مقالات الأعداد السابقة

حقاني.. العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 31)

أ. مصطفى حامد (أبوالوليد المصري)

 

♦ العدو أنزل عددا من طائراته في المطار الجديد في الطرف الشمالي الشرقي من صحراء المدينة.

♦ المطار جديد قلب موازين العمل، ونقل ثقل العمليات جهة الشرق.

♦ قال حقاني: إن هناك أقاويل عن انقلاب جديد يجري تدبيره في كابل بإشراف دولي، ويشارك فيه حكمتيار بقوات يحشدها حول العاصمة، تكون نتيجته حكومة مشتركة بين قادة جهاديين وجنرالات شيوعيين.

♦ قال حقاني: إنه يحاول شراء دبابات جديدة، معروضة بسعر يتراوح بين خمسمائة إلى ثمانمائة ألف روبية باكستانية.

♦ سألت حقاني إن كان يوافق على أن يبيع دبابة أو أثنين من عنده للعرب، فضحك قائلا: (أنا لا أبيع بل أشتري).

♦ عن المنطقة الشرقية، قال حقاني: إنه سيرسل مجاهدين ومدافع إلى هناك وكذلك دبابة لضرب موقع المطار الجديد.

 

انتهت معالم نكسة معركة شيخ أمير، التي وقعت بسبب خيانة الأحزاب في اللحظة الحرجة من المعركة. واستغرق الأمر عدة أشهر حتى يعود العمل الجهادي في خوست إلى عافيتة القديمة. ومع تلك العودة عدتُ مرة أخرى ـ وبعد غيبة طويلة ـ إلى العمل ضد مطار خوست، عدوي القديم، المرافق لأحلى ذكرياتي في العمل القتالي في أفغانستان، وذكرى صديقي الشهيد عبد الرحمن، وصديقنا أبو حفص الذي شاركنا في تلك العمليات عام 85، ثم غادرنا عام 86 مغادرة نهائية، لينضم فيما بعد إلى تنظيم القاعدة، بل ويشارك في تأسيسه. وعند مناقشتي إياه حول إحياء العمل ضد مطار خوست بهدف إغلاقه لفتح الطرق أمام المجاهدين لإسقاط المدينة بعد شهر من إغلاق المطار، حسب تقدير مولوي حقاني، وعدني أبو حفص بدعم مشروع المطار بالذخائر وعدد من الكوادرالقاعدة.

 

نحو مشروع لإغلاق مطار خوست

بدأت مع بعض الكوادر الجُدُدْ في مشروع إغلاق المطار استطلاعا ميدانيا للموقف، وبرامج المجموعات الأخرى التي قد تتعاون معنا أو تعمل حولنا في نفس المناطق التي نختارها.

لم نجد شخصاً يمكننا الحديث معه في مركز خليل، ثم سألنا عن”د. نصرت الله” فلم نجده. سألنا عن القائد الكوتشي”جولاب”، في مركز منان فلم نجده. الجميع في ميرانشاه لتقديم التعازي إلى حقاني في وفاة والدته.

فكرنا أن نستغل ذلك التجمع في العثور عن حل ناجع لمشكلة المطار الجديد. فجميع المسؤولين هناك. بعد العصر ذهبنا لتقديم التعازي إلى الشيخ حقاني في مسجد المهاجرين في منطقة سكنه المقابلة للقلعة “مقر حكومة ميرانشاه”.

كان برفقته صديقنا الشيخ نصر الله منصور الذي استقبلني بحرارة. أخبرت حقاني أننا نريده في حديث هام، فوعدنا بلقاء بعد العشاء. صلينا المغرب في مضافة حقاني التي غصت بالمعزين، ثم بدأ تقديم طعام العشاء للجميع، وكانت مأدبة كريمة بما يتناسب مع مكانة صاحب البيت ومكانة ضيوفه. جلست إلى جانب مولوي نصر الله منصور وإلى جانبي أبو الحارث وأبو الشهيد القطري أمام السفرة الممتدة على طول الغرفة المتسعة وقد تراص الرجال على جانبيها.

ولم نكد نبدأ حتى جاء “علي جان” يستدعيني لمقابلة حقاني، فذهبت إليه مع زملائي في غرفته الخاصة باستقبال الضيوف الخاصين، وقابلنا مبتسماً ممازحاً وقال: هل أتيتم للأكل أم للحديث؟

فقلت له إننا قد تركنا الأكل رغم أنه شهي. بدأت الحديث مباشرة عن موضوع المطارالجديد وضرورة التصدي له بسرعة وتدمير المعدات بالمدفعية أو الدبابات، ثم انتقلت إلى الحديث عن “مشروع جولاب” على أساس أنه الحل النهائي لمشكلة المطارات، وعرضت عليه مشاركة العرب مع جولاب (شقيق الشهيد منان). وكان المشروع يقضي بأن يقوم مع رجاله من البدو بالاستيلاء على خط الدفاع الجبلي الأخير عن المدينة، عندها تصبح المدينة متاحة واستخدام المطار القديم أو الجديد شبه مستحيل).

