مقالات الأعداد السابقة

حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 32)

أ. مصطفى حامد (أبو الوليد المصري)

 

■ استعدنا سيارتنا القديمة المتهالكة من عند حقاني، وتوجهنا فورا إلى مركز أبوالعباس. كان البدو قد احتلوا جميع مغاراته واتخذوها فندقا لهم ولأغنامهم.

■ زاد الأمر سوءا استشهاد “أبو الشهيد القطري” الذي كان من أفضل الكوادر العاملين في “مشروع المطار 90” وكنت أتوقع أن يكون من أعمدة المشروع الجديد.

■ شاركنا في المشروع “ابن عمر” وهو ضابط سابق في سلاح الدبابات في جيش “اليمن الجنوبي”. وهو من ذلك النوع من الشباب الذين تذكرك رؤيتهم بطاعة الله.

■ كان وقتاً عصيباً خاصة وأن كل التكنولوجيا التي نمتلكها لاكتشاف الألغام هي مجرد قطعتين من الخشب. كتمنا مشاعر التوتر بتَصَنُّع اللامبالاة وبالضحكات.

■ الوحدات التي أرسلها حقاني إلى الجبهة الشرقية، سريعا ما عادت وهي تشكو وتتذمر.

■ وَعَدَنا حقاني بوضع 3 دبابات تحت تصرفنا. ولكن ما إن صار الموقع جاهزا حتى بدأ العد العكسي لبدء العمليات، ولم يَعُد لأحد قدرة على سحب دبابة واحدة خارج البرنامج المقرر.

■ أخبرني حقاني أن العمليات القادمة ستكون كبيرة وقال إنه يعتمد على “وزير” وجماعته في التصدي للمطار الجديد، ويريد مني أن أرتب العمل كله بنفس الطريقة السابقة.

■ تأكدت أن هناك “مؤامرة باكستانية” للإبقاء على المطار الجديد مفتوحًا وإفشال المعركة القادمة، أو جعلها معركة محدودة لا تؤدي إلى فتح المدينة.

■ كان البدوي الشاب يهدد جنود العدو بالذبح فيضحكون منه. هذه المرة كان أكثر تحديدًا إذ أخبرهم أنه قادم إليهم في الرابعة من صباح فجر الغد ويطالبهم بالانتظار وعدم الهروب. كان التهديد دقيقًا بدرجة مميتة. لحُسْنِ الحظ أن العدوّ ضحك ولم يأخذ التهديد بجدية، فلربما تغيّر تاريخ أفغانستان المعاصر.

 

غادرت إلى بشاور وتركت إدارة المشروع لكوادر القاعدة، أبو تميم وأبو الشهيد، حتى أحاول تحريك جبال بشاور واتخاذ قرار بتصعيد مشاركتهم لمطاردة المطار الجديد، والعمليات البرية الأخرى إن إمكن. بالطبع فشلت في مسعاي ذاك، وانسحبت القاعده تدريجياً من “دزجات ستان”، خاصة بعد استشهاد أبو الشهيد القطري. وأورد هنا تقرير صادر من نقطة الترصد وموجه إلى أبو تميم الذي كان يتولى الإدارة وقتها، وهو بتاريخ 23/9/90 وأورده هنا ملخصاً..

 

تقرير من الترصد

ليلة السبت كان التالي: نزلت حوالي 8 طائرات وكانت الأولتين في المطار القديم، ونجحوا في النزول وتنزيل الحمولة، والصعود كذلك، أما باقي الطائرات فنزلت في المطار الجديد، وكانت الطائرة الثالثة هي التي أصيبت بل قسمت قسمين، ورأينا الدبابة تسحبها في اتجاه مبنى قرب المدرج.

1 – الأمر الأول هو أن المهمة صعبت قليلاً: أ ـ نصف القوة الليلة الماضية لم تشتغل معنا : شاه خان، ومركز رقم 9، ومجبور لم يرمي بسبب وجود حوالي 5 سيارات في مركزه. ب ـ أصبح للعدو مطارين فهو ينتهز الفرص ويغير التكتيك من حين لآخر، مما يصعب المهمه، كذلك انسحاب مركزين مهمين من العمل على المطار القديم (شاه خان ورقم 9).

