
“جومل” في زمن الجهاد الجميل
بقلم: الاستاذ ابو الوليد المصري
■ عندما قاتلت الأرض والسماء مع المجاهدين في “جومل”.
■ الكلب الذي فرَّ من الخدمة في الجيش الأحمر وعمل مع المجاهدين.
أثناء تصفحي لأخبار “إمارة أفغانستان الإسلامية ” قرأت عن إصدار تقرير مرئي صادر عن القسم السمعي والمرئي في اللجنة الإعلامية، وكان عنوان الخبر: (فتح مديرية جومل) تقرير مرئي جديد لاستديو الإمارة الإسلامية.
حاولت مشاهدة التقرير فلم أستطع نتيجة لمشكلات فنية في شبكة الإنترنت عندي. فنادراً ما استطعت مشاهدة إنتاج ذلك القسم الإعلامي المتميز، ولكنني هذه المرة تمكنت من مشاهدة لقطات محدودة عن التدريبات العسكرية لشباب المجاهدين. كانت نوعية التدريبات متقدمه جداً، وملابس المتدربين مشابهة لملابس قوات الجيوش المتطورة.
لم أتمكن من مشاهدة تقرير الفيديو كاملاً، وبدلا عن ذلك عمل شريط الذكريات عندي بسرعة. فتذكرت أحداث الجهاد الأول في “جومل” وولاية باكتيكا عموماً، خاصة معركة (أورجون) التي تشرفت بحضور جزء منها تحت قيادة المجاهد الأسطوري مولوي جلال الدين حقاني. وكان قائدي المباشر هو مولوي “محمد حسن” الذي انقطعت عني أخباره منذ سنوات طويلة.
وجاورنا من الشرق مجموعة يقودها مولوي أحمد جول، الناسك المقدام رحمه الله، وهو أيضاً من الشخصيات النادرة التي غاب ذكرها تقريباً عن كتب التاريخ، رغم أنه في حد ذاته موسوعة تاريخية للجهاد مع تجربة عرفانية نادرة.
استغرقت المعركة عدة أشهر من صيف إلى شتاء عام 1983م، وقد كتبت عنها في كتابي المعنون (معارك البوابة الصخرية). فذكرت الكثير من التفاصيل التي عايشتها أثناء فترة وجودي هناك. وقد انتهت المعركة بتساقط الثلوج، والمجاهدون قد اقتحموا المدينة إلى منتصفها تقريباً، وبينما معاركهم تدور في شوارعها، وصلت فجأة قوات الإمداد السوفيتية إلى المدينة بعد أن فتح أمامها الطريق القائد (خالد فاروقي) التابع لحكمتيار، بعد “تفاهمات” مع الشيوعيين. وبصعوبة بالغة تفادى المجاهدون داخل المدينة الوقوع في حصار تلك القوات.
وبعدها عمل الطيران السوفيتي بضراوة بالغة ضد المجاهدين. وقد صف لنا فيما بعد مولوي جلال الدين حقاني قدرة المناورة لدى الطيران السوفيتي الجديد. ولم نكد نصدق أن تلك الإمكانات موجوده بالفعل، حتى تكررت بعد ذلك في معركة جاور عام 1986م ثم معركة في جلال آباد عام 1989م. وفي كل حالة كان للطيران السوفيتي وقدراته الحديثة دوراً في هزيمة المجاهدين، ولكنه لم يكن دوراً حاسماً على الإطلاق، بل في كل مرة كان للخيانة الدور الأبرز، سواء في ميدان القتال أو في بيشاور ـ مقر قيادات الأحزاب الجهادية ـ التي لم تدخر وسعاً في إفشال معارك المجاهدين الكبرى، وحتى في إفشال محاولات التنسيق فيما بينهم داخل الجبهة الواحدة، ناهيك عن العمل الموسع بين عدة محافظات داخل البلاد.
وفي ذلك الباب روايات لا تكاد تنتهي. ولا أنسى منها خيانة “أمير الجهاد في أفغانستان” عبد الرسول سياف ودوره في شتاء عام 1988م في تسليم جبال “ستى كندو” المنيعة للقوات السوفيتية التي تقدمت من جرديز بغية فتح الطريق الجبلي الواصل إلى مدينة “خوست”. وقام له بالمهمة جنرال شيوعي يدعى (نظر محمد)، وكان ذو رتبة رفيعة في الجيش، جاء من كابول وعمل قائداً ميدانيا من طرف سياف في جبال ستى كندو تحديداً. ولأكثر من عام قام بعمل تخريبي واسع النطاق أدى في النهاية إلى تمكين قوات الجيش الأحمر من ركوب تلك الجبال والتحكم في بداية الطريق الواصل إلى خوست. في تلك المعركة أصيب مولوي حقاني إصابة بالغة في ركبته، نقل على أثرها إلى الخطوط الخلفية للمجاهدين في منطقة “نقا ” في ولاية باكتيكا.