عرضت على حقاني أن يقوم العرب بضرب دبابة العدو المقابلة لنا على خط التحصينات، وفتح ثغرات في حقل الألغام. ورد حقاني بالتالي:

– أن له ارتباط قوي بالداخل “أي عيون داخل المدينة” أفادوا بأن معدات دك المدرج غير موجودة في خوست، لذا لن يصلح المطار لطائرات النقل. فقط الطائرات الشراعية يمكنها استخدامه.

– إن هناك اتصالات سرية قائمة لتسليم خط الدفاع المواجه لنا وكذلك المطار، وقد تم دفع خمسة عشر مليون روبية باكستانية لمسئولين عسكريين في خوست لإتمام الصفقه. والمدفوع إليهم محل ثقه وقد تم تجربتهم سابقاً.

– بالنسبه لمشاركة العرب في مشروع جولاب، فهو موافق عليها، في حال الحاجة إلى المشروع، أي عند فشل اتفاق تسليم خط الدفاع والمطار. ولكنه لا يوافق على مشاركتهم في إزالة الألغام خوفاً على سلامتهم. أما تزويدهم بالدبابات، دبابة أو أكثر حسب طلبهم، فقد وافق حتى على إعطائهم الدبابات الخمسة التي لديه. وقال بأن السائقين عنده إما أنهم قتلوا أو جرحوا أو يهربون من المعارك. وأنه يسعى لإحضار المزيد من الدبابات، فعنده إثنتان في “سرانا” وقد أرسل بلدوزر إلى هناك كي يفتح لهما طريق. ويحاول شراء دبابات جديدة، فهناك عدد من الدبابات في قندهار، لا يدري كم عددها، معروضة بسعر يتراوح بين خمسمئة إلى ثمانمئة ألف روبية باكستانية.

وعندما سألته إن كان يوافق على أن يبيع دبابة أو أثنين من عنده للعرب، ضحك قائلا: “أنا لا أبيع بل أشتري”. وعن المنطقة الشرقية قال إنه سيرسل مجاهدين ومدافع إلى هناك وكذلك دبابة لضرب موقع المطار الجديد.

 

كانت تلك ردود حقاني وهي تحتاج الآن إلى تعليق: 

بالنسبه للمطار الجديد أعتقد أن حقاني قد وقع ضحية لخدعة من عميل مزدوج. فمعلومة أن المعدات اللازمة لدك المدرج غير موجودة في المدينة كانت كذباً متعمداً، أفاد كثيرا القوات الحكومية، فقد تراخى حقاني والمجاهدون في إبداء رده الفعل والتصدي فوراً لعمليات تجهيز المدرج.

وقد كسب العدو عدة أيام غاية الحساسية أضاعها المجاهدون في تراخي مطمئن، وقضاها العدو في عمل نشط دؤوب لأكثر من خمسة عشر ساعة يومياً تكدح فيها آلياته ذات اللون الأصفر التي كنا نراها بمناظير المراقبة وهي تروح وتجيء فوق المدرج الجديد وقد لفَّتْها سحب من الأتربة الكثيفة. ولم يتصد لها أحد، على أمل أن المدرج لن يصلح إلا للطائرات الشراعية !

ولقد كَلَفَت تلك الغلطة حقاني والمجاهدين أكثر من ستة أشهر من القتال الإضافي حتى اقتحموا المدينة. وكان من المتوقع حسب تقديرات حقاني أنها سوف تستسلم إذا أغلق المطار “القديم” لمدة شهر. وهذا هو السبب في قيامنا بمشروع المطار.

لقد كان تقدير حقاني صحيحاً ولكن العدو نجح في خداعه فأطال أمد القتال نصف عام آخر.