2 – الأمر الثاني: لاحظنا وبكل تأكيد أن الإنزال يتم بسرعة رهيبة جدًا جدًا لا تتجاوز 8 دقائق على الأكثر بحيث أن الطائرة تنزل وتلف في المطار ثم تفتح الباب السفلي (الخلفي) وترمي بكل حمولتها على مدرج المطار وهي تمشي على المدرج بدون توقف وعند الانتهاء، مباشرة تطير. والذي يؤكد هذا الكلام هو أننا رأينا في نقطة تنزيل المطار الجديد التي على اليمين منذ حوالي 5 أيام البضائع متناثرة في نقطة التنزيل، مما يؤكد أن الطائرة تسير وعملية التفريغ تتم بدون إعاقة، فلو كانت الطائرة تنزل في مكان واحد لرأينا أنها مكدّسة في مكان واحد، لكن الملاحظة خلاف ذلك، كذلك الحمولة في المطار القديم تنزل بسرعة أسرع من المطار الجديد.

3 – الأمر الثالث: عمليات التموين من العدو وعمليات الإرهاق بالنسبة للمجاهدين، وذلك بتحليق أكثر من طائرة من نوع “جاموسة”، تغطية الأصوات بالجِتْ (يقصد الطائرات النفاثه)، وإنارة المطارين القديم والجديد في نفس الوقت والتظاهر بالإنزال في أحد المطارات.

أما الإرهاق فحدث عنه ولا حرج، نرى المجاهدين في بداية الليل يشتغلون بكل نشاط ولكن بعد الساعة الواحدة يكون بعض قطع المدفعية قد توقف عن العمل.

■ ثم في آخر التقرير يقدم كاتبه (وهو غير معروف) فكره لتوزيع النيران المتوفرة على مدرج المطارالقديم، يتضح منه وجود ثلاث راجماتBM12  وراجمة واحدة فردية لجماعة أبو الحارث وهي قوة جيدة على أية حال، ولكن مناورات العدو جعلت المعلومات مشوشة، حتى التصنت اللاسلكي لم يكن يستطيع تحديد المطار الذي سوف يستخدمه العدو.

على أية حال لم يستمر العدو طويلاً في تلك المناورات بل توقف عنها سريعًا وأقتصر على استخدام المطار الجديد. حتى أن الكثير من المجاهدين أكدوا أن العدو لم يستخدم إطلاقًا المطار القديم منذ أن توقف عن استخدامه في آخر ليلة عمليات لنا في العاشر من سبتمبر. وأميل إلى تصديق ذلك، وبذلك يكون ترصدنا قد وقع فريسة تمويهات العدو، الذي لم يستخدم سوى مطار واحد فقط هو المطار الجديد منذ يوم الثلاثاء 11/9/90.

 

الطريق إلى فتح خوست

كما ذكرت سابقا فإن من عملوا معي في مشروع “المطار90” على قدر إعجابهم بأداء العرب في العملية، ونتائجها على الأرض، إلا أنهم انصرفوا من الجبهة انصرافا جنائزيا كأنهم فشلوا في المعركة وخسروا الحرب كلها.

كان حزنهم كبيرًا لأن المجاهدين الأفغان لم يستفيدوا من إغلاق المطار لمدة شهر وكان المشهور أن ذلك سيؤدي إلى سقوط خوست.

ثانيا – ما شهدوه من تكاسل شبه متعمد وترك العدو يكمل عمله في المطار الجديد بدون أي تدخل ـ تقريباـ من جانب المجاهدين. وقد كان مدفعًا واحدًا أو دبابة واحدة كافية لإيقاف المشروع وتدمير المعدات الصفراء اللون التي تعمل طول النهار ـ وكنا على استعداد للقيام بالعملية لكن أحد لم يزودنا بما هو مطلوب، رغم تفاهته وقتها.

وكما هي العادة اشتدت الحرب النفسية في بشاور على من شاركوا معنا في العملية، بدعوى أن الأفغان غير جادين لا في الجهاد ولا في إقامة دولة إسلامية ـ وكانت تلك هي النغمة السائدة في التوأم السيامي “القاعدة والجهاد المصري” وتبنتاها تنظيمات الشام (سوريا)، ثم تنظيمات الشمال الأفريقي التي غمرت الجميع بالتكفير.

زاد الأمر سوءًا استشهاد “أبوالشهيد القطري” الذي كان من أفضل الكوادر العاملين في “مشروع المطار90” وكنت أتوقع أن يكون من أعمدة المشروع الجديد، وقد استشهد أثناء محاولة تفجير قذيفة هاون تالفة من مخلفات الحرب. وكنا قد احتفظنا بها في مكان مهجور لتفجيرها عندما تسنح الفرصة، وحتى لا يأخذها البدو من جامعي الشظايا، فتؤدي بحياة بعضهم. ولكنها أودت بحياة واحد من أفضل شبابنا وأنبلهم خلقًا وأكثرهم شجاعة.

كان أبو الشهيد قد تولى قيادة مركز أبوالعباس بعد انصرافي، وإلى حين تصفية المركز، بعد أن انتهت العملية التي كان “أبو العباس” قلبها النابض.

أثناء العملية (المطار 90) ورغم خطورتها الاستثنائية، إلا أننا لم نفقد فيها أي شخص لا شهيد ولا جريح، ولكن تصفية المعسكر أفقدتنا أهم كادرعندنا!!

من المفارقات أن “أبوالشهيد” عبر ذات ليلة مظلمة من وسط حقل ألغام في جبل الترصد ووصل إلينا بلا خدش، وبدون أن يدري حقيقة ما قام به. إنها مفارقات الحرب المحزنة.

وهاهو الشاب النبيل يحاول الحفاظ على حياة أطفال البدو من جامعي الشظايا حول معسكرنا ـ من خطر قذيفة هاون صدئة من عيار 82 مليمتر. ولكن القذيفة تصيبه بشظية في جبهته فيلقى ربه بعد دقائق. حقاً.. ما أهون هذه الحياة!

في أول يوم من العام “1991” كنت في ميرانشاه مع ابني الأكبر وليد “20 عاما”، وبسرعة لحقت بي العائلة كاملةـ ماعدا عبد الرحمن الذي كان الوحيد بينهم الذي كان مازال مرتبطاً بالتعليم في مدرسة باكستانية. سكنت أسرتي في نفس منزلنا السابق ـ وأصبح لنا جيران هذه المرة. فالبيت المجاور يسكنه حاليا مولوي “عزيزجان” مدير المدرسة الدينية “منبع الجهاد ” وهو صديق قديم وعزيز، وشخصية جهادية تاريخية. (توفي بالسرطان بعد ذلك بأعوام قليلة).

حاجي إبراهيم ـ زميلي في المجلة وفي العمليات ـ كان سعيدًا للغاية أن نعود مرة أخرى إلى الجبهة في مشروع جديد للمطار الجديد.

أبو الحارث كان جاهزا “لاحتلال” مركز أبوالعباس وإدارته بأفراد من جماعته. استعدنا سيارتنا القديمة المتهالكة من عند حقاني في ميرانشاه، وتوجهنا فورا إلى مركز أبوالعباس. كان البدو قد احتلوا جميع مغاراته واتخذوها فندقا لهم ولأغنامهم.

وافقوا على المغادرة في غضون ساعات ـ فهذه هي حياتهم ـ وكان المركز في حاجة إلى أكثر من يوم لتنظيفه، فقام شباب أبو الحارث بالمهمة خير قيام كعادتهم دومًا في المهام جميعا، سهلة كانت أم صعبة. ومعسكرات القاعدة أمدتنا بالفرش وأدوات الطبخ، ثم بقايا صواريخ “كاتيوشا” من فائض عمليتنا السابقة.

ما لبث “أبوالعباس” أن صار أحد مراكز أبوالحارث، وتولى هو إدارته وكانت بعض إداريات المركز تأتي من مقر جماعتهم الرئيسي في غرب جبل تورغار.

كان الدفاع عن جبل “تورغار الصغير” عملهم الدفاعي الرئيسي في خوست وقتها، وكان ذلك مبعث ارتياح حقاني وباقي المجاهدين. فالجماعة أصحاب قوة وبأس، وشبح بيع الجبل قد انتفى تمامًا، وهو الخطر الماثل بقوة منذ أن باع أحدهم تورغار عام “1984”. وجبل “تورغار الصغير” هو مقدمة الدفاع عن “تورغار الكبير” الذي لا يمكن للقوات الحكومية أن تهاجمه بدون التقدم من الأصغر فالأكبر.

على تورغار الكبير كان لجماعة أبوالحارث تواجد ملحوظ، ويستخدمون من فوقه راجمة صواريخ فردية، يقصفون بها مواقع حكومية متعددة، وقد طوروا قاعدتها فصارت رمايتها أكثر دقة. ومع ذلك لم تقم جماعة أبوالحارث بما كنت أتوقعه منهم بتحويل جبل تورغار إلى بارجة نيران حقيقية.

كنت حزينا لتدهور القيمة التكتيكية لذلك الجبل بعدما انتقل إلى أيدي المجاهدين. كنت أتصور أن دبابة واحدة فوق الجبل ومجهزة هندسيا بشكل مناسب، يمكنها تدمير كافة الأسلحة الرئسية للعدو في خط دفاعه الأول الذي مازال يمثل مشكلة. تلك الدبابة يمكنها أيضا النيل من مراكز العدو الحساسة التي مازالت في العمق.

ضغطت كثيرًا على حقاني وأبو الحارث لتوفير دبابة لهذا الغرض. وشرعنا بالفعل في حفر موقع لها في موضع متحكم فوق تورغار.

شاركنا في المشروع “ابن عمر” وهو ضابط سابق في سلاح الدبابات في جيش “اليمن الجنوبي”. وهو من ذلك النوع من الشباب الذين تذكرك رؤيتهم بطاعة الله.

وافق “ابن عمر” على تجهيز الموقع واستخدامه ضد دبابة العدو (التي حاولت جماعة القاعدة تدميرها). ومن الموقع الذي كنا نجهزه قال ابن عمر إنه يستطيع تدمير دبابة العدو من الطلقة الأولى أوالثانية على الأكثر.

وكنا نطالع دبابة العدو من موقع تورغار المرتفع. ونحن نجهز بالمتفجرات موقع دبابتنا الموعودة، وكان حقاني قد وافق على المشروع وقال إنه سيزودنا بها بعد تجهيز الموقع (وَعَدَنا في الحقيقة بوضع 3 دبابات تحت تصرفنا)، ولكن ما أن صار الموقع جاهزا حتى بدأ العد العكسي لبدء العمليات، وعندها لم يكن لأحد قدرة على سحب دبابة واحدة خارج البرنامج المقرر. وكانت الدبابات تابعة كلها لكتيبة “العمري” التي يديرها أشقاء حقاني إبراهيم ثم خليل (الذي يرفض دومًا تزويدنا بإبرة خياطة وليس دبابة).

عندما انتقلنا إلى “الجبهة الشرقية” جاء معنا ابن عمر وقضيت معه أياما نتفحص الجبال والسهول شبرًا شبرًا. لتحديد ملامح استخدام محتمل للدبابات من جانبنا ضد العدو، وكانت اكتشافاتنا مذهلة.

وصاحبنا “ابن عمر” كان ذو خبرة وخيال خصب في استخدام سلاحه التخصصي. تحمسنا كثيرًا لأفكارنا الجديدة، سواء ما هو ضد المطار الجديد أو ماهو ضد مواقع العدو في سهل خوست المواجه لنا، أو مرابض مدفعية العدو خلف مطاره الجديد، أو مخازن أسلحته السرية التي اكتشفناها مؤخرًا، ولا يعلم أحد عنها شيئا، حيث أنها ظهرت فقط من منطقتنا الجديدة بعد صبر وجهد في المتابعة.

