حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 50)
تحرير جبل السراج.. والتقدم المستحيل في سالانج
أ. مصطفى حامد (أبوالوليد المصري)
■ كان مولوي حقاني متوجساً من التدخل الأجنبي في أفغانستان، ويخشى من تزايد تدخل الدول، أو حتى حرب تأتي من الخارج ضد أفغانستان.
■ ما إن قابلنا قائد المنطقة وشرحنا له الهدف من وجودنا، حتى تَرَبَدْ وجهه، وكان على وشك الانفجار غضباً. وتقلصت ملامح الحاضرين في ذلك التجمع المسلح والخطير. توجست شراً من هذا اللقاء الملغوم.
■ بقدوم حاجي إبراهيم شقيق مولوي جلال الدين حقاني ساد نوع من الانفراج في جو الجلسة. ثم طردونا بطريقة دبلوماسية. وكنت أتوقع أسوأ من ذلك بكثير. فلم تكن حركة طالبان قد اشتهرت بالتعامل الدبلوماسي حتى ذلك الوقت.
■ لم يكن مولوي حقاني ينتظر إذناً حتى يتقدم لقتال دوستم في كابل، وهو الذي طالما قاتله في خوست خاصة في معارك الفتح الشهيرة (1991).
■ في الصباح أخبرنا أحد المجاهدين، أن قوات مولوي حقاني قد استولت على منطقة جبل السراج وتتقدم في ممر سالانج.
توقفت مجهوداتنا مع حزب النهضة الطاجيكي في منتصف صيف (1994). فبدأت أكتب عن حرب أفغانستان منذ أن حضرتها عام (1979).
استسلم حزب النهضة لمطالب حكومة رباني في كابل، وضغوط وتهديدات وزير الدفاع أحمد شاه مسعود، وغواية وتدليس عبد الرسول سياف صانع الحكومات والأنظمة وأمير (جهاد أفغانستان) خلال الفترة السوفيتية.
بدا أن أفغانستان لن تدعم مسلمي ما وراء النهر، لأن حكومة كابل تعمل مع الأمم المتحدة على (تطهير) المنطقة من آثار الجهاد، وإحباط معنويات المسلمين في آسيا الوسطى الذين توقعوا مداً إسلاميا يأتيهم من أفغانستان ليحررهم من الأنظمة التي خدمت السوفييت ثم تحولت بسرعة إلى خدمة الأمريكان بعد أن سقطت الكتلة السوفيتية.
على جانب عرب أفغانستان، كان تنظيم القاعدة يتهيأ لنقل باقي أفراده الذين تركهم في خوست، الذين اعتمدنا عليهم في تدريب المجاهدين الطاجيك والأوزبك وكان عدد هؤلاء المدربين عشرة فقط، هم كل ما تبقى من تنظيم القاعدة في أفغانستان.
كانت الأجواء حولنا محبطة للغاية. خاصة بعد أن توفي مولوي سرْوَرْ جان في حادث إطلاق نار في أحد أفراح القبائل، بطلقة نار صديقه حطمت عظام الحوض. لم تكن جاور تبعد عن معسكر (جهاد وال) غير حوالي خمسة عشر دقيقة بالسيارة، عبر طريق ملتوي وغير مُعَبَّد. وكانت جاور، بالنسبة لي على الأقل، تعيش في حِداد، فلم أحاول زيارتها لفترة طويلة.
مولوي جلال الدين حقاني كان مشغولاً للغاية في شؤون خوست. فهو محرر المدينة وأقدم مجاهد في كل باكتيا، وصاحب النفوذ الأول بين المجاهدين والقبائل. وكان يخشى من انفلات الأمن في المنطقة، حيث يعمل في جهاز الأمن خمسة عشر من طلاب العلم المجاهدين (طالبان) من أبناء المنطقة.
في البداية كان يسقط أسبوعيا قتيل واحد في المتوسط بسبب الثارات القبلية التي بدأت تستيقظ من النوم، مثل الفتنة الملعونة. معظم القتلى كانوا أغراباً عن المدينة. فكانت إدارة المدينة يضعون أجسادهم على منضدة إلى جانب المسجد الكبير، في انتظار أن يتعرف عليهم أحد ما. كان منظرا كئيباً باعثاً على الحزن، ومنذراً بانفجار يصعب معرفة توقيته أو مداه.
