درجة كانت تلك الكلمة حساسة، وأن الأمر كان أكبر كثيرا مما تصورت.