 

طريق بين الألغام

جنوب جبل تورغار ساحة واسعة جدًا مليئة بالأعشاب والأشجار البرية. كانت كثيفة النباتات بشكل ملفت للنظر، ربما لأن أحدًا لا يجرؤ على استخدام تلك المنطقة المحرمة، التي زاد من وحشيَّتِها كثافة الألغام التي بثها العدو بشكل مدروس ومنظم أحيانًا، وبشكل عشوائي أحيانًا أخرى.

كانت أشبه بمناطق “السافانا” الأفريقية، ولكن بدل من الحيوانات المفترسة، يوجد هنا الألغام الحقيرة القاتلة التي تهون إلى جانبها أي ضواري أفريقية.

القاعدة هنا: كل شيء ملغوم، خاصة الأشياء الجميلة التي تجذب النظر، أو الجاذبة لاهتمام شخص يجوب المنطقة، مثل شجرة ظليلة أو بركة ماء صغيرة، أو مدق ترابي قديم.

كان يجب اختراق تلك المنطقة وشق طريق خلالها حتى نحقق اتصالا بين مركز أبو الحارث ومركز أبوالعباس، وبالتالي يتحقق اتصال ذو قيمة تكتيكية كبيرة بين (بوري خيل) ومناطق حيوية شرقا وشمالا مثل دروازجي ولاكان ومناطق جنوبيه مثل (توده شني). إذن تكتمل شبكة حيوية بطرق هي الأقصر والأكثر أمنا في المنطقة.

تحدثت مع أبو الحارث في الفكرة، فاستوعبها وتحمس لها، وشرعنا في إجراءات التنفيذ. كان علينا أن نطارد -وبصبر- ذلك التراكتور الوحيد الذي يخدم المنطقة بأسرها، وهو مزود بسكين خاص لتسوية التربة، وهو ما نحتاج إليه لتمهيد الطريق. وأخيرًا حجزنا دورنا لاستلام التراكتور في يوم محدد.

وكان علينا أن نستكشف الطريق الذي سيسلكه قبل أن يحضر إلينا، فهو ليس كاسحة ألغام، وليس مهندس طرق. لابد أن نحدد له الطريق المطلوب، والأهم أن نطمئنه أنه خال من الألغام.

كان المشاة القادمون إلينا من مركز أبوالحارث وما جاوره يسيرون على الحافة الصخرية للجبال، متحاشين منطقة “السافانا”.

لا أحد يعرف شيئا عن طريقة توزيع الألغام في “السافانا”. نحن إذن أمام خيار واحد لا غير وهو أن نسير في المنطقة بأنفسنا، نختار الطريق المفترض و”نضمن” خلوه من الألغام!!

سرت مع أبو الحارث في منطقة “السافانا” عدة مئات من الأمتار، نسبر الأرض بأعيننا، وأحيانا بقطعة من خشب، كان وقتا عصيبًا خاصة وأن كل التكنولوجيا التي نمتلكها لاكتشاف الألغام كانت مجرد قطعتين من الخشب. كتمنا مشاعر التوتر بتصنع اللامبالاة وبالضحكات أحيانًا، حتى وصلنا إلى مدق للمشاة كان يستخدمه مجاهدو المنطقة. فحمدنا الله بأننا قد أنجزنا أهم فقرة في إعداد الطريق.

ولم نلبث أن أحضرنا التراكتور، ومجموعة من شباب مركز أبو الحارث لمساندته في تلك المهمة التاريخية، ولردم بعض الخنادق العميقة التي حفرتها الأمطار والسيول..وأخيرًا صار لدينا طريقًا عسكريًا جديدًا وانقلابيًا.

أول القيادات العسكرية مرورًا في الطريق كان مولوي “نظام الدين” نائب حقاني، الذي جاءنا متهلل الوجه يبارك لنا ذلك الطريق ويقول بأنه “مفيد جدا للمجاهدين”. ولكن لا هو ولانحن أدركنا ـ حتى تلك اللحظة ـ أنه سيكون مفيدًا إلى هذا الحد بتحويل محور الهجوم الرئيسي من بوري خيل (غرب تورغار) إلى ماليزي (شرق تورغار).

 

الطريق الطويل إلى خرمتو

بعد أسبوع أو أكثر من انتقالنا إلى “أبو العباس” تبين أن أموراً كثيرة قد تبدلت وأن عودة العمل ضد المطار القديم بالصورة السابقة أضحى مستحيلًا. وليس أمامنا سوى العمل على مطار واحد هو المطار الجديد. وحتى هذا ظَهَرَ أنه أمر صعب جدا ومحفوف بالمخاطر. فجميع الوحدات التي أرسلها حقاني إلى الجبهة الشرقية، سريعًا ما عادت وهي تشكو وتتذمر.

ذهب جولاب ومجموعته من البدو وسريعا ما رجعوا من هناك، وتلك هي أفضل مجموعة قتالية في خوست، وربما في كل أفغانستان. وقَبْلَهُ ذهب مجبور ـ من كتيبة (غوند) أبوجندل ـ ومعه مدفعي هاون غرناي ثم رجع. وتلاه إبراهيم شقيق حقاني ـ قائد “غوند” العمري ـ ومعه مدفعي هاون غرناي ثم رجع. لم يبق سوانا!!. ومن نحن؟؟

من قدماء مشروع “المطار90 ” كان معي حاجي إبراهيم الأفغاني، وأبو تميم الذي هو معنا بشكل مضطرب في انتظار بدء أي عملية أرضية حتى ينضم إليها. أي أنه ليس معنا في حقيقة الأمر.

ثم أبو الحارث الذي أصبح ضيف شرف في مجموعته الذي أسسها وتبتعد عنه واقعيا، ومن أجل صداقتنا يستنزف كل رصيده الأدبي في المجموعة كي يستخلص لنا بعض أفرادها، وحتى هؤلاء غير مضموني البقاء في المشروع إذا بدأت أي عمليات أرضية، فمن يمكنه كبح جماحهم حتى يستمروا في عمية مدفعية، أو في الأغلب مجرد عمليات إمداد لمواقع مدفعية!!

ما حول “أبو العباس” أصبح خاليا. منطقة “دزجات ستان” أضحت منطقة أشباح. الجميع رحلوا بعدما رحل المطار القديم. كابوس يجثم على صدري: ماذا لو عاد العدو لاستخدام المطار القديم فجأة؟؟ يمكنه المناورة بحرية بين المطارين، وهذا أفضل له، وأصعب علينا.

نحن في حاجة إلى شهرين حتى نعيد بناء قوة نيران معقولة للعمل ضد المطار القديم. أما لبناء قوة نيران تعمل في وقت واحد ضد المطارين فنحتاج إلى معجزة مستحيلة التحقيق، فأيدينا خالية بكل معنى الكلمة، ولا نملك سوى مجرد تصورات!!

كنت أتابع مع حقاني تطورات الموقف العام وتطورات مشروعنا والمشاكل الكثيرة التي تعترضه. فطلب مني مقابلة “وزير” قائد مجموعة البدو التابعين لحزب “السيد أحمد جيلاني” وكان لنا علاقة قديمة معه منذ عام 1988 ولكنها انقطعت بعد استشهاد صديقي عبد الرحمن.

أخبرني حقاني أن حكومة باكستان تزود “وزير” بالصواريخ حتى يعمل ضد المطار الجديد. أثار ذلك ارتيابي وزاد من فضولي في مقابلة وزير والحديث معه.

لم أصارح حقاني بشكوكي، فكنت أعرف أنه يرفض معظمها، وإن كانت علاقته مع الباكستانين قد توترت بشكل متصاعد منذ مصرع ضياء الحق وعزل “حميد جول” قائد الاستخبارات. وكنت أعلم أن علاقته مع مدير الاستخبارات الجديد “أسد دوراني” متوترة بشكل خاص. فقد “استدعاه” دوراني بشكل غير لائق فرفض حقاني الذهاب إليه قائلا لزبانية الاستدعاء: “إن كان دوراني يريدني فليأت هو إلي مقابلتي بعد تحديد موعد مسبق”. مرت الأزمة ولكن ظل الجمر متقداً تحت الرماد.

أخبرني حقاني أن العمليات القادمة ستكون كبيرة ـ ولكنه لم يحدد الهدف منها ـ وقال أنه يعتمد على “وزير” وجماعته في التصدي للمطار الجديد، ويريد مني أن أرتب العمل كله بنفس الطريقة السابقة في” المطارالقديم”.

 

صواريخ.. ثمن الخيانة

بعد رحلة ممتعة عبر منطقة “خارصين” التي كانت اكتشافًا جديدًا بالنسبة لي، وصلنا في سيارتنا القديمة إلى مركز القائد “وزير” قبل المغرب بقليل.

وكان معي “حاجي إبراهيم” و”أبو تميم”. وجدنا المركز يعج بالنشاط، وعشرات من البدو الأصحاء ينقلون أكداسًا كبيرة من صواريخ الكاتيوشا الجديدة داخل صناديقها الخشبية.

كانت المعنويات مرتفعة للغاية، خاصة “الكومندان وزير” الذي قابلنا بابتسامة عريضة وترحاب واضح وانشراح كبير، وكل ذلك ليس من عادة البدو غالبًا، إلا في المناسبات الخاصة.

“وزير” أخبرنا بصراحة تلقائية وبدون أن نسأل، بأن تلك الصواريخ الجديدة زودته بها حكومة باكستان كي يعمل بها ضد المطار الجديد. سلمناه رسالة خطية من حقاني، وفيها أننا مكلفون بالعمل ضد “المطار الجديد” ويرجوه التعاون والتنسيق معنا نظرًا لسابقتنا الناجحة في “المطار القديم”.

قرأ “وزير” الرسالة وأعاد الترحيب بنا وسألنا عما نريد أن نفعله. فشرحنا له النقاط الرئيسية في العمل ضد المطار بشكل مركز على هيئة نقاط.

وكلما أوضحنا نقطة، رد علينا بحماس وبابتسامة عريضة بأن هذا بالضبط ما قرر فعله وأتفق عليه مع “حقاني”. شعرنا أن الرجل سحب البساط كله من تحت أقدامنا، فهو يعرف كل ما نعرفه ويمتلك من الوسائل مالا نحلم بامتلاك جزء يسير منه.

ليس لدينا شيء سوي حفنة من الصواريخ، وأفراد ثابتون أقل من أصابع اليد الواحدة. فسألت إبراهيم وتميم إذا كان أحدهم يود أن يضيف شيئا قبل أن ننصرف، فقالا بأن لا شيء لديهم. فاستأذنا وانصرفنا.

بعد فترة من الصمت ونحن سائرون في المجاهل صوب “توده شني” قلت لزميلاي، أنه ليس من المهم أن نشارك نحن في العملية مادام هناك من يمكنه القيام بها. وافقاني على مضض، فكلاهما يشعر أن هناك شيئا ما غير صحيح. أما أنا فكنت على ثقة في أعماقي نفسي أن الذخائر الضخمة التي شاهدناها وتلك التي في المخازن ولم نشاهدها، هي (ثمن الخيانة) أي ثمن ألا يشارك وزير في ضرب المطار. بينما يعتمد المجاهدون في خطتهم على “وزير” في إغلاق المطار، يكون وزير انسحب من المعركة تاركا “المطار” كي يستجلب من كابول كل مستلزمات النصر في المعركة القادمة.

اجتمعنا مع حقاني مرة أخرى وأخبرناه عن “النتائج الوردية” لمقابلتنا مع وزير ولكنه نفى أن يكون قد اتفق معه على تفاصيل العمل التي ذكرناها!! فتأكد لدي أن هناك “مؤامرة باكستانية” للإبقاء على المطار الجديد مفتوحًا وإفشال المعركة القادمة، أو على الأقل جعلها معركة محدودة لا تؤدي إلى فتح المدينة.

زاد حماسي للمشروع، ونجحت في نقل جزء من ذلك الحماس إلى صديقي “أبوحفص” في القاعدة، فانبسطت أيديهم معنا ـ قليلا ـ ووصلنا عدد من الأشخاص وكمية من الصواريخ، فتحسن وضعنا نسبياً، وأصبحت على ثقة من أننا في معركة المطار الجديد لسنا منفردين. ولكن أكثر تخوفنا وحذرنا من أننا قد نتلقى ضربة مباشرة إلى أشخاصنا داخل الجبهة أو خارجها ـ خاصة في ميرانشاه. وأثبتت الأحداث صحة تلك التخوفات.

 

بطولات البدوي الشجاع

في منطقة ماليزي، كان البدو من جماعة جولاب يشغلون الخط الأول الذي كان على مسافة قريبة جدًا من جبال الخط الأول للعدو. وكانت الاشتباكات متقطعة بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة والهاونات.

كان مكانًا خطرًا. وصديقنا القديم “الحاج محمد أفريدي” الذي تعرفنا عليه في عمليتنا السابقة “المطار القديم ” كان نجمًا ساطعًا في الخط الأول.

ونجح في تثبيت مدفعه “الدوشكا” وإلى جانبه العلم الأبيض وخاض جولات مشهودة ضد العدو، اختلطت فيها صليات الرشاشات مع صليات الشتائم المهينة التي يصبها جنود العدو غير المهذبين على بطلنا الشاب الذي كان يتهددهم بالذبح مثل النعاج في القريب العاجل.

خلف جبل الخط الأول ساحة واسعة يخترقها مجرى سيل جاف وعميق اتخذه البدو”مقرا إداريا” حفروا فيه مغارات للراحة والنوم والمخازن. وعلى حافته وضعوا راجمة صواريخ بجوارها حفر عديدة للذخائر والطعام.

كتب حقاني رسالة إلى جولاب كي يسلمنا الراجمة، وأن يسمح لطاقم من عندنا باستخدامها من نفس موقعها ضد المطار الجديد. وافق البدو بترحاب، خاصة وأننا أوضحنا لهم أننا سنستخدم الراجمة ليلا فقط ضد المطار، أما أثناء النهار فيمكنهم استخدامها إذا احتاجوا إليها في عملياتهم، بشرط أن لا يستخدموا شيئا من ذخائرنا، فوافقوا بروح رياضية.

لم نكن نعلم وقتها -وربما أن حقاني لم يكن قد قرر بعد- أن تبدأ حملة تحرير خوست من ذلك المكان الذي يشغله البدو، وعلى أيديهم.

عندما قرر حقاني وتحددت ساعة الصفر للهجوم على جبال العدو وخط دفاعه الأول في ماليزي، كان الأمر غاية السرية ولم يعلم به سوى أفراد قلائل. فقط في اليوم السابق للعملية كان رجال البدو في ماليزي قد علموا بتفاصيل ماهو مطلوب.

العدو كان على أتم الاستعداد، ولكن جهة الغرب من تورغار، أما ماليزي وغيرها فكانت في إطمئنان تام. هذا لولا ملاسنة بالشتائم والرشاشات خاضها العدو ضد الشاب “الحاج محمد أفريدي ” ويبدو أن عناصر العدو كانوا يستمتعون بذلك الروتين القتالي مع الشاب البدوي المتحمس لدرجة الجنون. فكانوا يشتمونه على جهاز المخابرة ويصفونه “بالبدوي الأحمق”.

كالعادة كان البدوي يهددهم بالذبح في القريب العاجل، فيضحكون منه. ولكنه هذه المرة كان أكثر تحديدًا، فبعد السباب التقليدي أخبرهم البدوي الفصيح أنه قادم إليهم في الرابعة من صباح فجر الغد، ويطالبهم بالانتظار وعدم الهروب.

ضحك ضباط العدوّ وأغرقوا في الضحك، ولكنهم ندموا كثيرًا في صباح الغد، فقد كان التهديد دقيقًا بدرجة مميتة. ولحسن حظ المجاهدين أن العدو لم يأخذ ذلك التهديد مأخذ الجد فلربما تغير تاريخ أفغانستان المعاصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى