
جهاد شعب مسلم: ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه (الحلقة الثالثة)
صارم محمود
كانت للأستاذ خليل وصيل سلسلة مقالات نشرت في أعدادٍ من مجلتنا الصمود الغراء بعنوان « جهاد شعب مسلم»، فهذه الحلقة من ذكرياتي عنوانها نفس عنوان مقالات الأستاذ وإن أردت قل، هي صلة لها، وتعليق عليها، إذ هي مقتطفات ومشاهدات من جهاد شعب مسلم أقامته المظالم والاعتداءات، ليعبس في وجه العدو الأمريكي الواغل الذي لم يرقب فيهم إلّا ولا ذمة، وليس حرب شرذمة قليلة تمولت، وغُذيت، واتخمت من جهات شرقية أو غربية لإثارة الفوضى والبلبلة في البلاد -كما يروج الإعلام الأفغاني المزوّر بين عشية وضحاها.
أجل، إنه جهاد، جهاد قامت نواته من أعماق الشعب، وارتفعت وربت في وجدانهم وأحاسيسهم، وسقيت وارتوت بدماء طلبتهم وعلمائهم الفاهمين طبيعة دينهم، العالمين مهمّتهم تجاه الوطن وأبناء الوطن، والمطّلعين على واقعهم الأليم الآسف المحتل المدنس.
إنه جهاد وليس إرهابا أو بلبلة ساقتها باكستان أو إيران أوِ الصين أو الروسيا ليكدر على الشعب الأفغاني صفوهم، وليشوش عليهم أمنهم، ولينهب منهم خيرات أرضهم، وذخائر بلادهم؛ بل جهاد شعبٍ قام وصرخ في وجه الأمريكان الغاشمين الذين قصفوا وما زالوا يقصفون على الناس بيوتهم الآهلة بالسكان دون أي رحمة بالساكنين العزل فيها، وولجوا على النساء الغافلات مضجعهن وما زالوا يلجونها ليليا ويلتقطون أزواجهن أو أبناءهن من أحضانهن ليتركوهن في دوامة الحزن وسكب الدموع إلى أن يأتوا بهم جثة هامدة في تابوت السجن أو يزج بهم خلف قضبانه إلى مدة لا تعرف مداها، وتمر السنون ولا تبلغ منتهاها.
جهاد انتهجه أبناء هؤلاء الشهداء الباردين تحت أنقاض البيوت المقصوفة، وأبناء هؤلاء الذين لقوا حتفهم في غياهب السجون وتحت سوط جلاديد العصر، وأبناء هؤلاء المحروقين في نيران البغي والظلم برغم فقرهم، وغربتهم، ويُتمهم، وخذلان القاصي والداني لهم.
جهاد تُمول وغُذي بكدّ يمين الشعب الفلّاح الفقير الكادح المجاهد، وعرق جبينهم الذي أسالته أشعة الشمس الحارقة في وسط الظهيرة حتى اشتد وغلظ وقام على سوقه يعجب الزراع ليغيظ الكفار وصحواتهم المرتزقة من بني جلدتنا الأفغان.
لا أنسى أبدا حينما انسحبنا من عملية فتح المحافظة الكبرى عاطشين، محطمين، مكدودين كيف فاجأنا الشعب المؤمن المجاهد المحتسب في الطريق بدايةً من الشيوخ الطاعنين في السن، مرتعشي الأيدي، المتهاوي البنية، ومرورا بالنساء والأطفال والغلمان ونهايةً إلى الشباب، المنتظرين عودتنا على كثبان القرى، وأعتاب البيوت، وأوعيات المياه بأيدهم، وسفر الخبز تحت إبطهم، بالاحتفال والترحيب، عادّين أنفسهم خداما للمجاهدين، مفتخرين بذلك الفضل العظيم.
ولا أنسى ذلك الشيخ الذي اشتعل رأسُه شيبًا، وقد كان واقفا بظل شجرة، وكان وعاء الماء بيده، والجالون بجنبه يسقي المجاهدين المارین من جنبه، فمررنا به قاصدا غرفة لم تكن تبعد عن هذا الشيخ الطاعن في السن سوى متيرات، فنادانا تعالوا يا أبنائي لأُسقيكم الماء، فقلنا له لا يا أبانا نذهب إلى غرفة فلاني، فتغير لونه، ولمحت آثار الحزن على ملامحه، وألحّ علينا قائلا اشربوا يا أبنائي من هذا الماء لأشاركم في أجر خدمة المجاهد إن ثبطني العجز والشيخوخة عن ثواب القتال المباشر. – الله أكبر..