– أما عملية شراء خط الدفاع الأول للعدو، فقد كانت جدية، ولكن أخبارها تسربت إلى العدو، فأحبطها بتدخل عسكري عنيف استخدمت فيه المدفعية والطائرات. وحدثت معركة قتل فيها عدد من الجنود والضباط. حدث ذلك بعد انتهاء مشروعنا وتفكيك مراكزنا. أما عن مشاركة العرب، فإن مشروع جولاب فقد أُلغي بحكم التطورات المذكورة، وحتى لو أنه استمر فإن تصرفات العرب أوضحت أنهم لم يكونوا جادين في عروض المشاركة. وحتى تاريخ انتهاء مشروعنا في الحادي عشر من سبتمبر 1990 لم يتخذ العرب أي خطوة عملية أو حتى قرار نهائي بالنسبة لمشاركتهم في معارك خوست. أقصد بالعرب تنظيم القاعدة والجماعات الأخرى، سوى جماعة أبو الحارث.

 

ليالي مع المطار: 

نعود إلى المذكرات التي كنت أدوِّنُها. وفيما يلي الحديث عن ليلة إغلاق المطار”القديم” في أحد ليالي الأسبوع الأخير من المشروع. حيث يمتنع العدو عن استخدام المطار نهارا خوفا من مدفعية وصواريخ المجاهدين. كنت أبدأ الكتابة بتلخيص نتائج عملنا في الليل، ثم أذكر تفاصيل أحداث النهار التالي.

في الملاحظات نجد اصطلاح “ليلة الإغلاق” وهي الليلة التي لم يتمكن فيها العدو من استخدام المطار بسبب الرمايات الصاروخية من طرف راجماتنا وراجمات منضمة معنا في نفس البرامج. أو أن الظروف الجوية، خاصة الأمطار، لم تسمح للعدو باستخدام المطار. مع العلم أن المدرج كان ترابيا.

وفي الملاحظات اصطلاح “ليلة اشتباك” هي الليلة التي تدَخَلنا فيها بالرمايات لمنع العدو من استخدام المطار عندما سمحت له الأحوال الجوية بذلك. لهذا يظهر عدد “ليالي الإغلاق” أكبر من رقم “ليالي الاشتباك”. أما الملاحظة المكتوبة عن “نتائج عمليات الهبوط” فهي تبين مدى نجاح أو فشل عملنا في تلك الليلة، إذ المفروض ألا نجعل العدو يفرغ طائراته.

الملاحظات عن ليلة (6 سبتمبر 1990) كانت أسوأ نتائج حصلنا عليها في المشروع؛ بسبب نفاذ الذخائر لدينا أثناء الاشتباك. كانت عملية إمداد مشروعنا بالذخائر هي أكبر نقاط ضعفنا. فالعمل الإداري للعرب كان متدني الكفاءة. وظهرت لي دلائل على أن بعض القيادات الإدارية كانت متواطئة مع دولة خليجية للإضرار بعملنا في الجبهة. أما عدد الإصابات في طائرات العدو فكنا نجمعها من عدة مصادر إلى جانب رصدنا الخاص. أهم رصد في المنطقة كان الرصد اللاسلكي الذي يقوم به مركز قيادة حقاني بقيادة الضابط الكفؤ”عبد العزيز” يعاونه الشاب العبقري “فضل”. وكان ترصد جبل تورغار قادر على الرصد الجيد وتقديم معلومات موثوقة لنا.

 

الخميس 6 سبتمر 1990 – 18 صفر 1411 هـ

ملخص:

ليلة الإغلاق: الثانيه والعشرون.

ليلة الاشتباك: التاسعة.

عدد محاولات الهبوط: سبعة.

نتائج عمليات الهبوط: تفريغ ست طائرات.

إصابات العدو: احتراق طائرة، وإصابة أخرى إصابة خفيفة لم تمنعها من العودة إلى كابل. إصابات عندنا: لاتوجد.

 

{ملاحظات: لم أحضر تلك المعركة بل قادها أبو زيد التونسي، وهي أسوأ نتيجة حصلنا عليها في كل الاشتباكات، بل اعتبرناها هزيمتنا الأولى أمام العدو.

في تقريره عن المعركة. قال أبو زيد إن قلة الذخائر كانت سبباً رئيسياً فيما حدث. فقد خرجت الراجمات بسرعة من المعركة. والسبب الآخر هو نجاح العدو في التشويش على الاتصالات خاصة مع الترصد اللاسلكي}.

 

في الثامنة والنصف صباحاً تحركنا بسيارة المعسكر إلى ميرانشاه. كان أبو حفص يقود السيارة، وإلى جانبه أبو أسامة المصري. وفي المقعد الخلفي عدد من الشباب المجازين بسبب المرض، وفي الصندوق الخلفي للسيارة ركبت مع أبو حامد الليبي وعثمان الصعيدي الذي سيغادرنا نهائياً كي يحضر دورة في جلال آباد على الطوبوغرافيا، كان في انتظارها منذ فترة، وسوف يحل محله ” المقداد” الأردني.