حقاني وجهاز أمن خوست الذي يترأسه أحد قدامى المجاهدين، اضطروا إلى منع حمل السلاح في سوق المدينة. وكانت الأسلحة تُسَلَم إلى قيادة أمن المدينة إلى حين خروج أصحابها من المدينة بعد أن ينجزوا أعمالهم.
انخفضت نتيجة لذلك عمليات الاغتيال إلى حد كبير. ومع ذلك كانت هناك مشاكل أخطر تنتظر مثل الجمر تحت الرماد، وكان أخطرها هو تلك المشكلات التاريخية مع حكومة باكستان بشأن الحدود.
قال لي حقاني يوماً أن الباكستانيين قد صعدوا إلى قمم الجبال العالية التي تمثل خط الحدود بين البلدين في تلك المنطقة (خط ديورند). وأن الاتفاق القديم كان يقضي بأن تظل تلك القمم خاليه لا يشغلها أحد من الطرفين، لأن الاتفاق بشأنها لم يكن مكتملا. ولكن ما إن انتهت الحرب حتى صعد الجيش الباكستاني إلى القمم وأقام مراكز عسكرية هناك. وكان حقاني يرى أن تلك المشكله لا بد أن تدخل فيها حكومة كابل المركزية وليست حكومة إقليم خوست فقط.
المشكلة أنه لا توجد حكومة حقيقية في كابل، ولا أحد يدري متى ولا كيف ستقام تلك الحكومة وعلى أي أساس.
لم يكن ذلك كل المصائب التي كانت تنهال من باكستان على خوست. فقد علمنا فيما بعد أن معظم الحدود مع باكستان عانت من مشاكل مماثلة، أو أصعب من ذلك بكثير.
حتى مخافر الحدود بين خوست وباكستان تجرأت على التقدم داخل الأراضي الأفغانية والاستيلاء على هضاب أو التلال أو حتى تخطي تلك المواضع والنزول إلى قرى قريبة ورفع أعلام باكستان عليها واحتلالها بقوات المليشيا وحرس الحدود. فوقعت بعض الاشتباكات المسلحة، فتراجعت المليشيات الباكستانية إلى الخلف حتى تهدأ الأمور، ولكنها لم تترك كل ما أخذته فاستولت على غنائم حرب من جيرانها الذين دافعوا بدمائهم عن “خط ديورند” حتى لا تعبره قوات الجيش الأحمر السوفيتي وقوات الشيوعيين.
حتى بازار خوست شهد هو الآخر غزوا باكستانياً من نوع ملتبس للغاية. فقد افتتحت عناصر من قبائل الجانب الباكستاني الكثير من المطاعم والمقاهي وبعض الفنادق الشعبية. وامتلأت تلك الأماكن بعناصر تذهب وتجيء بشكل مريب، وبدون تعارف قبلي كاف مع ذلك التيار القادم من باكستان بأموال كثيرة يستثمرها في سوق خوست الذي مازال يعاني من أثار الحرب. فقد دافعت عنه قوات عبد الرشيد دوستم الأوزبكية.
من أهم إنجازات مولوي حقاني في الفترة التي امتدت من تحرير خوست عام (1991) وحتى دخول حركة طالبان إلى المدينة عام(1995)، كانت المدرسة الدينية “منبع الجهاد” التي تسلم إدارتها “مولوي عبد الحليم”، المجاهد العريق من منطقة وزيرستان الباكستانية القبلية. وكان قد فقد ساقه أثناء هجوم على جبل تورغار عام (1990)، ومحاولته إنقاذ أحد المجاهدين العرب، ويدعى (أبو الدرداء) الحجازي، الذي استشهد بانفجار لغم بالقرب من قمة الجبل.
كان معهد “منبع الجهاد” هو امتداد لنفس المدرسة الموجودة في مدينة ميرانشاه الحدودية في باكستان، وتحمل نفس الاسم، وكانت مقرا إداريا ولوجستيا لرجال حقاني، ومدرسة دينية كبيرة تحتوي على تخصصات عديدة.
وكان حقاني يستكمل أيضا بناء الجامع الرئيسي الذي كان يقيمه على حافة سوق مدينة خوست بتبرعات معظمها قادم من أبوظبي والإمارات.
وقد دمرت الطائرات الأمريكية ذلك المسجد وقتلت فيه الكثيرين أثناء صلاة التراويح في شهر رمضان. وأصيب مولوي جلال الدين حقاني في ذلك الهجوم الجوي.
الفجر يشرق من جديد على أفغانستان
كان ظهور حركة طالبان بمثابة أمل يضيء نفوس شعب أفغانستان بعد اليأس الذي خيّم عليه بوصول حكومة مجددي ورباني في أبريل (1992). وهي الحكومة التي شكلتها السعودية وباكستان طبقا لموصفات أمريكية.
كنا نتابع أخبار حركة طالبان من خلال ما يصل إلى أصدقائنا في مدينة خوست. وكانت خوست بمجاهديها وجمهورها مؤيدون تماماً للحركة وسعداء بالانتصارات المتتابعة التي تحرزها ضد معارضيها. وعموماً فإن المعارضة للحركة كانت قليلة نسبياً لأن معظم القادة الميدانين كانوا يقفون إلى جانبها. وحتى المعارضون كانوا يتحرجون من القتال ضدهم أو إطلاق النيران عليهم قائلين: {لا نطلق النار على صدور تحفظ كتاب الله}.
ولكن العرب من أنصار حكمتيار كان لهم رأي مخالف، فقاتلوا ضد قوات الحركة أثناء عبورها ولاية (ميدان وَرْدَك) في طريقها نحو كابل. وقتلوا الكثير منهم، على غير ما توقع الطلبة. فتسبب ذلك في صدمة شديدة في نفوس شباب حركة طالبان ضد العرب. وعانينا من ذلك في مرات عديدة ومواقف مختلفة.
أكثر حركة طالبان تسامحوا مع جريمة العرب تلك، ولكن بعض طالبان، وقيادات من بينهم قادة كبار، لم ينسوا ذلك مطلقاً. وذلك شيء طبيعي في أفغانستان حيث من الصعب جدا بناء الثقة، بينما من السهل فقدانها.
كان مولوي حقاني من عوامل استعادة الثقة بين حركة طالبان والعرب المتبقين في أفغانستان. كما ساعد في ذلك أيضا مولوي (إحسان الله إحسان) رحمه الله، وهو قائد قوات طالبان التي وصلت إلى خوست حيث تَعَرَّفْنا عليه هناك وكان محبا كثيرا للعرب المجاهدين.
كان مولوي إحسان هو قائد أحد الحملات الثلاث التي وجهها قائد حركة طالبان “الملا محمد عمر” من قندهار لفتح باقي أفغانستان، وإيقاف الحروب بين الأحزاب والمليشيات، وإعادة الأمن وتحكيم الشريعة في نظام الحكم في أفغانستان. ولم يكن مطروحاً أن تحكم الحركة أفغانستان، بل كان في ذهنهم أن (يهتدي) قادة الأحزاب والمنظمات ويُحَكِّمون الشريعة فيما بينهم من خلافات، ويحكمون بها البلاد.
أزمات خطيرة تواجه زحف طالبان
ما واجهته حركة طالبان من صعاب حتى وصلت إلى الحكم في كابل في خريف عام (1996) فاق كل توقعاتنا حتى ذلك الوقت. كما لم يخطر في بالنا بأي حال أن تتعرض أفغانستان لحملة خارجية بعد الهزيمة التي لاقاها السوفييت وحرب استمرت حوالي عشر سنوات.
في أحد المرات كنت أناقش تلك المسألة مع مولوي جلال الدين حقاني ونحن جالسون في أحد مراكزه في مدينة خوست. وكان متوجسا من التدخل الأجنبي في أفغانستان ويخشى من تزايد تدخل الدول، أو حتى حرب تأتي من الخارج ضد أفغانستان.
كنت أستبعد ذلك الاحتمال كثيراً، وقلت له أن الهزيمة الشنيعة التي لقيها السوفييت في أفغانستان تشكل رادعا معنويا لأي دولة قد تفكر في غزو أفغانستان. وأن ذلك يعادل امتلاك أفغانستان لسلاح نووي رادع.
ولكنني غيرت وجهة نظري تماماً في أواخر عام (1996)، بعد عودة أسامة بن لادن وجزء من تنظيم القاعدة إلى أفغانستان، وما صاحب ذلك من مؤامرات أمريكية مباشرة ضد الإمارة الإسلامية التي كانت تحكم كابل وقتها تحت قيادة أمير المؤمنين ملا محمد عمر. كان واضحاً لي وقتها وبلا أدنى شك أن الحرب قادمة لا محالة.
تعرضت حركت طالبان لعدة أزمات حرجة أثناء زحفها، انطلاقاً من قندهار لفتح أفغانستان أمام الأمن والسلام وحكم الشريعة الإسلامية. تلك المآزق كانت:ـ
أولا: مأزق دموي مع عرب (حكمتيار) في محافظة ميدان وردك عام (1995).
ثانيا: مأزق مع الفساد والخبث السياسي في كابل، وقادة الأحزاب والمليشيات الحاكمين والمتحكمين في العاصمة. هؤلاء أوقعوا الحركة في أزمتان هما:
أ: أزمة مع حزب وحدت الشيعي.
ب: أزمة مع إيران. وصلت ذروتها بحادث اغتيال الدبلوماسيين الإيرانيين داخل قنصليتهم في (مزار شريف).
ثالثاً: مأزق حركة طالبان مع قبيلة زادران (قبيلة مولوي جلال الدين حقاني).
نستعرض سريعاً ملخص تلك المآزق الثلاث، التي أعتقد أن أخطرها كانت تلك الأزمة بين حركة طالبان وقبيلة زدران، التي كان من الممكن أن تتطور إلى أبعاد خطيرة، قادرة على تغيير مسيرة أفغانستان السياسية، على عكس المأزقين الآخرين اللذين كانا قابلين للتحطم أمام عزيمة طالبان.
مأزق عرب حكمتيار
هم من العرب الجدد الذين لم يحضروا الجهاد السابق، فيما عدا الآحاد منهم. عند بداية الحرب الأهلية عندما دخلت حكومة مجددي إلى كابل اعتمد حكمتيار على جماعة (أبو معاذ الخوستي) والتي كانت تسمى جماعة أبو الحارث سابقاً، ثم انضمت إليه جماعة أخرى تشكلت وانحلت بعد وقت قصير هي جماعة أبو روضة السوري.
عموما كان عرب حكمتيار من الجدد عديمي الخبرة بالقتال الميداني، وقد تخرجوا من أحد معسكرات العرب على أطراف خوست، لقنهم أشد الأحكام الفقهية تشدداً.
كان لهؤلاء الجدد مركزا في ولاية (ميدان وردك) تابع لحكمتيار، الذي كان يتمتع بدعم إعلامي قوي بين من تبقى من عرب في بيشاور. وهم من غير المغضوب عليهم ولا من بين المطلوبين أمنيا للولايات المتحدة وحلفائها العرب والباكستانيين.
حكمتيار وإعلامه الناطق بالعربية أقنعوا العرب بأنه هو المحرر المنتظر لدولة أفغانستان الإسلامية التي سيقيمها بجهاده العبقري. وأن حركة طالبان ليست إلا مؤامرة دولية مصممة للإطاحة به. وكالعادة صدَّق العرب الأغرار ما يقال لهم، وتحمسوا لقتل أي شخص أو جماعة يشير إليها حكمتيار. فقاوموا زحف طالبان القادم إلى ميدان وردك. وقتلوا الكثير من طالبان الذين توقعوا مرورا سهلا وربما ترحيباً من العرب المجاهدين.
كان تلك أول صدمة كبرى لحركة طالبان وأشد مقاومة يواجهونها منذ خروجهم من قندهار صوب كابل وصوب مدينتي جرديز و خوست.
مأزق قيادات وحكومة كابل
كان المأزق الثاني لحركة طالبان مع قيادات كابل وحكومتها التي أدارت الفساد وعصابات قطاع الطرق في طول البلاد وعرضها تحت إسم ورايات الأحزاب بمختلف مسمياتها سنية كانت أم شيعية. حكام كابل ورجالها الأقوياء تمكنوا من خداع حركة طالبان عندما لمسوا فيهم المثالية المفرطة لطلاب المدارس صغار السن حديثي التجربة، والمتحمسون بلا خبرة. فقام مجرمو كابل بخداعهم عدة مرات وتسببوا لهم في هزائم عسكرية مؤلمة وخسائر بشرية شديدة.
التفاصيل كثيرة جدا ولكن ما يعنينا هو النتيجة النهائية وهي التسبب في أزمتين خطيرتين لحركة طالبان، كلاهما مع الجانب الشيعي. الأولى مع حزب وحدت، والتي بلغت ذروتها في معركة دامية في منطقة (كارت سيه) في غرب كابل (1995). وأدت إلى قطيعة دائمة بين طالبان وحزب وحدت، وتسببت بشكل غير مباشر في مقتل الزعيم الشيعي عبد العلي مزاري في حادث تحطم طائرة هليكوبتر بالقرب من مدينة غزني غربي كابل.
ثم أزمة ثانية تسببت فيها قيادات كابل بشكل غير مباشر، وهو العداء المستحكم بين طالبان وإيران. ذلك العداء الذي وصل إلى أسوأ نقاطه بمقتل الطاقم الدبلوماسي الإيراني داخل قنصليتهم في مدينة مزار شريف عام (1997).
مأزق قبيلة زادران
كان مأزق حركة طالبان مع قبيلة زادران نتيجة سوء تفاهم حدث في مدينة جرديز بينهم وبين “حاجي إبراهيم” شقيق مولوي حقاني. فثارت قبيلة زدران تضامنناً مع حاجي إبراهيم، وقرروا منع قافلة طالبان من المرور على الطريق العام الواصل إلى مدينة خوست. وقررت القبيلة عقد شورى واسعة (جركا) لبحث مسألة السماح بمرور طالبان عبر أراضيهم أو منعهم من ذلك.
ورغم غضبه، فإن مولوي حقاني تدخل لتهدئة قادة القبيلة. وفي مجلس الجركا الذي عقد في خوست صدر قرار بالسماح لحركة طالبان بالعبور من أراضي قبيلة زادران وصولا إلى خوست.
وفي خوست ظهرت الشخصية النادرة لقائد حملة طالبان مولوي “إحسان الله إحسان” الذي ترك أثراً إيجابياً كبيراً وحاسماً لدى قبائل المنطقة. وفي تلك الفترة تعرفت عليه عن قرب، وكان ذلك أحد أهم المناسبات وأسعدها في حياتي.
عندما استولت حركة طالبان على كابل انشغلت بتأمين الحدود الإدارية للعاصمة وإقليمها المحيط وصولاً إلى مدخل ممر سالانج الإستراتيجي. وقد اكتفوا بالتمركز في قرية جبل السراج عند مدخله تماماً، رغم أن طلائع الاستطلاع أثبتوا أن الممر كان خاليا من القوات الحكومية وقوات وزير الدفاع أحمد شاه مسعود.
وفي الحقيقة إنهم حاولوا في البداية اتخاذ عدة مواقع على جانب الممر لحراسته. ولكن البرد والثلوج كان عقبة. وكذلك الكمائن الغادرة لأفراد قَدَّموا أنفسهم على أنهم من أبناء المنطقة المرحبين بطالبان. وعندما أطمأنت حراسات طالبان لهم انقضوا عليهم وقتلوهم غيلة. تكرر ذلك عدة مرات، فكان أحد الدوافع لتخلي طالبان عن حراسة الممر والاكتفاء بالتمركز في جبل قرية السراج عند مدخل الممر، مع اتخاذ مركز للحراسة فوق قمة الجبل الذى يعلوها مباشرة. والذي يعتبر مشرفا على المَدَقَّات الجبلية الواصلة إلى منطقة بنشير معقل أحمد شاه مسعود وزير الدفاع وأهم معارضي حركة طالبان.
خطأ حركة طالبان فيما يتعلق بممر سالانج الإستراتيجي كان يعود إلى جهلهم بالقتال في مناطق الجبال. حيث أن قيادتهم العليا قاتلوا ضد السوفييت في مناطق صحراوية.
رباني وحكومته على نهر جيحون
رباني وحكومته عندما فروا من كابل التي دخلها مجاهدو حركة طالبان في أكتوبر(1996)، واصلوا الهروب حتى إلى نهر جيحون، ووقفوا على الشاطئ منتظرين قوارب تأخذهم إلى الجانب الآخر من النهر، وصولا إلى طاجيكستان، التي كانت أهم سند سياسي لحكومتهم. وكان الروس يحتفظون فيها بفرقتين عسكريتين لحماية مصالحهم في ذلك البلد.
وصل الخبر إلى رباني وجماعته بأن طالبان لم يعبروا ممر سالانج، وبالتالي لن يواصلوا طريقهم إلى نهر جيحون. ويقال أن ضغط دولي قد وقع على حركة طالبان حتى لا تعبر ممر سالانج في ذلك الوقت ولا في أي وقت. ورافق ذلك تحذير حاسم، فتوقفت حركة طالبان عن المحاولة طول سنوات حكمها، ولكنها سلكت ممرات أخرى إلتفافية أوصلتها إلى شمال أفغانستان و شاطئ نهر جيحون.
مسعود عندما علم بتوقف حركة طالبان عن المطاردة، قرر أن يشن هجوماً معاكساً عليها في كابل. وابتدأ الهجوم من قرية جبل السراج. فاستولى على الموقع العسكري الذي فوق الجبل ثم هبط على القرية. وقد أخذت قوات طالبان على حين غرة، فبدأت بالفرار صوب كابل.
وتمددت قوات مسعود حتى أخذت معظم ولايتي بروان وكابيسا شمال كابل، وحيث توجد قاعدة باجرام الإستراتيجية. والأهم هو إمكانية عبور مدينتي تاجاب ونجراب والوصول إلى نهر كابل وعبوره من فوق سد(دورنتا)، ليضع قدمه على الطريق الواصل بين جلال آباد وكابل ويفصل ما بين المدينتين. ويكون على مسافة حوالي ساعتين من أهم المداخل البرية مع باكستان وهو مدخل “تورخم”. ويكون أيضا على مسافة نحو ساعة من قرية عرب خيل، حيث يسكن بن لادن وثلاثين من أتباعه وعدد من الأسر. وكانوا جميعا قد وصلوا في شهر مايو (1996)، أي قبل حوالي خمسة أشهر من فتح كابل.
دوستم يهدد قرية (عرب خيل)
دارت أحاديث بيني وبين أسامة بن لادن وكبار مساعديه حول ذلك الخطر الداهم، وإمكانية وصول دوستم إلى قرية عرب خيل، وأنه الآن يقاتل إلى جانب مسعود للسيطرة على مدينتي تاجاب ونجراب، وسينطلقان منهما إلى الطريق الدولي بين كابل وجلال آباد. وأنهم إن فعلوا ذلك فسوف يصل دوستم إلى قرية عرب خيل في خلال ساعة. ولن تكفي قوة العرب التي لا تزيد عن ثلاثين شخصا لرد قوات دستم الذي قاتلهم قتالا عنيفا وأوقع فيهم خسائر فادحة في المعارك (1989) حول جلال آباد. وبعض أماكن تلك المعارك يمكن مشاهدته بسهولة من قرية عرب خيل الحالية.
اقتنع بن لادن بفكرة أن يقاتل العرب ضد قوات دستم ومسعود في شمال كابل إلى جانب طالبان، بدلا من انتظار تلك القوات أن تأتي إليهم في قرية عرب خيل، حيث لن يكون هناك أي فرصة ناجحة لصده.
توجهتُ مع فريق من محاربي القاعدة القدماء. كان بينهم أمير الفتح بطل معارك جلال آباد (1989) ضد دوستم، والشاب التونسي أبو طارق أحد نجوم عمليات (المطار الجديد) أثناء فتح خوست. وصلنا إلى موقع قيادة طالبان في مناطق تاجاب و نجراب التي تجمع بين الجبال والأشجار في داخل أحد البيوت الريفية الكبيرة.
كان المكان مزدحما للغاية والجميع مشغولون في تلقي وتنفيذ الأوامر. وما أن قابلنا قائد المنطقة وشرحنا له الهدف من وجودنا، حتى تَرَبَدْ وجهه، وكان على وشك الإنفجار غضباً. وتكلم عن قتال العرب ضد طالبان أثناء مرورهم من محافظة (ميدان وردك). فتقلصت ملامح الحاضرين في ذلك التجمع المسلح والخطير.
توجست شراً من هذا اللقاء الملغوم. وفجأة جاء الفرج على غير انتظار بقدوم حاجي إبراهيم شقيق مولوي جلال الدين حقاني. فصافحنا بحرارة وقدمنا إلى القائد الغاضب بطريقة جعلت تقطيبات الغضب تزول من وجهه، وساد نوع من الإنفراج في جو الجلسة
ثم طردونا بطريقة دبلوماسية. وقد كنت أتوقع أسوأ من ذلك بكثير. فلم تكن حركة طالبان قد اشتهرت بالتعامل الدبلوماسي حتى ذلك الوقت.
مرة أخرى.. حقانى في مواجهة دوستم
لم يكن مولوي حقاني ينتظر أذناً من أحد حتى يتقدم بسرعة لقتال دستم في كابل، وهو الذي طالما قاتله في خوست خاصة في معارك الفتح الشهيرة (1991).
لقد كانت قوات دوستم ومسعود على بعد حوالي ساعة من مدينة كابل، وكانت ما تزال تطهر ولايتي (بروان وكبيسا) من مواقع طالبان، وتسلح أنصار مسعود في قرى المحافظتين ومناطقها الزراعية الكثيفة ومزارع العنب الواسعة والبيوت الريفية الضخمة الشبيهة بالقلاع.
إنها مناطق مثالية لحرب العصابات، ويصعب تطهيرها من مسلحين لهم اتصال جيد بأهالي المنطقة. وهذا ما كانت تفتقده حركة طالبان في ذلك الوقت.
بدأ جلال الدين حقاني في نقل أسرته إلى كابل، ومعه عدد من كبار مساعديه وعائلاتهم. وأخذ يسابق الزمن لاستكمال جهازه الإداري وحشد ما تبقى من قواته العسكرية ذات الخبرة.
وكان معظمهم قد غادر أفغانستان بحثاً عن الرزق في دول خارجية. وكان ذلك أكبر خسارة منّيت بها أفغانستان في تلك الحرب. أي هجرة الكوادر العسكرية وتفكيك مجموعاتها التي حققت الانتصارات واكتسبت الخبرات العالية.
اتخذ حقاني مجموعة منازل في وزير أكبر خان لإقامته وإقامة كبار مساعديه. ثم اتخذ من ثلاث بيوت في قرية “مراد بيك” مراكز عسكرية ومخازن للذخيرة وكانت تبعد عن كابل حوالي خمسة كيلو مترات تقريبا، وهي على بداية الطريق الواصل إلى محافظة بروان، ومنها إلى مدخل ممر(سالانج).
في ذلك الوقت كان مسعود و دوستم يستخدمان الطائرات لقصف أماكن في كابل من وقت إلى آخر. ولما اكتشفوا موقع حقاني في “مراد بيك” بدأوا في قصفه كلما تذكروا. ومن حسن الحظ أن الذخائر لم تنفجر لأن حقاني كان يوزعها أول بأول على رجاله في مواقع القتال المتقدمة.
في أحد المرات كنت في زيارة لمقر مولوي حقاني في مراد بيك قرب الظهيرة. ولكنني لم أجد غير عدد محدود من الحراس. وكان المكان هادئاً تماماً والمنطقة يعمها السكون لولا أن انقضت أحد الطائرات وأسقطت على البيت المجاور قنبلة ثقيلة، أطاحت بعدد من الغرف والجدران وخلعت الأبواب والنوافذ، فتحول البيت إلى هيكل يشبه الآثار التاريخية القديمة.
كانت قوات حقاني ومتطوعون من قبائل زدران يسيرون بشكل جيد في معاركهم ضد قوات دستم ومسعود. وكانت ملابسهم في الميدان هي نفس ملابسهم في الحياة العادية. بينما قوات دستم ترتدي ملابس عسكرية كانت تستخدمها في المعارك السوفيتية. وهي ملابس صفراء اللون محشوة بطبقة من القطن اثناء فصل الشتاء. أما قوات مسعود فكانوا يرتدون ثياب أهالي المنطقة. وأكثرهم كانوا من الفلاحين الذين وقع بعضهم أسيرا واستسلموا لقوات طالبان وجلال الدين حقاني. وقالوا أنهم يقاتلون في مقابل رواتب مجزية جداً.
ظل حقاني يتقدم في اتجاه ممر سالانج عبر الطريق الزراعي الذي يصل كابل مع ولايه بروان، ثم قرية جبل السراج على مدخل ممر سالانج. وهي قرية جميلة تستقبل المسافرين بمجموعة من المطاعم الريفية الأنيقة والشاعرية.
في الصباح أخبرنا أحد المجاهدين بعد شروق الشمس بقليل، أن قوات مولوي حقاني قد استولت على منطقة جبل السراج وتتقدم في ممر سالانج. كان معي وقتها البطلان أمير الفتح وأبو طارق التونسي رحمهما الله. وكان معي أيضا ابني الصغير (عبدالله) الذي عيَّن نفسه حارساً خاصاً لي.
توجهنا بسيارتنا إلى خارج كابل متجهين إلى جبل قرية سراج عبر طريق زراعي والقرى المزدحمة، ومدن قروية صغيرة لا تتميز عن القرية إلا ببعض المباني الحجرية.
بعد أن سألنا العديد من المجاهدين؛ استطعنا الوصول إلى مركز قيادة مولوي جلال الدين حقاني. وقالوا أن الذي يدير العمل هناك الآن هو شقيقه الحاج إبراهيم.
في مركزه وجدناه يدير زحاما هائلا من الناس، معظمهم من أهل المنطقة وعدد من قيادات المجاهدين من باكتيا، ومن ولايات أخرى، والجميع جاء يستفسر عن الأوضاع الجديدة بعد فرار قوات مسعود ودستم، وفشل عملية غزو كابل التي قاموا بها.
لم نستطع أن نتكلم مع الحاج إبراهيم في أي موضوع. وهو اعتذر لنا بشدة وكان ذلك واضحاً من الزحام في مركزه ومن تنوع القادمين والخارجين منه، ما بين مزارعين ومجاهدين و زوار ومستطلعين وجواسيس ومجهولين.
من أبرز المشاهد بعد خروجنا من مركز حاج إبراهيم هو تلك الجثث لرجال مليشيا دوستم (جلم جم) وهي ملقاة على جانب الطريق. وقيل لنا أن من تبقى من تلك القوات قد فروا إلى الجبال المكسوة بالثلج، هائمين على غير هدى، ليلاقوا حتفهم بينها.
أما قادة الغزو الكبار، وسمعت أن منهم مسعود ودوستم والجنرال فهيم، القائد الكبير لدى مسعود، قد فروا بطائرات الهليكوبتر إلى مكان ما في شمال أفغانستان.
أما أهم ما شاهدنا نحن في الطريق إلى مركز خليل هو سيارة دفع رباعي بيضاء كبيرة تحمل إشارات الأمم المتحدة. كانت عائدة إلى كابل بعد أن زارت المنطقة التي سقطت في يد المجاهدين وقيل إنهم نقلوا (رغبة دولية مشفوعة بتحذيرات وتهديدات للقادة العسكريين من حركة طالبان بأن لا يعبروا ممر سالانج إلى منفذه الآخر في ولاية بغلان).
وكان لتلك المعلومة، التي تأكدت منها على مراحل، أبلغ الأثر في مسيرة الأحداث في أفغانستان فيما جاء من أيام.