هذا الشيخ نموذج من آبائنا الذين ثبّطتهم الشيخوخة والمرض من أن يأخذوا السلاح، ويقارعوا العدو المحتل وجها لوجه بل وقد رأينا والله من لم تكن في لحيته ولا رأسه شعرة سوداء، وقد نالت منه الشيخوخة قواه، وتركته يتحامل في المشي مع ذلك كان يشتبك مع الإخوة المجاهدين لم لايسمحون له ليخوض غمار المعركة مع أنه قدم غير واحد من أبنائه وأبناء أخيه شهداء.
ويحلو لي أن أردف لكم قصة آخذة أخرى من شيخ مجاهد مشلول القدم – لا أدري بالضبط كان الشلل إثر الإصابة أم كان لأجل أمر آخر- وقد عصى ابن الشيخ أميره، أم استغل جاهه في الإمارة وتذرع بشيء كان من اللازم أن لايفعله ما أدّى إلى خلعه من السلاح تعذيرا، فذهبنا مع البطل زيد للتجوال وتفقد أحوال الناس كسابق عادة زيد إذ لقينا هذا الشيخ على جنب دكان، فجلسنا في حضرة الشيخ، فبسط مائدة فؤاده، وتكلم عن جهاده في زمن الروس، وعن قصص رفاقه الشهداء، وعن لهفه للشهادة، فبكى وأجهش في البكاء حتى استغرق بكاءه أكثر من نصف ساعة فكان يحكي – مذرفا بالدمع القاني- عن الماضي ويتأسف لحاضره كيف يمكن أن ينال الشهادة وهو لا يُسمح له في الميدان، ولا يمكن له أن يفعل شيئا إن سمح له، لقد تكلم كثيرا وبكى أكثر فمن سوء حظي لم أكن أعلم البشتونية لأطلع عن حرقاته والتياعه أكثر من ذلك قد أخذتني آلامه، وأعلمتني مشاعره الملتاعة بأن الشهادة أثمن مما نظن، وأن الحرمان من الجهاد والشهادة حرمان من أكبر النعم وألذها.
ومما بقي من كلمات الشيخ في الذاكرة هي نفس ما يقوله أباؤنا عندما يرسلون أبناءهم إلى المدارس: نحن نعمل مع لحيتنا البيضاء، وبأيدينا المرتعشة، لتدرس مرتاح البال في المدرسة دون تكدر خاطر، ولا تشوش ذهن. وكان الشيخ يقول:مع عوزنا وفقرنا وحاجتنا إلى هذا الابن وعمله تركناه ليجاهد وليخدم المجاهدين فلعله ينال الشهادة ويسعد في الدارين إن حرمنا نحن من الشهادة بهذا الشلل.
فهذه القصص وعشرات أمثالها كلها دلائل ساطعة عن جهادية هذا الشعب كابر عن كابر وأبا عن جد وابنا عن أب وهذا الذي ذكرته لا يخص أبناء القرى والمديريات والمناطق الخاضعة للمجاهدين بل وحتى الساكنين في مركز المحافظات يقتتلون لخدمة المجاهدين ويقدمون لهم الغالي والرخيص، يحكي إخوتنا أنهم ذهبوا لينصبوا للعدو الكمين في ضاحية من ضواحي المحافظة فلم يأت العدو بعد ما مضت ساعات فنال من إخوتنا العطش والجوع فأجمعوا ليقضوا الظهر في قرية من قرى المحافظة فتلقوا من أهل القرية استقبالا قد حيرهم، وتركهم فاغري الفاه رغم دعايات العدو ووسائله الإعلامية المشوهة الفاعلة صباحا ومساء، وقال الإخوة قد خرقت من طول المشي نعالنا وتورمت على إثرها أقدامنا فألبسونا نعالا جديدة، مع أنهم أراقوا ببالغ الخدمة وذبح المعز، وتقديم شتى الوسائل عرق الوجه، فقال أخ: انتصب كهول من أهل القرية وخاطبنا لستم والله أجانب بل أنتم أبناءنا، وأفلاذ كبدنا بل الأجانب العملاء هؤلاء الذين يحاربونكم بجنب الأمريكان، ويقصفون البيوت الآمنة الآهلة بالسكان، والعملاء هؤلاء الذين يفحشون ويحبون أن تشيع الفاحشة في الناس.
يتبع….