كان ما فعله عثمان صورة طبق الأصل من غرائب التصرفات العربية في أفغانستان، فتَلَقِّي الدورات بلا حساب ولا ضرورة أصبح هدفاً في حد ذاته، أما المعركة مهما كانت أهميتها فتأتي في مرتبة متدنية.

وهذا ما أعنيه بالحديث عن الانتهازية الجهادية لدى التنظيمات العربية التي عملت في أفغانستان، فهي تسعى إلى “الاستفادة” من الساحة الأفغانية، بأضيق مفهوم لتلك الاستفادة، وبدون اهتمام بنتائج الحرب، بل مع تسليم تام بفشلها.

في ميرانشاه حاولنا مقابلة حقاني ظهراً، ولكنه طلب أن يكون اللقاء بعد المغرب، عزمت على العودة إلى أفغانستان لكن أبوحفص كان يريد وساطتي مع حقاني حتى يسمح لهيئة الإغاثة الإسلامية بتولي مسؤلية المستشفى الكبير التابع لحقاني، وهي مشكلة مزمنة.

كذلك أبو أسامة المصري الذي طالبني بكتابة تقرير بوجهة نظري التي أوضحتها له في مركز أبو العباس. وهكذا كان لابد لي من قضاء الليلة في ميرانشاه، ولما كنت مرهقاً من السهر المتواصل فقد نمت في البيت إلى قرب المغرب. في اجتماعنا ليلاً مع حقاني تحدثنا طويلاً حول الوضع في الجبهة واجتماع الكومندانات الذي سيعقد في الغد. عن البرنامج العسكري القريب الذي قال حقاني إنه سيكون في المناطق الجنوبية والشرقية من خوست، وأنه سيطالب جولاب بالتحرك شرقاً مع مجموعته لضرب المطارالجديد، أما خط دفاع العدو المواجه لنا فلم يذكره على اعتبار ما أخبرني به سابقاً من أنه سوف يستسلم. فقلت له إننا قد نضرب دبابتين للعدو في ذلك الخط، فوافق، وطالب أن نضرب منطقة ” فارم باغ” وتوجد خلف الخط الجبلي المواجه لنا وعلى طرفه الشرقي. وقال إن بها أحد عشر دبابة جديدة.

 

وعن كابل قال حقاني إن هناك أقاويل متداولة بأن هناك انقلاباً جديداً يجري تدبيره في كابل بإشراف دولي، ويشارك فيه حكمتيار بقوات يحشدها حول العاصمة، تكون نتيجته حكومة مشتركة بين قادة جهاديين وجنرالات شيوعيين.

 

عن قرارات مؤتمر القادة الميدانين (على مستوى أفغانستان) قال إنها تأخذ مجرى التنفيذ، وإن هناك تطبيقاً جيداً لها في مجال الأمن، أما التنسيق في العمليات فما زال بطيئاً. وأن لجنة لمتابعة تطبيق القرارات تجتمع من أماكن مختلفة في الداخل، ومن أعضائها مولوي أرسلان رحماني وأختر محمد (كلاهما يعمل مع حزب سياف، لهذا يصل القادة الميدانيون إلى نتائج عملية مؤثرة).

لم أعلم بما حدث في اشتباكات هذه الليلة إلا في اليوم التالي، بعضها وصل عن طريق المخابرة والآخر علمته مشافهة من أبي زيد والآخرين. لقد نزلت بنا أول هزيمة منذ بدأنا “مشروع المطار” فقد هبطت ست طائرات إلى المطار وأفرغت حمولتها. ولكن إحداها أصيبت واحترقت، ح سب قول الترصد اللاسلكي، وأخرى أصيبت إصابة خفيفة وتمكنت من الإقلاع في الثامنة صباحا.

وهي خدعة ممتازة من جانب العدو لأن أحداً لا يتوقع أن تقلع طائرة من هناك في وضح النهار وقد استسلمنا جميعاً لهذا الوهم. وسوف نرى أن العدو قد حاول استخدام نفس الخدعه معنا في معارك فتح خوست وكانت آخر طائرة له هبطت في المدينة حتى سقوط النظام. لكننا منعناه من الإقلاع وتم أسر قائدها وهو جنرال طيار.

قال فضل أيضاً، وهو نائب عبد العزيز، إنرمايات الراجمات كانت ضعيفة وغير منسقة. على كل حال فقد اعتبرت نفسي مسؤولاً تماماً عما حدث من هزيمة في تلك الليلة. فتركي الموقع والذهاب إلى ميرانشاه لم يكن له مبرر قوي، وقد راهنت أكثر مما يجب على استمرار المطر والأحوال الجوية السيئة.