شريط الذكريات في (أورجون) عاصمة ولاية باكتيكا في ذلك الوقت لا يكاد ينتهي. ومن معركتها عام 1983م بدأت معركتي مع “سياف” زعيم الفساد في بيشاور، ولها فصول طويلة.
■ لا أدرى كيف إرتبطت صورة الشاب المجاهد ذو القناع الأسود، الذي رأيته في شريط الفيديو الصادرعن الإمارة وهو يحمل معداته الحديثة ويعبر بها الموانع مستخدماً الحبال، بصورة ذلك المجاهد الجبلي الذي شاهدته في بدايات الجهاد في جبال باكتيا وباكتيكا، وهو يحمل “المواريث الجهادية” لأجداده في قتالهم ضد غزو الجيش البريطاني.
ذلك الموروث التقليدي كان عبارة عن البندقية البريطانية قديمة الطراز ـ وهي غالبا من غنائم الحملة البريطانية الأخيرة على أفغانستان عام 1919م ـ مع حزام الذخيرة المعلق بكتفه، وتلمع فيه الطلقات النحاسية المصقولة التي اشتراها مؤخراً من أحد الأسواق القبلية على الحدود.
ثم ذلك الخنجر القبلي القديم ذو النصل الرباعي الشفرات والحافة المدببة الحادة، والذي يحرص على غمسه في جسد جنود العدو ثم يحتفظ به كما هو في جرابه مع بقيا الدم الأسود المتكلس على النصل من دماء الإنجليز ثم السوفييت.
تأملت ذلك الشوط الكبير من التطور. ذلك الشاب المقنَّع والمحمَّل بالأسلحة الحديثة، والمقاتل ضمن “مجموعات الكوماندوز” للمجاهدين، والتي صرخ منها العدو رعباً في الكثير من المواضع التي كان من أهمها اقتحام قاعد “باستون” عام 2012م في صحراء هلمند، وكانت أقوى قاعدة لحلف الناتو خارج أوروبا، وقد سيطر عليها هؤلاء الشباب وأوقعوا بها دماراً يفوق الوصف حتى أنه ألجم ألسنة الغربيين الذين تصدّوا بالتحليل لتلك المعركة.
ذلك الشاب (مقاتل الكوماندوز الجهادي) هو حفيد ذلك المقاتل الجبلي الفخور بتراثه القتالي، سواء من المعدات أو حتى في أساليب القتال. فما أبعد ذلك المشوار التطوري!
شريط طويل من الصور والأحداث والذكريات الجهادية القديمة عن مديرية “جومل” تحديداً، أو ولاية باكتيكا عموماً، مر بذاكرتي وأنا أقرأ من جديد إسم جومل هذه الأيام.
وتلك قصة كانت متداولة كثيراً بين (المجاهدين القدماء) في مناطق باكتيا وباكتيكا، وكانتا ولاية واحدة قبل الإنقلاب الشيوعي تحت مسمى باكتيا. حتى فتتها الحكم الشيوعي إدارياً في خدعة إنطلت على المجاهدين، إذ قسموا مجموعاتهم حسب التقسيم الإداري الجديد، وكأن العامل الإداري وليس الجغرافي هو الذي يملي تشكيل المجموعات. وقد قسم الأمريكيون ولاية باكتيا مرة أخرى إلى ولايتين، هما: خوست وباكتيا ـ ولا أدري إذا كان ذلك قد أثر على وحدة المجموعات القتالية كما في السابق أم لا. فلا شك أن المجاهدين قد أدركوا أن الوحدة الجغرافية وليس الإدارية هي التي تتشكل على أساسها المجموعات القتالية.
زمن القصة يعود إلى الأشهر الأولى للإنقلاب الشيوعي الذي وقع في إبريل 1978م. فبعد فترة “صدمة” قصيرة جداً أفاق مجاهدو الجبال على الواقع المرير، وتصدوا بأسلحتهم “التاريخية” للقوة العسكرية الشيوعية المزوّدة بأسلحه لم يشاهدوها من قبل. كانت أسلحة على الأرض وفي الجو، مرعبة الشكل مخيفة التأثير، ولها قدرات تفوق الخيال، حتى لا تكاد أسلحة المجاهدين تجدي نفعاً أمامها. فكان أملهم في المعارك هو الإشتباك مع جندي المشاة وهو مترجل أو وهو في مركبة غير مدرعة. وما سوى ذلك ليس إلا إهداراً لطلقاتهم القليلة جداً فيما لا جدوى منه.
سمع المجاهدون في “جومل” أن قوات معادية تحتشد في وادي زورمات ـ إلى الغرب من مدينة جرديزـ في طريقها إلى جومل، وأن معظمها عبارة عن دبابات ومصفحات، ومعها شاحنات تحوي مؤناً وجنوداً.
بالغريزة القتالية المرهفة، اختار المجاهدون موضعاً للكمين متفقين على إطلاق النار على الشاحنات، لعل وعسى، مع الدعاء والإبتهال إلى الله أن تحدث تأثيراً ما.
كان طريق القافلة ترابياً، ومعلقاً على سفح جبل على إرتفاع عدة أمتار من وادي يمر به جدول ماء وتملأه صخور صلدة مستديرة، لا تسمح بمرور المركبات بأي حال.
الأعشاب تحيط بمجرى الماء، وتملأ الوادي بكثافة متفاوتة وإرتفاعات مختلفة، وتليها مجموعة من الهضاب مثالية لنصب الكمائن. وخلف الهضاب جبال بعيدة نسبياً، معظمها يصلح كمراكز دائمة للمجاهدين.
أقصى تطور للمجاهدين وقتها كان زرع لغم أرضى مصنوع يدوياً، وهو عبارة عن عدة أصابع ديناميت، ومجموعة بطاريات جافة، والدائرة الكهربائية تغلق بواسطة قطعة مثنية من ورق الكرتون، وعند إنطباقها بمرور شيء فوقها يتلامس فيها سلكان نحاسيان متعامدان فيحدث الإنفجار. كانت تركيبة خطيرة على العدو والمجاهدين معاً، إذ يكفي أن يقف فوقها غراب حتى تنفجر. دفن المجاهدون لغمهم السري في مكان إختاروه بعناية في الطريق الترابي الذي تمر عليه القافلة، ثم وزعوا أنفسهم فوق الهضاب للتصويب على الجنود والشاحنات عندما ينفجر اللغم وتتوقف القافلة. كانت الخطة محكمة والإمكانات بسيطة للغاية، والقافلة ضخمة وقوية جداً ومليئه بالمدرعات والدبابات والجنود.
يمر الزمن بطيئاً في تلك البيئة الجميلة العاتية. الوقت كان خريفاً والهواء بارد والملابس خفيفة، والسماء تلبدت فجأة بالغيوم حتى استحال النهار ليلاً مظلماً، لذا لم تكن القافلة محمية بغطاء من طائرات الهيليكوبتر كما جرت العادة.
ظهرت القافلة بضجيجها المخيف، حتى صار الرتل في مقابل الكمين ولكن مقدمته لم تصل بعد إلى موضع اللغم المدفون الذي سيعطي إنفجاره إشارة بدء المعركة. وفجأة دوى إنفجار رهيب يصم الآذان سبقه وميض ساطع يعشى الأبصار.
تساءل المجاهدون فيما بينهم عن ماهية ما حدث، ولم يمتلك أحد الإجابة. نفس الدهشة أصابت الرتل المدرع المعلق في سفح الجبل. وظن من فيه أنهم توسطوا حقل ألغام أو تعرضوا لسيل من القذائف المضادة للدروع تستهدف آلياتهم، فقفزوا منها تاركين الطريق المعلق متدحرجين بأجسادهم صوب الوادي، فأطلق عليهم المجاهدون نيران بنادقهم على الفور.
حاول بعض سائقي الدبابات والمدرعات النزول بسرعة من الطريق إلى الوادي فتدهورت بهم حتى وصلت الوادي وهي رأساً على عقب.
كان ما حدث هو تفريغ كهربائي ضخم بين السحب المنخفضة، أدى إلى وميض برق ثم صوت رعد مزلزل. ولم تلبث السماء أن صبت أنهاراً من المياه ـ وليس قطرات من مطرـ وسرعان ما جاء السيل عنيفاً جارفاً كل مافي الوادي من جنود وآليات.
والطريق المعلق تحول إلى بركة ماء وطين فانهارت منه أجزاء. واستولى المجاهدون على كل محتويات القافلة، في واحدة من أكبر الغنائم في تاريخ جومل وأكثرها تأثيراً على مسيرة الجهاد في ولايتي باكتيكا وباكتيا.
■ القصة الثانية في “جومل” وربما في نفس المكان حدثت في عام 1982م، والبلد تحت الاحتلال السوفيتي، وقوات الاحتلال في “جومل” جرى تعزيزها. الطريق الترابي المعلق مازال كما هو، ولكن المجاهدين زرعوه بحقول كثيفة من الألغام سوفيتية الصنع من مختلف الأنواع والأحجام، لذا كانت التعزيزات الأرضيه قليلة وصعبة. في ذلك العام وصلت تحت الحراسة المشددة وحدة سوفيتية من سلاح المهندسين لنزع الألغام وفتح الطريق إلى مديرية “جومل”. وقفت القافلة قبل بدايه حقل الألغام، وتقدمت مجموعة من المهندسين ومعهم كلب ضخم مدرب على اكتشاف الألغام. قادهم الكلب إلى بداية الحقل وتوقف بينما انهمك الضباط في تفكيك الألغام.
كان بين الأعشاب في الوادي مجاهد يترصد ويراقب، مجتهداً في إخفاء نفسه بين الأعشاب وقد تغطى برداء (باتو). ولكن الكلب الضخم إكتشف وجوده، فانطلق مثل السهم حتى وصل إليه ووقف في مقابل رأسه وهو يلهث مركزاً نظراته الثاقبة على وجه المجاهد الذي أيقن بنهاية أجله. ظل الكلب صامتاً، فهمس إليه المجاهد بلطف أن يذهب بعيداً، ولكنه ظل مصمماً بكل هدؤ على الوقوف بتحدٍ فوق رأسه. الكلب صامت وصامد والمجاهد يحصي الثواني المتبقية على نهاية حياته. لاحظ الضباط غياب الكلب فأخذوا ينادون عليه، والكلب صامت وصامد لا يجيبهم بشيء، والجنود لم يكتشفوا مكانه بين أعشاب الوادي. وأخيراً قرر المجاهد القيام بحركة يائسة، فرمى (الباتو)على الكلب وسحبه إلى جانبه واختبأ الإثنان بصمت تحت الرداء وبين الأعشاب. إرتاب الجنود في غياب الكلب وخافوا من وقوعهم في كمين، فأسرعوا بالفرار بسيارتهم ومعداتهم.
حمل المجاهد الكلب معه ملفوفاً بالرداء (الباتو) وعاد إلى قاعدته سالماً، حيث عرض على إخوانه أسيره الجديد. فأغرق المجاهدون في الضحك، وصارت نادرة تسير بها الركبان ويتسامر بها الندمان. ولكن ما حدث بعد ذلك كان أعجب.
فالكلب الضخم قد تعلق بآسره. ولم يكن يتركه في ليل أو نهار. وصار يمشي خلفه حتى في أثناء العمليات بأنواعها. المجموعة كلها أحبت ذلك الكلب المخلص، والكلب تعلق بصاحبه كثيراً، متحملا المخاطر وشظف العيش إلى جانبه.
كانت المجوعة متمركزة في أطلال قرية على أطراف مدينة أورجون ومنها تنطلق للعمل في أماكن شتى. كان العدو يعلم أن القرية المهجورة ملغومة بالمجاهدين، فكان يقصفها حيناً بالطائرات، وأحياناً بالمدفعية قصفاً عشوائياً. ولكن في أحد نوبات القصف استشهد صاحبنا المجاهد ودفنه أصحابه في مقبرة القرية. فظل الكلب منتظراً صاحبه عند القبر أحياناً، وعند مركز المجموعة في ذلك البيت المهدم أحياناً أخرى.
غادرت المجموعة القرية، ولكن الكلب ظل هناك. جاءت مجموعات واستبدلتها مجموعات أخرى والكلب مواظب على عاداته القديمة وإنتظاره الدائم.
حتى مررت في ذلك العام 1983م بتلك القرية، ولاحظت كلاباً عديدة تنتقل ما بين أزقة القرية والمزارع التي حولها. ولكن ذلك الكلب الضخم ذو السلالة المميزة كان فريداً من هيئته، فسألت عنه زملائي في المجموعة. فقصّوا عليًّ قصته من بدايتها. فنظرت إليه وقد انصرفت عنه باقي الكلاب ذاهبة إلى المزارع القريبة، بينما دخل هو إلى أطلال البيت المهدم، عسى أن يجد صديقه القديم قد عاد من غيبته.
تلك كانت بعض صور جومل في زمن الجهاد الجميل، وما ظل من أمجادها عالقاً بحبل الذاكرة.