حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 43)
بقلم: مصطفى حامد (أبوالوليد المصري)
■ قال مولوي حقاني: إن الحرب في أفغانستان يديرها الله وحده، لا روسيا ولا أمريكا ولا نحن؛ فكلما دبر أحد أمرًا جاءت النتيجة على خلاف ما دبّر.
ثم قال: الأشخاص الخمسة عشر الذين اختارتهم الأمم المتحدة لاستلام الحكم في كابول، وصلتهم بدلات فخمة من أوروبا حتى يظهروا بمظهر الحكام، وصففوا شعورهم مثل الأوروبيين، ثم انتظروا مندوب الأمم المتحدة، حتى ينقلهم بالطائرة إلى كابول.
المعركة ضرورية
غادرنا خوست في طريقنا إلى جرديز، وهدفنا الذهاب إلى أبو الحارث في مركزه المتقدم في الخط الأول، ولم نكن قد زرناه هناك قبلاً.
على جانب الطريق في خوست، كان هناك اجتماعا كبيرا لقادة قبائل زدران مع مولوي نظام الدين (نائب حقاني). توقفنا للسلام عليه، فجاءنا مرحبًا بحرارة. سألناه عن الأخبار، فقال: إنّ “الحكومة ” في جرديز تماطل في التسليم؛ على أمل أن تنقذهم الأمم المتحدة، وأنه شخصيًا يرى حتمية المعركة؛ وطالبنا بالاستعداد، وفي حالة حدوث أي تغيير فإنه سوف يخطرنا كتابيًا. وقال إنّ حقاني سوف يحضر اليوم مفاوضات مباشرة مع قادة الميليشيات والجيش، ورسميين آخرين.
كنا فرحين بما سمعناه من الرجل فقد كنا نظن أن فكرة المعركة قد ألغيت، بينما كنا نظن أن المعركة ضرورية لأسباب عديدة منها:
ـ القضاء على الميليشيات الشيوعية التي سوف تنشط فيما بعد بالتعاون مع أمريكا. وأن القضاء عليهم في جرديز لن يترك لهم فرصة أخرى على اتساع البلاد.
(تلك الميليشيات تعتبر من الأذرعة الأساسية التي تعتمد عليها أمريكا في حكم أفغانستان بعد احتلالها في 2001م، خاصة ميليشيات دوستم، وميليشيات قندهار، وكلاهما كان من أعمدة الدفاع عن جرديز قبل استسلامها).
ـ اقتحام المدينة يكسب المجاهدين هيبة داخلية ودولية، تنهي المؤامرات في مرحلة مبكرة قبل أن تتفاقم على يد الأمم المتحدة التي نشطت في الداخل الأفغاني منذ سنوات.
– أثناء مرورنا على مضارب البدو في خوست، شاهدنا شباباً أفغاناً متأمركين يعملون في هيئة إغاثة دولية. كانوا يحاولون تقليد النجم الأمريكي الأسطوري رامبو. يلبسون كالعادة: قمصان ملونة وسراويل عسكرية مرقطة، وخناجر كبيرة في أحزمتهم، ويمشون منتفخين نافشين أذرعتهم من تأثير عضلات افتراضية تحت آباطهم.
إنهم المهاجرون الذين تعيد أمريكا تصديرهم مرة أخرى إلى أفغانستان كي يصنعوا مستقبلها المظلم تحت علم الأمم المتحدة.
– أخبَرَنا الشيخ نظام الدين أن طريق (ناراي) قد فتحت وأن خمسة سيارات قد عبرت الجبل في طريقها إلى زورمت، ولكن أول مئة متر صعبة والبلدوزر يفتح تحويلة جديدة للطريق.
ـ وصلنا مركز أبوالحارث وصلينا هناك المغرب في المغارة. وأرسلنا السيارة لإحضار أبو كنعان من مركز الترصد في الخط الأول.
ناقشنا الأوضاع مع أفراد المركز، والجميع يؤيد فكرة اقتحام المدينة بالقوة للقضاء على الميليشيات والقيادات الشيوعية هناك.
الأحد 19 إبريل 1992:
قضينا الليل في إحدى مغارات مركز أبوالحارث. الأمطار مستمرة طول الليل. حالة الطريق الذي جئنا منه فوق جبال “ستي كندو” أصبحت سيئة لكثرة الانهيارات الصخرية وانزلاقات التربة.
تحركنا بالسيارة لعبور “ستي كندو” لمقابلة الدكتور “نصرت الله” في مركزه على الجانب الآخر من الجبل، وكان يحتل شِعْباً طويلا مليئا بالمغارات. قبل أن نكمل الطريق شاهدنا موكبا من سيارات “البيك آب”، وحقاني يجلس في أحدها متخفيا ـ فرجعنا أدراجنا خلفه. كانت الانهيارات تغلق أجزاء من الطريق بكتل ضخمة من الصخور.
– جماعة حقاني كانوا قد أعدوا غرفة طينية صغيرة قبل ذروة الجبل بقليل، ويبدو أنها شهدت جزءًا من مفاوضات تسليم المدينة.
كان بها بخاري تشتعل به النيران. ازدحمنا حول حقاني وكان عديدون قد أحاطوا به. فتكلمنا نحن بحذر واستمعنا باهتمام لما يدور.
دار حديث ودي طويل عن العمليات القادمة ـ في حال نشوبها ـ قال حقاني: إن “طيرة ” أهم مكان في العمليات القادمة لقطع طريق الانسحاب على ميليشيات دوستم والقضاء عليها ومتابعتهم بعد ذلك في أرجاء البلاد.
الطريق الآن مغلق من طرف “محمد أغا” ـ في لوجرـ والمجاهدون استولوا اليوم على قاعدة شيندند في هيرات، وبذلك انتهت القواعد الجوية. (وكانت في باجرام وخواجه رواش/ في كابول، وفي مزار شريف، وشيندند).
لابد أن نعبر بقواتنا جرديز كي نصل إلى لوجر والوقوف على عتبة كابول وتنظيم أمور الحكومة القادمة بالمشورة مع القادة هناك.
وأضاف حقاني: الآن انتهت أسطورة الأمم المتحدة وباكستان وغيرها. إن الحرب في أفغانستان يديرها الله وحده، لا روسيا، ولا أمريكا، ولا نحن؛ فكلما دبر أحد أمرًا جاءت النتيجة على خلاف ما دبر. فمنذ أيام قليلة ماكان يظن أحد أن تجيء كل تلك الأحداث غير المتوقعة لصالح المجاهدين، بعد أن عم اليأس والحصار.
ثم قال: إن الأشخاص الخمسة عشر الذين اختارتهم الأمم المتحدة لاستلام الحكم في كابول، وصلتهم بدلات فخمة من أوروبا حتى يظهروا بمظهر الحكام، وصففوا شعورهم مثل الأوروبين، ثم انتظروا “سيفان”ـ مندوب الأمم المتحدة، حتى ينقلهم بطائرة من الأمم المتحدة إلى كابول. لكن “سيفان” الآن هو والرئيس نجيب مختبئان في أحد مكاتب الأمم المتحدة في كابول.
– ثم تكلم حقاني عن اختباء نجيب ومبعوث الأمم المتحدة في أحد مقار الهيئة الدولية في كابول.
تاريخيًا:
– (لقد ظل نجيب مختبئا هناك طول فترة حكم “المجاهدين” مجددي ثم رباني، حتى استولت الإمارة الإسلامية على العاصمة، فاقتحموا المكان وقتلوا نجيب وعلقوا جثته على أحد أعمدة الكهرباء في ميدان بالعاصمة).
وقد ثار”العالم الحر” على تلك الوحشية من الإمارة، ولم يتذكر أحد منهم وحشية نجيب وكم من عشرات الآلاف من الأفغان قتلهم وهو رئيس لجهاز الاستخبارات ثم وهو رئيس للدولة. ثم أي قداسة لمنظمة دولية تحمي قتلة من هذا النوع؟
كان “سيفان” وبالطبع رئيسه المباشر “بطرس غالي” الأمين العام للمنظمة الدولية ـ ونيابة عن الولايات المتحدة ـ حريصون غاية الحرص علي حياة الزعيم الشيوعي الذي ظلوا يحاربونه ويحاربون نظامه أكثر من عقد من الزمان ـ وفجأة وضعوه تحت الحماية الدولية وتمسكوا ببقائه رئيساً حتى يضعوا هم رئيسا من طرفهم على أفغانستان.
الأمم المتحدة الحريصة على حياة الزعيم الشيوعي الأفغاني أشرفت على مجازر جماعية نادرة المثال في تاريخ البشرية. وفي عهد بطرس غالي قتل مليوني أفريقي في مذابح عرقية في أفريقيا بين “رواند” و”بروندي”.. وذبح عشرات الألوف من المسلمين في البوسنة والهرسك تحت الإشراف المباشر بل وبأيدي القوت الدولية أحيانا. والمشرف على كل ذلك هو بطرس غالي ومساعده للعمليات الخارجية للأمم المتحدة المدعو “كوفي عنان” ـ الذي كوفئ على براعته في إدارة المجازر الجماعية بتعيينه سكرتيرا عاما للأمم المتحدة، خلفا لأستاذه بطرس غالي.
غـلول تحت المطـر
الإثنين 20 إبريل 1992:
قضينا ليلة أخرى في مركز أبو الحارث. المطر ينهمر طول الليل فزادت حالة الطرقات سوءًا وبدأ الثلج يتساقط صباحًا. كان لذلك وجها إيجابيا، إذ أنه جعل الأمور صعبة أمام “قوافل الغلول”. كان منظرهم غريبًا لدرجة يصعب تصورها.
لقد جاءت تلك القوافل من كل فج عميق وبكل وسائل النقل الممكنة، شاحنات كبيرة وصغيرة، وجرارات زراعية ودراجات بخارية و.. سيرا على الأقدام. القافلة مكونة من مئات الأشخاص من كل الفئات العمرية، ولولا حالة الطقس البارد الممطر، والطرق المدمرة لوصلت أعدادهم إلى الآلاف.
كل هذا معقول(!!) ولكن غير المعقول هو المكان الذي يحتشد فيه هؤلاء. كان يبدأ من أسفل جبال “ستي كندو” مباشرة، وعلى امتداد الطريق الأسفلتي الذي يصل بعد كيلومترات قليلة إلى خطوط دفاع العدو الأولي.
على كل هذا الطريق امتدّت صفوفهم، مارين بمركز أبو الحارث، على ميمنتهم. ومراكز المجاهدين يمين وشمال الطريق. أسميت تلك المنطقة الممتدة بين براثن الموت اسم “غلول ستان”، وأعمار سكانها ما بين العاشره وحتى التسعين.
– وصلتنا أول الأخبار عن مفاوضات حقاني مع حكومة جرديز حول التسليم. وفي مركز خليل أخبرنا “نصرت الله” أن معظم مسؤولي جرديز وافقوا على التسليم باستثاء مجموعة صغيرة من ميليشيات دوستم المسماة “جليم جم”. وتوقع “نصرت الله” ألا يحدث قتال على الإطلاق، فسوف يستسلم العدو.
فسألناه عما إذا لم يستسلم العدو فكيف ستسير الأمور؟ فقال: سوف نتقدم سيرا على الطريق العام، بدون خشية من القوات؛ فقد رتّبنا معهم، لذا لن يكون هناك داعي لبرنامج “طيرة”، ولكن ابقوا هناك.. فربما!!
شعرنا بالحزن ـ حمدنا الله على ذلك الفتح السهل ـ ولكن حزننا كان شديدًا على ضياع فرصة الجهاد في ذلك المكان الرائع “طيرة” الذي ملأ مخيلتنا. كنت وكنعان الأشد حزنا. وجدت وجهه شاحبًا وهو يردد “اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها” فرددت معه الدعاء.
– المطر مازال مستمرًا والطرق سيئة للغاية ـ ولكن قررنا الذهاب إلى خوست لنطلب من الشباب التوقّف عن شحن أي شيء إلى الجبهة والبقاء على استعداد لأي طارئ.
لم نستطيع الوصول إلى خوست بسبب الماء المتدفق من الوديان، والذي قطع الطريق في أكثر من مكان.
ليس لدينا شيء نفعله حتى تصدر قرارات مجلس شورى كومندانات باكتيا الذي سينعقد غدًا لتنظيم الدخول إلى المدينة، ومواجهة الأهالي والقبائل وجيوش الغلول. سنرى لاحقًا أن قرارات المجلس لم تصل إلى أصحاب الشأن.
كنت قلقا للغاية وصارحت إخواني من أن ما قاله د.نصرت يثير القلق، فماذا لو تقدم المجاهدون على الطريق العام، ثم فجأة فتحت عليهم القوات نيرانها من الجانبين، وطحنتهم الدبابات؟ ألا تكون نكسة مدوية في وقت حرج، أصغر الأحداث فيه تؤثر بشدة على مجريات الأمور؟
الثلاثاء 21 إبريل 1992:
في قلعة ” تخته بك” في خوست، ناقشنا الوضع الراهن مع مولوي نظام الدين في غرفته. كان غاضبًا من المفاوضات وقال: إنهم يماطلون ولن يسلموا.
ولكن المعركة ينبغي ألا تبدأ سريعًا، ولا بأس من الانتظار لأيام. فقلت له: أخشى إن تعجلنا كما يقول نصرت الله وتقدّمنا من الطريق العام أن تقع بنا كارثة تنعش آمال الشيوعيين. فالحرب استمرّت 14 عامًا ولابأس إن إستمرت 14 يوما أخرى، نجهز فيها أنفسنا بشكل جيد فوافقني الرأي.
الجوّ سيئٌ والمطر شديدٌ، ولكن مولوي نظام الدين يتجهز كي يغادر فورًا إلى جرديز تحت إصرار حقاني الذي يطلب حضوره اجتماع قيادات باكتيا لتنظيم عملية دخول المدينة.
كان الوقت عصرًا فقلت للرجل: إننا سنتبعه الآن إلى جرديز، فطلب منا بعطف أن نبقى في أماكننا إلى الصباح، ثم نتحرك لأنّ الجوّ سيئ. فأطعنا طلبه ـ وتمنيت فيما بعد لو أننا لم نفعل، لأنه أضاع علينا فرصة دخول مدينة جرديز مع الفوج الأول من الفاتحين.
ودخـلنا جـرديـز
الأربعاء 22 إبريل 1992:
دخل المجاهدون جرديز هذا اليوم. وصلناها في الواحدة ظهرًا، وفي الطريق كنّا نسمع أخبارًا متناقضة، ولكن ما إن وصلنا إلى مشارف جبال ستي كندو حتى تأكد الخبر، فالمراكز كانت خالية، فتأكد لنا أن الجميع أصبحوا في المدينة. من الجبل إلى أسفل، جهة جرديز، قوافل الغلول كانت قليلة جدا، فالقدماء “اقتحموا المدينة ” والجدد يجدون السير كي يلحقوا بالقافلة.
كل شيء هادئ تمامًا. عبرنا جميع خطوط المجاهدين العرب، جماعة أبوالحارث، والأفغان، جماعة حقاني، لا يكاد يوجد أحد.
خطوط العدو جميعها خالية ماعدا جبل “جوجاري”، فالعدو مازال هناك بكامل أسلحته، والجنود ينزلون من الجبل كالمعتاد لإحضار المؤن ولا يتعرض لهم أحد.
أعجبني كثيرًا ما سمعته عن الضابط المسؤول عن هذا الجبل، عندما دخل المجاهدون المدينة؛ صعدوا إليه يطالبونه بتسليم الموقع، فرفض وقال: إنه لن يفعل حتى يستلم أمرًا رسميًا من قيادته، ولكنّه لن يتعرض للمجاهدين في حركتهم على الطريق الرئيسي المارّ من أمامه. أعجبني كثيرًا شجاعته وانضباطه العسكري وحفاظه على مسؤولياته وموقعه وجنوده. إنه بالفعل ضابط يستحق التكريم.
كان لي ذكريات قديمة مع هذا الجبل “جوجاري”، في عام 1981. ثلاث طائرات سوفيتية من طراز ميج 23، بدلا أن تقصف موقعنا فوق جبل “خدي يابا” قصفت مواقع العدو على جبل “جوجاري”. فكانت تلك أول كرامة أشاهدها في جرديز. والآن في عام 1992، أشاهد الكرامة الكبرى: استسلام جرديز وتهاوي النظام الشيوعي في كابول. كل شيء في المدينة هادئ بشكل عجيب، والتحركات عادية بلا هرج أو مرج.
شاحنات وسيارات تنقل غنائم: أسلحة ومكاتب وأثاث وأبواب.. وكل شيء. لكن بنظام وهدوء أعصاب عجيب، كأنهم قد تدربوا على هذا العمل طول حياتهم.
عند الجسر الذي دخلنا منه إلى المدينة، هناك مصفحة جديدة لامعة كأنها خرجت من المصنع توًا، غارقة على حافة النهر، عجبت لمن أحضرها إلى هذا المكان الذي لا يفيد في شيء، هل نزل أسفل الجسر ليحميه من التخريب؟ أم أراد إغراق تلك القطعة الرائعة حتى لا تقع في أيدي أعدائه؟
الشارع الرئيسي للمدينة متسع نسبيا ومتسخ بالطين ومياه الأمطار. المباني الحكومية ضخمة وقديمة، وقيصرية الطراز. شعرت أنني أسير في موسكو القرن السابع عشر. كئيبة وقديمة ومقبضة، لها فخامة متهالكة تدعو إلى الرثاء.
أكثر ما يجذب النظر هو قلعة المدينة الضخمة، والمبنية فوق هضبة فريدة من نوعها في مدينة منبسطة خالية من التلال. والقلعة مهيبة ومنيعة، تتحدى فرسان العصور الوسطى. شامخة كأنها تنتظر هجومًا يشنه الفرسان المدعومين بأحجار المنجنيق. إنها قطعة من هيبة التاريخ وعبق الماضي.
الخميس 23 إبريل 1992:
أذَّن الفجر فانتفضنا فرحين. لقد طلع النّهار بعد طول انتظار ومعاناة. خرجنا من ذلك المخزن البشري الذي قضينا فيه ليلتنا المتجمدة، كي نبحث عن “ماء مثلج” للوضوء في ذلك الصباح الجليدي، داخل المجاري المائية للحقول المحيطة بنا.
مرة أخرى لاشيء للأكل أو الشرب، علينا أن نسعى هذا الصباح بحثا عن الرزق وعن الأخبار أيضًا. علينا أن نبحث عن مولوي حقاني الذي عثرنا على مركزه الجديد. إنه الموقع الأساسي للقوات الحكومية من جهة الغرب في مقابل زورمت. وكان يدعى “مركز الدبابات”.
دخلناه فإذا هو هضبة قليلة الارتفاع، غنية بالخنادق المسقوفة والمغارات الصغيرة التي تستخدم كغرف إيواء. كان يتميز بالتحصينات الكثيرة ولكنه مزدحم للغاية، ولو أنه تعرض لقصف؛ فحتما ستكون الضحايا كثيرة. لكنه كان سعيد الحظ إذ جاء في مواجهة زورمت التي يغلب عليها طابع الميليشيات القروية المسالمة معظم الوقت.
ولحسن حظهم أيضًا أن نائب القائد العام في جرديز (نبي خان) هو أيضا من زورمت، ورتبته في الجيش الأفغاني (تورن جنرال). وقد قابلناه في الموقع وكان عدوانيًا. وعندما علم أننا عرب كادت أن تحرقنا نظراته، ولولا أنه في حكم الأسير لأطلق علينا النار.
وأظننا كنا سنفعل نفس الشيء، فقد بادلناه الكراهية بشكل فوري ومن أول نظرة. فضلتُ أن أسحب الشباب بسرعة بعيدا عنه.
ومن زورمت ظهر قادة كبار من مؤسسي النظام الشيوعي في أفغانستان ومن أشهرهم الجنرالان: عبد القادر، وأسلم وطن جار. وهما دعائم الانقلاب الشيوعي الأول عام 1978.
ولا شك أن نبي خان كان له رجال في زورمت، ساعدوه على استقرارها، بحيث لم تشكل خطرًا على جرديز إلا نادرًا.
ـ كان قائد القوة العسكرية في جرديز يدعى (إمام الدين). وهو من منطقة جاجي في باكتيا.
لم تتح لنا فرصة رؤية إمام الدين، الذي كان بطلا في عمليات التفاوض، وكسب بمهارته مكاسب لمعسكره لم يكن يحلم بها. وأضاع على جماعتنا وقتا ثمينًا لا يقدر بثمن، وغنائم كانوا يستحقونها، سلمها إلى أسوأ العناصر على الإطلاق.
أظنه كان جنرالا حقيقيا، يستحق الرتبة التي يحملها.
هكذا تمّ الاقتحام
أضاف لنا حقاني أبعادًا أخرى لموضوع التسليم.. فقال:
قدمنا للجنرالات شروط التسليم فوافقوا عليها مبدئيا، وقالوا سندرسها ونرد عليها بعد يومين بعد المشاورات. (لاحظ هنا المماطلة لكسب الوقت).
يضيف حقاني إنّ الجنرالات مهدوا لاستسلام المدينة باستبعادهم ميليشيات “جليم جم” الذين عارضوا التسليم. فنقلوهم من الخط الأول إلى وسط المدينة ثم إلى خارج المدينة، حيث تفلتوا منها وخرجوا بدون أوامر.
(يبدو أن هؤلاء الميليشيات كانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، كانوا خائفين من حقاني بعد حروبهم المريرة معه في خوست ثم في جرديز، ففضلوا الفرار من وجهه. ويبدوا أنهم لم يكونوا يعلمون باستسلام لوجر، فدخلوها وهم يحسبون أنها حكومية، وكان بصحبتهم راجمات صواريخ ثقيلة وشاحنات، فأوقفهم المجاهدون طالبين ما بأيديهم من معدات فرفضوا، فدارت معركة قتلوا فيها جميعًا واحترقت كل المعدات التي كانت معهم. وقد رأينا آثار تلك المعركة وسمعنا أخبارها بعد وقت قصير من فتح جرديز. وكان موقع المعركة في منطقة “تنجي” أي المضيق حيث يلاصق الجبل الطريق العام بعد مدينة كلنجار).
يقول حقاني:
قبل ان يدرس الجنرالات الشروط دخل الناس المدينة فجأة. (قال الناس ولم يقل المجاهدون. وهذا يؤكد أسبقية قوافل الغلول).
فنزلنا وسيطرنا على أهم القطاعات العسكرية، ونزلت الأحزاب وسيطر كل حزب على شيء بدون قتال من جانب الجيش أو من جانب الآخرين. أما (الناس) فنزلوا لنهب الدكاكين لأنهم لم يصلوا إلى شيء من مخازن السلاح.
قال حقاني: إن العدو كان قويًا جدًا، ولكن الله نصرنا عليه بلا معركة، بعد أن قطع الناس عنا كل شيء.