 

مطار جديد قلب موازين العمل، ونقل ثقل العمليات جهة الشرق

بدأ يتأكد لدى مواقع الترصد أن العدو أنزل عددا من طائراته في المطار الجديد في الطرف الشمالي الشرقي من صحراء المدينة. وكان بعيدا تماما عن مدى راجماتنا، ولا يصله إلا عدد محدود من قطع المدفعية المتوفرة عند المجاهدين. لذا توجب انتقال راجمات إلى الطرف الشرقي من الجبهة حتى تتمكن من العمل على المطار الجديد. وهو ما فعلناه ولكن بعد عدة أشهر!! نعود إلى اليوميات المسجلة بعد ما اكتشفنا أن هناك مطارا جديدا يعمل، وأن مطارنا العتيد قد تحول اسمه بسرعة وبساطة تامة إلى”المطار القديم”. وبشكل ما شعرنا بالإهانة من ذلك رغم نجاحنا في إغلاق المطار التاريخي للمدينة الذي أصبح الآن “المطار القديم”، بل وتكبيد العدو خسائر تاريخية في طائرات النقل خلال مشروعنا المكثف.

 

الأربعاء12 ـ 9 ـ 1990:

هل يمكن أن يعود العدو إلىاستخدام المطار هذه الليله؟ ألا يمكن أن تكون صحيحة المعلومة التي وصلت حقاني من أن المعدات في المدينة لا تكفي لدك المدرج بحيث يتحمل الطائرات الثقيلة. فإذا كانت الطائرات التي هبطت تلك الليلة قد أتلفت المدرج الهش، فلا شك أن العدو سيهبط في مطارنا “القديم” في الليلة القادمة.

كانت الفكرة معقولة، فأخذت الاحتياطات العادية للاشتباكات القوية التي تعودنا عليها.

ـ قال حاجي إبراهيم إنه أحصى اثني عشر طائرة هبطت ليلة أمس (في المطار الجديد)، بينما قالت باقي نقاط الترصد إنها أحصت مابين سبعة إلى ثمانية طائرات فقط. على كل حال فإن متانة المدرج مازالت بالنسبه لي، موضع تساؤل. توجهت إلى المركز الرئيسي “أبو العباس” واجتمعت مع الشباب هناك وشرحت لهم أن معيار النجاح والفشل بالنسبة لأي مهمة عسكرية هو مدى تحقيقها للهدف الذي تحركت العملية من أجله.

ونحن في مشروع المطار تحركنا بهدف إغلاق المطار، وهو ماتم تحقيقه حرفياً وبهذا تكون عمليتنا قد نجحت بنسبة مائة بالمائة ـ وأهم من ذلك هو فضل الله علينا بأن خرجت كل مجموعاتنا سالمة من المعركة، وبدون شهيد أو جريح واحد، وهو ما لم نكن نتصوره.

تحسنت معنويات الشباب قليلاً. فحدثتهم عن احتمال حدوث اشتباك ليلي عنيف، يجب أن نتجهز له. ثم غادرت المركز صوب مركز خليل محاولاً أن أكلم حقاني حول إجراءات مواجهة “المطار الجديد” والعمليات الأرضية الأخرى ودور العرب فيها.

كان حقاني في ميرانشاه، ولكن قابلنا سيارة جماعة الشهيد منان “الكوتشي” وكان بها ابن أخته “باتشا دينا” الذي نزل من سيارته مسرعاً كي يصافحني بحرارة، وكذلك فعل باقي أفراد المجموعة، ومعظمهم من الأفراد القدماء الذين عملنا معهم في عهد عبدالرحمن الشهيد. كان “باتشا دينا” سعيداً خفيف الحركة، عرفت السبب عندما سحبني نحو سيارته وأشار إلى صندوقها الخلفي حيث يرقد صاروخ ستنجر في وعائه الضخم، وقال إنه سيطلقه الليلة على الطائرات الهابطة في المطار الجديد، أسعدني سماع ذلك وقلت له إنني سوف ألغي سفري إلى ميرانشاه وأرابط فوق جبل الترصد منتظراً عمله ذاك، وسوف نكون على اتصال لاسلكي معه، وكان الاتصال اللاسلكي مع مجموعة منان يسيراً للغاية فقد كان العدو والصديق يعرف أن عليه أن يملأ شاشة الجهاز بالرقم “4” ثم ينادي عليهم فيجدهم في الانتظار دوماً. تم الاتفاق بينه وبين حاجي إبراهيم على مسألة الاتصال.

كان واضحا أن ثقل العمليات في الجبهة في طريقه للتحول جهة الشرق، حيث مفجأة المطار الجديد، الذي منح العدو أملا في البقاء لفترة أطول في خوست. توجهنا بسيارتنا نحو مركز الترصد اللاسلكي فوجدنا “فضل” و”خليل” شقيق حقاني عائدين من هناك، وقد ازدحمت السيارة بالمجاهدين فسألت خليل عدة أسئلة متتابعة مثل: هل أرسلتم مدفعية أو دبابات لضرب المطار الجديد؟ هل لديك مدفعية أو دبابات لضرب المطار الجديد؟ هل لديك مدفعية أو دبابة جاهزه للعمل؟ هل لديك صواريخ “صقر 30” مع راجمة؟ هل هناك برنامج للعمل ضد المطار هذه الليلة؟

هذه الأسئلة أجاب عنها جميعاً بكلمة “نشته”وتعني “لا”. ولم يزد عليها حرفاً، كاد ذلك أن يفقدني صوابي فتركناهم ينصرفون وأخذ حاجي إبراهيم يضحك من غضبي ومن إجابات خليل اللامبالية.

 

الجمعة 14 سبتمر 1990:

حاجي إبراهيم، شقيق حقاني، أبلغني رسالة تلفونية صادرة من حقاني يطالبني فيها بنقل الراجمات والأفراد إلى منطقة المطار الجديد. وأبلغني إبراهيم أيضاً أن مجبور سينقل راجمته إلى المنطقة الشرقية. شعرت بالامتعاض لتفريغ المنطقة من قوة الراجمات المخصصه للمطار ـ أي تفكيك قوة نيران مشروع المطار “القديم” ـ لأن العدو سرعان مايعاود استخدام “المطار القديم” كنت أرى تثبيت قوة نيران كافية لحراسة المطار القديم ـ ثم إنشاء قوة جديدة خاصة بالمطار الجديد. ورغم الصعوبة والتكاليف فإن ذلك كان الحل الوحيد كما أظن حتى لا يتلاعب بنا العدو، ونظل نركض يوماً هنا ويوماً هناك. لم أجد فائدة في شرح ذلك لغير حقاني شخصياً، وكان جولاب قد أخطرنا بأنه سوف يسحب راجمته من عندنا كي يستخدمها ضد المطار الجديد. قضيت وقتاً طويلاً هذا اليوم للبحث عن دعائم حديدية مناسبة لبناء “وكرالشلكا” وهو الحصن الذي أسعى لوضع ذلك المدفع بداخله. كنت أتصور الحصن عبارة عن حفرة ذات ثلاث جوانب من الصخر، وسطح ذو دعائم حديدية مضاعفة وأمتار من الرمال والأحجار من فوقه، مع فوهة رماية محدودة الاتساع ومموهة.

لم يكن الحديد المتوافر في ميرانشاه مناسباً وكان لابد من اللحام لضم كل عدة قطع سوياً حتى تكتسب قوة ملائمة. زارني الدكتور خالد وزميل له من مستشفى ميرانشاه، ومعهما يوسف حمدان مدير هيئة الإغاثة الإسلامية الذي جاء ليشرف على المفاوضات مع حقاني بشأن المستشفى المذكور، وكانوا يطلبون وساطتي في الموضوع.

 

 

السبت 15 سبتمبر 1990:

وصلنا صباحاً مولوي “سيف الرحمن” مسؤول المشتريات العسكرية لدى حقاني، كي يبلغنا أن حقاني قد عاد إلى بيته. ويقول حقاني إن هناك كميات كبيرة من الذخائر معروضة للبيع في “جاجي” وبأسعار جيدة. وتشمل الصفقة صواريخ كاتيوشا وهاونات وقذائف مدفع82 مليمتر عديم الارتداد. فقلت له إنني سوف أتشاور في ذلك مع العرب في بشاور. ذهبت إلى لقاء حقاني في بيته، حيث طلب تأجيل بحث موضوع المستشفى حتى يتشاور فيه معنائبه مولوي نظام الدين في مساء هذا اليوم. وكان مولوي نظام الدين في زيارة للسعودية ضمن وفد أفغاني ضخم حيث حضروا مؤتمراً إسلامياً برعاية حكومة “المملكة”هدفه إعطاء موافقة إسلامية عامة على احتلال أمريكا لجزيرة العرب لحمايتها من تهديدات صدام حسين الذي احتل الكويت الشهر الماضي.

– وافق حقاني على إعطائنا مدفع الشلكا، وطلب منا أن نرتب نيران المجاهدين ضد “المطار الجديد”، وقال: (إننا لا نفرح بأخذنا المطار القديم ثم نترك العدو في المطار الجديد).

ثم طلب أن تكون راجمات جولاب وغيرها تحت تصرفنا وأنه ـ أي حقاني ـ سوف يمدنا بالذخائر اللازمة، وطلب أن نذهب إلى باري لنجتمع مع” د. نصرت الله” وباقي الكومندانات لبحث الموضوع والترتيبات اللازمة لتنفيذ تلك التوجيهات. بالفعل توجهنا على الفور إلى مركز خليل في باري كي نعلم أن الاجتماع لم يعقد لأنه من بين 18 كوموندان حضر خمسة فقط. قررنا العودة في سيارة بالأجرة، لأن سيارتنا سوف تبقى في مركز “أبو العباس”. وكان ترصدنا مازال يعمل، والعدو متوقف عن استخدام المطار القديم، ويستخدم يومياً “مطاره الجديد”.

في سيارة الأجرة، من نوع البيك آب طبعاً، جلس حاجي إبراهيم إلى جوار السائق، كي “يتسلى” معه بالحديث أثناء الطريق، وكان الحديث عبارة عن تفاصيل مافعلناه في مشروع المطار! كدت أنفجر غيظاً لولا علمي أن العملية قد مضت وانتهت، وأن ما يقوم به حاجي إبراهيم هو عادة شعبية أصيلة لاغنى عنها لأولاد البلد.

 

الأحد 16 سبتمر 1990:

كان الجفاء مكتوماً بيننا، جماعة المجلة العربية ـ وهي نفسها جماعة مشروع المطارـ وبين جماعة المكتب الثقافي “الفرهنجي” الذي مازلنا نشكل أحد أجزائه المنفصلة. شواهد عديدة أكدت أن الشخص الذي تهجم ظهراً على بيتي في ميرانشاه وكاد أن يخنق ابني الصغير عبدالله الذي تصدى له بشجاعة، هذا الشخص شوهد مرات عديدة في مكتب “الفرهنجي”.

منذ الأمس وضيوف أوروبيون في الطابق العلوي، رجالاً ونساء، يشاهدون أفلام فيديو عن معارك المجاهدين في المنطقة. لم يخبرنا أحد عن هؤلاء، ولكن منظرهم أثار استيائي.

على الأقل لكون هذه المخلوقات البيضاء أصبحت معادية لنا بشكل مكشوف، ويعملون بلا هوادة لإجهاض مسيرة الجهاد في أفغانسان، قبل خطوات قليلة من بلوغها الهدف. كانت المخلوقات البيضاء تتصرف بلا تكلف وكأنهم في بيوتهم. وحتى صباح اليوم مازالوا متواجدين بالطابق العلوي، والنساء يتشمسن في الساحة الضيقة المواجهة لصف الغرف العلوية والمطلة على حديقة البيت السفلية، لم يخبرنا أحد: من هؤلاء؟ أو الهدف في زيارتهم؟ بل بذلوا جهوداً للتعتيم والتمويه علينا.

اصطحبت حاجي إبراهيم إلى بيت حقاني وفي الطريق قابلنا “مجبور” جارنا وشريكنا في عمليات المطار، وقال إنه سينقل مدفعه الهاون عيار 120 مليمتر إلى منطقة “شين كاي”الشرقية لضرب المطار الجديد من هناك. وطلب بعض المساعدات فيما يختص بحفريات جديدة هناك مع جهاز لاسلكي صغير وميكروفون يدوي. وعدته بمساعدته في الحفريات عن طريق العرب، أما المطالب الأخرى، فنحن نعاني من نقص في أجهزة اللاسلكي الصغيرة.

 

قبل وصولنا إلى بيت حقاني رأينا الزوار يتوافدون لتحية الشيخ نظام الدين الذي عاد مؤخراً من السعودية، فتوجهت مع حاجي إبراهيم لإلقاء السلام عليه. وكنت شغوفاً بمعرفة رأيه فيما جرى في السعودية من استجلاب القوات الأمريكية لحمايتها من العراق على حد زعم الدعايات الصادرة من هناك وقتها. كان “نظام الدين” معروفاً بصرامته الفقهية لذا توقعت سماع آراء تسعدني.

قدم لنا الشيخ بعضاً من ماء زمزم وتمر المدينة المنورة. امتلأت الغرفة الصغيرة بالزوار، ثم جلست إلى جواره وسألته عن رأيه فيما حدث في السعودية والخليج، فكانت إجابته صدمة غير متوقعة بالنسبة لي. فقد قال: إن قدوم الأمريكان والأوروبيين إلى السعودية جائز بشروط ـ لم تتوفرـ ولكن بما أن صدام يعمل مع روسيا فلا بد من وجود أمريكا! ولكنها ستخرج!! ثم أضاف إن كل العلماء من مختلف بلاد المسلمين قد أفتوا بجواز ما حدث من استعانة بجيوش أمريكا والغرب!! حاولت مجادلته بالقول أن أمريكا لم تحضر إلى أفغانستان لمقاومة الاتحاد السوفيتي الذي هو أقوى من صدام حسين فلماذا ذهبت إلى السعوديه؟ ولماذا لم يطالب شعب أفغانستان قوات أمريكية، بينما طالبت السعودية بذلك؟ فأجاب أن حكومة السعودية مقصرة، ولكن هذا ما حدث، والأمريكان سوف يخرجون قريباً. ودَّعته وخرجت وأنا مصدوم ومتعجب.

 

في مضافة حقاني قابلت القادة البارزين وفي جعبتهم أخبار سيئة عن المطار الجديد، فقد هبطت به ليلة أمس ثمان طائرات معظمها يحمل جنود. قال حقاني إن المعلومات التي لديه تقول إن الحكومة عززت قواتها بألف جندي جديد خلال الأيام القليلة من استخدام المطار، بما يعني احتمال قيامهم بهجوم. وقامت الحكومة بقصف رؤوس الجبال في باري بالمدفعية الثقيلة وهو ما لم يحدث منذ أربعة أشهر. ومع ذلك كانت ردود الفعل تجاه المطار الجديد متفاوتة جداً حتى كدت أشعر باليأس.

كانت ظروف حقاني الخاصة ساحقة، فاستشهاد أخيه إسماعيل كانت كارثة على النطاق الشخصي والعملي لكون إسماعيل واحد من ثلاث محركات فعالة يطلقها حقاني في مختلف جبهات القتال وهم إخوته الثلاثة إبراهيم وخليل وإسماعيل، لقد فقد ثلث قوته الضاربة بموت إسماعيل.

ثم هذه أمه التي تضبط جبهة لا تقل خطورة عن جبهة القتال وهي الجبهه الداخلية المكونة من اُسَرْ المجاهدين والشهداء، إلى جانب التحريض الفعال على الجهاد وضبط ومعاقبة أي حالة تخاذل أو ضجر أياً كان مصدرها، فعصاها وكلماتها، وثقلها المعنوي أسلحة ردع جاهزة دوما ًوتعمل بلا كلل. هذه المرأة العظيمة ماتت هي الأخرى في أعقاب موت إسماعيل.

ليس هذا فقط، فالآن إبراهيم يتعرض لنكسة صحية خطيرة. فقد خرج من المستشفى قبل استكمال علاجه كي يحضر جنازة والدته، ثم لم يعد إلى المستشفى بل تحرك صوب الجبهة للإشراف على عمليات إمداد، فداهمته النكسة، وبدأ يسعل دماً فنقلوه جواً إلى المستشفى العسكري في روالبندي. كل هذه أسباب لحالة الضياع التي شاهدت حقاني يعيشها اليوم فكان تائهاً يفتقد التركيز والإشعاع القيادي الجذاب الذي تميز به دوما وحَمَلَهُ إلى الصدارة. سألته عن البرنامج العسكري القادم فأجاب: (لا أدري! يقولون إنه قريب! ومفروض أن يكون من جميع الجهات). إجاباته وحالته الشاردة زادتا حالة الضياع عندي. شعرت بالحاجة إلى أخذ قسط من الراحة والبقاء مع أسرتي لبعض الوقت. تمنيت أن أجد شخصاً آخر أسلمه تلك التركة التي أزهد فيها. وزاد الطين بلة أن “جماعتنا” في بشاور من قيادات القاعدة مازال قرارهم ضائعاً وموافقتهم غير محددة. في المساء فشلت وساطتي في موضوع المستشفى، وأمر مولوي نظام الدين أن تكون لهم كامل السلطات الإدارية عليه.

أرسلت رسالة إلى أبو حفص في بشاور أقول له فيها: (تم إنجاز المهمة، أعني إغلاق المطارالقديم، أرجو إرسال أمير جديد لمركز أبو العباس من طرفكم. سأكون في بشاور خلال هذاالأسبوع لمناقشة تطورات الوضع معكم).. ثم نمت مبكراً من شدة الغم!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى