حقاني..العالم الفقيه والمجاهد المجدد (الحلقة 38)
بقلم: مصطفى حامد (أبوالوليد المصري)
■ كنا نسمع أن أمريكا تكوِّن جيشاً أفغانيا خاصاً من الشباب الذين هاجروا إليها، كي تستخدمهم لمشاريعها داخل أفغانستان. كنا نرى بعضهم ضمن “هيئات إغاثة إنسانية” يلبسون ملابس عسكرية ويضعون خناجر كبيرة على خاصرتهم، وقبعات رعاة بقر فوق رؤوسهم.
■ لولا القوة المعنوية لقيادة (حقاني) وثقة الأفراد والكوادر فيه لبقيت خوست في يد القوات الشيوعية، وتغير بالتالي تاريخ أفغانستان المعاصر.
■ البعض استطاع أن يتماسك وأن يفرض بقوة السلاح رؤيته لمسار الأحداث، وإكمال تحرير أفغانستان. وكان حقاني واحدا من هؤلاء القادة، وأبرزهم على الإطلاق.
■ عامل حقاني جميع الأسرى بما فيهم ضباط شيوعيين كبار معاملة كريمة جدا، وأطلق سراحهم، إما في الحال أو بعد فترة قصيرة كما أنه لم يتعرض بسوء للهندوس في المدينة.
مخـابـرات باكسـتانية – أسـلحة أمريـكية
– كما ذكرنا فإن علاقة حقاني مع السلطات الباكستانية كانت في أسوأ حالاتها. وذكرنا حالة الجفاء بينه وبين الجنرال “أسد دوراني” رئيس جهاز الإستخبارات ISI.
المعارك الأخيرة، ظنوها هجوم محدود آخر قد يكون آخر محاولات حقاني في سياسة القضمة قضمة. بعدها يشعر بعقم محاولاته ويصبح جاهزا مثل كل الباقين لقبول “الحل الدولي” وتشكيل حكومة طبقا للمواصفات الأمريكية/السوفيتية المشتركة. وحتى لا يقطعوا معه “شعرة معاوية ” أرسلوا له معونة شكلية من الذخائر التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وكانوا يعلمون أن مالديه من ذخائر ثقيلة لن يسير به طويلا في معركة ذات قيمة.
ثم قاموا بتحركات استعراضية للإيهام بأنهم خلف ما سوف يجري وأنهم سيدعمون الأسلحة الثقيلة تحديدا. كنت أراقب ما يفعلون. وما كنت أشاهده في المناطق التي نمر بها أشعرني بالقلق الشديد.
– قبل أيام من المعارك أحضروا أحد المعدات الثقيلة ومهدوا ساحة واسعة جدا.
ثم حفروا خندقا في أحد التباب ثم وضعوا به إثنين من الهاونات الثقيلة أمريكية الصنع، سمعت أنها متصلة بالأقمار الصناعية لتضبيط الرمايات.
موقع تلك الهاونات ومدى رماياتها لا يؤهلها للمشاركة في ضرب أي هدف هام، وكنت أعجب لكونها بعيدة جدا عن مواقع العدو. وأظن أن الهدف كان تجريبي بحت ولم يكن عملياتي.
طوال مدة الحرب كانت هناك عمليات تجريبية لأسلحة أمريكية كنا نسمع عن بعضها، ونجهل ماهية بعضها الآخر. بعض تلك التجارب تم في مناطق كنا فيها. وبعضها الآخر سمعنا عنه من أماكن بعيدة.
– تحرك إستعراضي آخر بالأسلحة الأمريكية شاهدته في منطقتنا الشرقية وكان عرضا مضحكا. سيارة بيك أب على ظهرها قاذف صاروخي دائري مثل الذي تستخدمه طائرات الهيلوكبتر، يقف خلف القاذف شاب أفغاني في العشرينات، يلبس ملابس عسكرية مرقطة ويتصرف تماما مثل بطل أبطال العالم “رامبو”. سائق السيارة أيضا يتصرف بطريقة سينمائية تماما، فينطلق بسرعة ويتلوي بسيارته كأنه في مشهد من مشاهد أفلام “الأكشن”. كان الوقت ضحى ورموا عدة صواريخ “صغيرة العيار” في اتجاه العدو. بعد التحري، علمنا أنها صواريخ إنشطارية مخصصة لضرب المطارات وكنا قد سمعنا عن ذلك النوع بعد عمليتنا على المطار القديم. كان تقديري وقتها أنها محاولة أمريكية لسرقة انتصار عملية المطار القديم والإيهام بأن السبب كان سلاحهم الانشطاري الجديد الذي لم نشاهد له أي أثر في المعركة، لا في المطار القديم ولا المطار الجديد. وها هم يظهرون مجددا في عملية المطار الجديد ـ في استعراض يتيم لم يتكرر. وقد تم المشهد في وقت كان المطار فيه خاليا كعادة المطار أثناء النهار. فلم يكن من الممكن أن يعمل سوى في الليل وتحت ستار أجراءات معقدة كما رأينا.
كنا نسمع دوما عن أن أمريكا تكوِّن جيشاً أفغانيا خاصا بها عماده هؤلاء الشباب الذين هاجروا إليها، كي تستخدمهم في وقت ما لمشاريعها الخاصة جدا داخل أفغانستان. كنا نرى بعضهم ضمن “هيئات إغاثة إنسانية” يلبسون ملابس عسكرية ويضعون خناجر كبيرة على خاصرتهم وقبعات رعاة بقر فوق رؤوسهم. كان شكلهم مثيراً واستفزازيا لدرجة كبيرة.
– مع “رامبو” الأفغاني وصواريخه الانشطارية عديمة القيمة، شاهدنا في نفس اليوم طاقما من ثلاثة أفراد من الاستخبارات العسكرية الباكستانية يطوفون بجبهتنا الشرقية في سيارة “جيب ” يابانية الصنع يقودها صديقنا “مجبور”.
أصابنا ذلك بالصدمة، وتوقف مجبور إزاء مجموعتنا وكنا في مهمة في الوادي خلف مراكزنا. وبادرنا بقوله أنه يحمل معه فريقا من مؤسسة زراعية تابعة لبرنامج معونات الأمم المتحدة.
بالطبع لم يصدقه أحد. فما أحد من مجموعتنا كان يجهل طبيعة تلك السحنات المظلمة لموظفي الاستخبارات الباكستانية. نظرات العيون من طرفنا ومن طرفهم تنبئ بأن كل منا يعرف طبيعة عمل الآخر ومشاعره أيضًا.
توترت مجموعتنا وشعر مجبور بذلك فانصرف مسرعًا متعلّلا بضيق الوقت. ومن حسن حظ الجميع أن ذلك الموقف لم يتكرر مرة أخري. بنفس الطريقة اختفى “رامبو” الأفغاني ولم يظهر مرة أخرى في منطقتنا.
سمعت عن “رامبو” ذو الصواريخ الانشطارية عديمة الفعالية، من أفغان وعرب، ولم أسمع شهادة واحدة عن هدف معلوم لرماياته ولا نتيجة من أي نوع.. فماذا كان يعمل بالضبط، ولماذا كان ينشر انشطارياته؟
بعد زمان طويل وخبرات في البوسنة والعراق وأفغانستان يمكن افتراض أن رامبو كان ينشر قذائف مشبعة باليورانيوم المنضب أو المخصب. ويبقى البحث علميًا في ذلك أمرًا غاية الصعوبة؛ ليس لغياب القدرات الفنية والعلمية لدى الشعوب المتضررة، بل لوقوع تلك البلدان تحت القبضة الأمريكية المباشرة التي تضع العالم كله في حالة إظلام تام، إلا من تلك المعلومات المضللة التي تخدم فقط المصلحة الأمريكية.
– حادث آخر تم ربطه بالعمليات الأمريكية المريبة في منطقتنا. فقبل بدء العمليات بعدة أسابيع كنا في جولة استطلاعية فوق خط الهضاب الأول “للمنطقة الشرقية” التي نزمع العمل فيها. كنا وقت الغروب والسماء صافية والهواء بارد جدا.
ظهر في السماء جسم لامع يتحرك ببطء. كنا نشاهد ذلك كثيرًا في أفغانستان وقت الليل ـ وافترضنا أن تلك الأشياء إما أنها أقمار صناعية، أو طائرات مرتفعة جدا.
هذه المرة كان ذلك الجسم أكبر كثيرا من المعتاد. وما إن صار فوق منتصف الوادي حتى توقف تقريبا. لم نشاهد شيئا مثل ذلك من قبل، فبدأت مجموعتنا تتبادل الأسئلة الحائرة.
اكتشفنا أننا لم نكن وحيدين في تلك الحيرة، بل أن القوات الحكومية في الوادي كانت تشاركنا الرأي. وبدأوا بإطلاق أسلحتهم المضادة للطائرات على ذلك الجسم المضيء فأخذ الجسم يتحرك ببطء شديد ثم زاد من سرعته حتى اختفى.
بالطبع لم نجد تفسيرا لذلك، وحتى الآن لا أفهم مغزاه. ولكن عباقرة العرب في بشاور، وبعد فتح مدينة خوست وجدوا التفسير، فقالوا إن ذلك الجسم المضيء كان قمرًا صناعيًا أمريكيا قام بتصوير المواقع العسكرية الحكومية، وسلمها لحقاني، فاستطاع الأخير بذلك فتح مدينة خوست.
كان هؤلاء من “عرب سياف” و”عرب السعودية ” لذا لم نندهش من طفراتهم العبقرية التي تطل من وقت إلى آخر على الساحة العربية الموبؤة في بشاور.
الغنائم وحروب العصابات
– استهلاك الذخائر من الموضوعات الهامة جدا في هذا النوع من الحروب، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا ليس بتطور العمل العسكري فقط ـ بل بالجانب الاقتصادي أيضا ـ ثم الأهم الجانب السياسي للحرب.
أطلقت على الكتاب الأول من كتب “أدب المطاريد” اسم (15طلقة في سبيل الله)، وتحدثت عن مشكلة الذخائر في الحرب غير التقليدية “العصابات”. كان في ذهني أن أعود لتلك النقطة عند الكلام عن”فتح خوست”، وهي نقطة الذروة في تلك الحرب ومرحلتها النهائية ـ مرحلة اقتحام المدن. فالمقارنة بين الحالتين تكون هامة جدا ومفيدة من واقع تجربة حية حدثت أمام أعيننا في أفغانستان على أيدي المسلمين في تجربة نادرة في تاريخهم الحديث.
وخوست تحديدا كانت هي المدينة الوحيدة في أفغانستان التي شاهدت تلك التجربة. وجميع المدن الأخرى بدأت تتساقط بالتتابع بدون عملية اقتحام كالتي حدثت في خوست التي كانت النقطة التي انقطع فيها خيط المسبحة.
إن خوست مثالاً رائعا لدراسة تجربة متكاملة في حرب العصابات تحمل السمات الأفغانية بشكل ناصع الوضوح. وكذلك سمات الموقف الدولي وقتها ـ على اعتبار أن حروب العصابات في تلك المرحلة التي أطلقوا عليها مرحلة الحرب الباردة، التي غطت المساحة الزمنية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) وحتى سقوط الاتحاد السوفيتي (1991). في تلك المرحلة تعامل القطبان الأعظم دوليا (أمريكا والسوفييت) مع حروب العصابات ـ بتسمياتها المختلفة: من حرب تحرير إلى حرب تحرر وطني إلى مقاومة وطنية.. إلخ، تعامل القطبان مع كل ذلك على أنها حروب بالوكالة، واستطاعوا بالفعل تحويل معظمها إلى حروب بالوكالة، متجاهلين مصالح الشعوب التي خاضت تلك الحروب.
ذلك التعسف المتجبر من القوى الدولية العظمى منعت معظم الشعوب التي خاضت تلك الحروب من تحقيق مصالحها إما بشكل كامل أو بشكل جزئي.
فإذا فازت تلك الشعوب بشيء من الفوائد تتوالى الضغوط الدولية عليها لاستخلاص تلك الفوائد. فهناك الحروب المتّصلة من الداخل والخارج، وهناك الحصار الاقتصادي وهناك الحرب النفسية لفرض حصار سياسي ومعنوي وحواجز بين ذلك الشعب “المنتصرجزئياً ” وبين شعوب العالم التي قد يغريها اقتفاء أثره وإعلان العصيان على الظلم الدولي.
وما حدث في أفغانستان بعد سقوط النظام الشيوعي كان مثالا “كلاسيكيا” على استخلاص الفتات الذي قد تفوز به الشعوب، وفرض الهزيمة الكاملة عليها إن لم يكن في ساحات الحرب ففي ساحات العمل الاقتصادي والسياسي والنفسي والأمني بعد انتهاء الحرب.
– نعود إلى “الغنائم” وأهميتها في تزويد الحركة الجهادية بمستلزماتها من الذخائر. وهذا أمر يسير نسبيا في بدايات الحركة نتيجة حجم مقاتليها الصغير وأسلوبهم في العمليات الصغيرة الخاطفة.
ولكن الأمر يزداد تعقيدًا مع نموّ الحركة وزيادة عدد مقاتليها واعتمادها التدريجي والمتزايد على الأسلحة الثقيلة، والحجم الأكبر للعمليات العسكرية، وعلاج هذه المشكلة ممكن لكنه يحتاج إلى انضباط وسيطرة شديدة، وقيادة قوية كفؤه، وعناصر مدرية ومنضبطة.
وكما رأينا في أحداث فتح خوست أن الذخائر المتوفرة في المخازن المركزية لدى الحركة لم يكن كافيا سوى لجزء محدود من معركة الفتح وهو على الأكثر، الاستيلاء على خط الدفاع الجبلي في جنوب الجبهة.
ولولا القوة المعنوية للقيادة (حقاني) وثقة الأفراد والكوادر فيه، لما أمكن تجاوز هذه المشكلة، وربما بقيت خوست في يد القوات الشيوعية، وتغير بالتالي تاريخ أفغانستان المعاصر، لأن التسوية الدولية كانت جاهزة وأبطالها على أهبة الاستعداد للقفز على الحكم والسيطرة على زمام الأمور بدعم دولي كامل.
إن نظام الغنائم لم يطبق في الحرب الأفغانية بشكله الإسلامي الصحيح إلا فيما ندر، وإلا فإن المصطلح الشرعي تم إطلاقه على عمليات سطو وغلول كلها يستحق العقوبة الشرعية.
وبشكل عام كانت عملية الجهاد في أفغانستان أقرب لأن تكون عملية تمرد شعبي وقبلي مسلح واسع النطاق، خارج عن نطاق السيطرة المركزية لأي طرف. فيما عدا طرف خارجي هو الولايات المتحدة، التي كانت تشجع وتدفع نحو الفوضى وكانت باكستان هي الطرف الإقليمي الأساسي في إشعال تلك الفوضى من أجل توسيع نطاق نفوذها الإقليمي في أفغانستان على أمل ابتلاعها كلها أو معظمها في المستقبل.
هذا لا يمنع أن بعض الأطراف، في خضم تلك الفوضى، استطاع أن يتماسك وأن يفرض بقوة السلاح رؤيته لمسار الأحداث، وإكمال تحرير أفغانستان، ومحاولة إقامة نظام إسلامي.
وكان حقاني واحدًا من قادة تلك المحاولات، بل أبرزهم على الإطلاق، وكان حوله عدد كبير من علماء الجنوب الكبار، كانوا أقل شهرة على المستوى الخارجي.
كانت الغنائم كافية لتسيير شؤون الجهاد من بدايته حتى نهايته بالانتصار الكامل، وكان ذلك يستدعي وجود اتحاد حقيقي بين المجاهدين وقيادة قوية كفوءة. وأن يطبق قانون الغنائم بشكل مركزي على الجميع، وتنتهي الظاهرة التي بدأت مع تدويل الجهاد، أي المتربصين أو “قوافل الغلول ” التي ظهرت عند فتح خوست ومن بعدها عند استسلام باقي المدن.
– ولا شك أن موضوع الغنائم يحتاج إلى اجتهاد فقهي جديد في ظروف الحروب الحديثة، لكون العديد من المعطيات المحيطة بالحرب قد تبدلت.
ففي القديم كان المجاهد وحدة مكتفية ذاتيا ـ تقريباـ من حيث السلاح والمعدات الأخرى والنفقات، والتدريب.. الخ.
وحاليا يحتاج المجاهد إلى معظم تلك الاحتياجات أو كلها من القيادة.
– أما عن الغنائم من السلاح الثقيل، فإذا كانت القيادة تشتري حصة المجاهدين من تلك الأسلحة، حتى يعاد استخدامها في القتال مرة أخرى ولا تخرج من ميدان المعركة كي تباع خارج الحدود، فإن ذلك سيدفع القيادة نحو الإفلاس نظرا لارتفاع أسعار تلك المعدات، وعدم توافر سيولة كافية لدى القيادة.
وبالتأكيد سيتأثر باقي النشاط الجهادي ويضعف إذا توجهت الأموال إلى بند واحد فقط ـ رغم أهميته الكبيرة ـ وهو السلاح الثقيل.
– كلما زادت نسبة التمويل الخارجي للحركة كلما قلت حريتها في اتخاذ قرارها السياسي. أو حسب القاعدة الشهيرة: “يأتي القرار من حيث يأتي الدولار”.
وفي أفغانستان كان يمكن للغنائم ان تحل المشكلة كلها أو معظمها على أقل تقدير.
ولكن المصيبة العظمى في العمل الإسلامي كله، وقد كانت ظاهرة بشكل بشع في أفغانستان، هي التفرق، وهي مشكلة تعوق حركة الإسلام في العالم كله وداخل كل مجتمع إسلامي.
فلا شك أن حرب أفغانستان ضد السوفييت كان يمكن أن تكون أقصر زمنيا وأقل كلفة في الأرواح والأموال، لولا أنها -بفعل التدخل الدولي- تحولت إلى فوضى عارمة أكلت الأخضر واليابس، وكانت نتائجها غير متناسبة مع ما بذل فيها من ثمن.
وبسبب الفرقة أيضا تمكنت أمريكا من اجتياح البلد “أفغانستان” ومطاردة الإسلام في أقوى معاقله على سطح الأرض.
– في حرب العصابات طويلة الأمد ـ كما في الحالة الأفغانية ـ أثناء المرحلة الأولى لا يكون ممكنا الإستفادة من المعدات والأسلحة الثقيلة التي يغنمها المجاهدون؛ لذا يجري إتلاف هذه المعدات أو تدميرها، فيما عدا الأجزاء الصغيرة التي يمكن انتزاعها للاستفادة منها.
أما الذخائر الثقيلة، فتستخدم في كمائن المتفجرات أو شق طرق للمرور في الجبال.
وعندما تتسع رقعة الجبال التي يسيطر عليها المجاهدون، تبدأ ظهور “قواعد المجاهدين”، وهي من أهم معالم المرحلة الثانية لحرب العصابات وهي مرحلة غاية الحساسية، لأن الوصول إليها يعني في غالب الأمر أن انتصار المجاهدين بات مسألة وقت. فيعلوا الحديث عن تسوية سياسية كما يعلو ضجيج المعارك وتزداد عنفا حتى يحصل كل طرف على أكبر مكاسب سياسية.
“قواعد المجاهدين” تقوم بمهام الإدارة والتدريب والتخزين ومقار الاستخبارات، والتخطيط العسكري، واجتماع القيادات.. الخ.
لذا فهي تعكس جانباً هاماً وأساسيا من جوانب تطور حرب العصابات، ودلالة على وصوله مرحلتها الثانية (مرحلة التوازن). ولما كانت تلك القواعد ثابتة، لذا تصبح تلقائيا هدفا لهجمات العدو الجوية والأرضية.
نعود إلى موضوع استهلاك الذخائر، فنقول: أنه يتوقف على حجم المجموعات، وعيارات الأسلحة ثم كثافة العمليات.
وهناك عوامل هامة لكنها أقل وضوحًا مثل مستوى التدريب ومستوى السيطرة على القوات وكفاءة القيادة.
ومصير الحرب الجهادية كلها قد يحدده عنصر الذخائر، وارتباط ذلك العنصر بعامل الاقتصاد وعامل السياسة.
وبشكل عام فإن العنصر الممول للحرب هو العنصر المستفيد من نتائجها، أو معظم تلك النتائج. فإذا تعدى استخدام الذخائر إمكانية التمويل الذاتي للمقاتلين (أو الحركة الجهادية) فإنها ستلتفت نحو العون الخارجي، وهنا تقع في المصائد السياسية لأطراف خارجية. ولا بأس من ذلك إذا كان هناك تطابق سياسي وأيدلوجي مع ذلك الطرف الخارجي ـ ولكن ذلك أمر نادر الحدوث (وهو ما حدث مثلا مع حركة التحرير في فيتنام الجنوبية التي قاتلت الأمريكين، بالاعتماد الكامل على فيتنام الشمالية التي تطابقت معها كاملا سياسيا وأيدولوجيا وسكانيا).
ولكن مثل ذلك التطابق لم يكن موجودا بين الحركة الجهادية الأفغانية وحكومة باكستان التي دعمتها في شتى المجالات. فكانت النتائج ماهو معروف حاليا من ضياع كل نتائج الجهاد في أفغانستان وعدم تحقيقه لأي من أهدافه سوى هدف طرد السوفييت الذي جاء لصالح الأمريكيين فقط ولغير صالح المسلمين لا في أفغانستان ولا في العالم كله.
بل أكاد أقول إن خسائر المسلمين من جراء سقوط الاتحاد السوفيتي كانت أفدح من خسائر ذلك الاتحاد نفسه. فقد جرت عملية كبرى لمعاقبة المسلمين في العالم كله، وفرض المزيد من الهزائم والقهر عليهم لمنعهم من الاستفادة من انتصارهم الذي تحقق في أفغانستان.
حدث ذلك في طاجكيستان وأوزبكستان وكل أسيا الوسطى، والشيشان والقوقاز، ثم البوسنة وكل أوروبا بل في كشمير وكل شبه القارة الهندية، وفي الصين وأندونيسيا والفيليبين.
ونضيف أنه تمت معاقبة التيار الإسلامي في العالم كله، وزاد ارتباط أنظمة المنطقة بإسرائيل وأمريكا للعمل المشترك ضد التيار الإسلامي على اعتباره “تياراً غير ديموقراطي ومعادي للسلام”!! كل ذلك له ارتباط لا شك به، بالإنجاز الذي أحرزه المجاهدون الأفغان والعرب ومن شتى البلاد الإسلامية في أفغانستان.
باختصار.. كان مفهومًا أن صحوة إسلامية جهادية كالتي ظهرت بوادرها وفعاليتها الكبرى في أفغانستان ـ رغم كل العوائق والسلبيات هي الحل الحقيقي لاستقلال العالم الإسلامي عن الهيمنة الأمريكية ونهاية المشروع الإسرائيلي في فلسطين والعالم.
– النتائج السياسية السلبية التي حصلنا عليها في أفغانستان هي نتيجة منطقية لغياب الوحدة في صفوف المسلمين، ثم وضع الأمر في يد قيادات غير أمينة “خائنة” سلمت كل أمورها لأعدائها لقاء مكاسب شخصية هزيلة.
وأخيرًا سقط الجهاد كله كورقة في اليد الأمريكية تلعب بها وفق مصالحها الدولية.
ولا شك لدينا أنه كان يمكن للمسلمين الفوز في تلك المعركة بالاعتماد الكامل على الله وعلى الامكانات الذاتية للأفغان والمسلمين.
وأن التكنولوجيا الأمريكية لم يكن لها أي دور يذكر في الانتصار الذي حصل، بل كانت ركوبا على موجة الانتصار لترويج أسلحتها دوليا ورفع مكانتها السياسية كقطب أوحد.
ورأينا حركة طالبان تخوض حرب عصابات ناجحة ضد الاحتلال الأمريكي والأوروبي في ظروف غير مواتية من جميع النواحي مع حصار إستراتيجي مفروض عليها من أعداء أقليميين يحاصرونها تماما من كل جانب. ومع ذلك نجحت الحركة والشعب الأفغاني بجدارة كبيرة جدا.
نعود إلى مقارنة استخدام الذخائر في المرحلة الأولى مع المرحلة الثالثة، فنقول: إنه في المرحلة الأولى “عام 1979” كنت وزميلي المنياوي، نشكل المجموعة العربية الوحيدة في أفغانستان. وخلال الفترة التي قضيناها استهلك كل واحد منا خمسة عشر طلقة ـ وكان ذلك كما ذكرنا ـ تبذيرا غير عادي. (انظر كتاب: 15 طلقة في سبيل الله).
أما الآن في المرحلة الثالثة للحرب فكانت مجموعتنا العاملة في “مشروع المطار الجديد” وعددهم يتراوح بين ثلاثين إلى أربعين شخصاً، استهلكنا 1400 قذيفة كاتيوشا عيار 107 مليمتر.
ولم نكن هذه المرة سوى جزء صغير جدا من التواجد العربي في أفغانستان، ومجرد جزء من التواجد العربي في خوست. فقد كانت هناك مجموعة أبو الحارث ـ أهم مجموعة عربية عاملة في خوست ـ ثم مجموعة تنظيم القاعدة كأهم مجموعة “للتدريب” وليس المشاركة العسكرية. وكنا قد استخدمنا في “مشروع المطار القديم” 1200 قذيفة كاتيوشا فقط، رغم أنها كانت عملية أكثر دقة ونجاحاً من مشروعنا للمطار الجديد، الذي تميز بأنه كان أشد خطورة بل مجازفة جنونية بكل معنى الكلمة، ولكننا حققنا قدرا جيدا من النجاح رغم كل شيء.
وزيادة استهلاك الذخائر (1400) قذيفة يرجع إلى أننا قدمنا دعمًا بالنيران لمجموعات أرضية للمجاهدين. كما أن البدو استولوا على الراجمة واستخدموها نهارا وقت بداية العمليات، فتركنا لهم المنطقة كما ذكرنا سابقا.
من سمات معارك تلك المرحلة الثالثة هو التكثيف أو التركيز الشديد أو حدة المعارك.
ذلك يعني معارك قوية وقصيرة وذات استخدام كبير جدا في الذخائر من العيارات الكبيرة.
فإذا قارنا على سبيل المثال بين معركة خوست، كنموذج مثالي ووحيد أفغانيا لمعارك فتح المدن في المرحلة الثالثة لحروب العصابات، وبين معركة قاعدة جاور1986 (انظر كتاب: معارك البوابة الصخرية)، نجد أن معركة فتح خوست قد استغرقت ثلاثة عشر يومًا فقط إضافة إلى يومين وقفة تعبودية. بينما استغرقت معركة جاور ثمانية وعشرين يومًا.
– عدد شهداء فتح خوست يكاد يعادل شهداء معركة جاور أو أقل قليلا (90 شهيداً تقريبا في خوست، مقابل 120 شهيدًا في جاور تقريبا).
– استهلاك الذخائر لدى المجاهدين في معركة خوست لم يسبق له مثيل، بحيث نفذت بالفعل ذخائر الدبابات والهاونات ـ ثم تبعتها باقي الذخائر حتى الخفيف منها ـ ولولا عناية الله والغنائم الهائلة التي غنمها المجاهدون من الخط الدفاعي الجنوبي ومخازنه الخلفية الملاصقة له، لانتهت العملية كلها إلى الفشل وربما إلى كارثة.
ـ في جاور كان الاستهلاك الأساسي هو في ذخائر المضادات الجوية (الدوشكا 12,7 مليمتر ـ والزيكوياك 14,5 مليمتر) لأن المعركة كلها تقريبا كانت ضد الطائرات إلا في الجزء الأول منها عند الدفاع عن جبل رغبلي، فكانت معارك متلاحمة تقريبا تعتمد على المشاة ذوي التسليح الخفيف والمدعومين بالهاونات أساسا ثم راجمات الصواريخ.
– في معركة فتح خوست كانت رمايات العدو بالطيران وصواريخ سكود التي تنطلق من العاصمة كابول، كانت شيء فوق أي تصور.
فالطيران كان متواجدًا فوق سماء خوست معظم ساعات النهار والليل وحسب مشاهداتي وقتها كان خط الجبال الجنوبي مشتعل بقذائف الطيران من مختلف الأنواع، طوال اليوم، طوال المعركة بلا انقطاع، وبطول يصل إلى 15 كيلومتر تقريبًا.
أما القنابل العنقودية فكانت تغطي الوادي كله تقريبًا ـ ماعدا المناطق التي مازالت تحتفظ بها القوات الحكومية ـ وذلك طوال النهار والليل تقريبًا. وغطى القصف الجوي والعنقودي المنطقة شرق الوادي من خط دفاع العدو وحتى منطقة الراجمات عندنا ثم شمالا إلى خط الجبال المقابل لنا. وقد أخبرنا العديد من المجاهدين في مناطق أخرى أنهم تصوروا أنهم لن يجدوا أحياء من مجموعتنا على الإطلاق. ومع ذلك لم نفقد ولا شخص واحد أو حتى جريح واحد.
– هذا ولم يكن لدى المجاهدين أي دفاعات أمام طائرات العدو، لأنها تأتي على ارتفاعات شاهقة وترمي بدقة عالية، وتكتشف الأهداف بدقة نهارًا وليلا. وكان من بينها أنواع جديدة تشارك لأول مرة في العمليات من طرزات الميج و”السوخوي” السوفيتية.
– كان لدى المجاهدين عدد محدود جدا من صواريخ ستنجر لكنهم لم يسقطوا أي طائرة سوي هيلوكبتر عسكرية (مي24) فوق المطار الجديد في عصر اليوم السابق لسقوط المدينة. وأعطبوا ثلاث طائرات أخرى من نفس الطراز بأسلحتهم المضادة للطيران، وكلها خفيفة ومتوسطة العيار.
وعامة لم يكن للهيلوكبتر في هذه المعركة تأثير يذكر لأنه كان يخاف كثيرًا من صواريخ ستنجر على قلتها، ولأنه لابد وأن يعمل من على ارتفاعات منخفضة فكان معرضاً أكثر لنيران الأسلحة الخفيفة. ومع ذلك فقد أبدى طياروا الهيلوكبتر شجاعة كبيرة في القتال خلال اليومين أو الثلاثة الأوائل ثم انطفأوا فجأة.
بعد الفتح استولى المجاهدون على ثلاث طائرات هيلوكبترمعطوبة بدرجات متفاوته. أما مجموعاتنا مع مساعدات قليلة من آخرين ـ فقد تمكنت من إحراق ست طائرات نقل عسكرية وأسرت طائرة أخرى منعتها من الإقلاع في صباح اليوم الأخير لمعارك الفتح.
لذا تكون مجموعتنا صاحبة أفضل سجل في”الدفاع الجوي” في تلك المعركة. وكان يمكن أن تحقق نتائج أفضل من ذلك بكثير لولا الظروف التي تحدثنا عنها سابقا، وحالة الاضطراب التي ترافق عمليات أرضية واسعة وسريعة الحركة، مع حالة انضباط تتم بمعجزة إلهية ومعرضة للانفراط في أي لحظة أو أي طارئ كبير.
حوار بالمدافع
– الرمايات المدفعية في تلك المعركة، كان المجاهدون نجومها. فقد كانت دقيقة نسبيًا وسريعة الرد، وعلي درجة من الكثافة لا بأس بها ـ وظلت تعمل طول المعركة بينما مدفعيات العدو تضعف تدريجيا ثم تنطفئ.
السبب هو أنّ انكماش رقعة الأرض التي يسيطر عليها العدو جعله يجمع مدفعياته في مناطق محدودة، كلها في مرمى مدفعيات المجاهدين.
فكثرت الإصابات في مدفعية العدو. ونتيجة الحصار والخطورة الشديدة في استخدام المطار، لم يستطع تعويض ذخائره، ثم عادة العدو السيئة في الاستخدام المفرط للذخائر استنفذت مخزونة بعد أيام قليلة.
المركز الأساسي لمدفعيات العدو كان هضبة متون، التي ملأها بالحفريات والخنادق لأنواع مختلفة من مدفعيات الميدان والهاونات الثقيلة والدبابات. وكان التكدس رهيبا، ولنا أن نتوقع أن خسائرهم كانت كذلك.
المركز الآخر لمدفعيات العدو كان خلف المطار الجديد بمسافة قليلة في مركز صحراوي جيد الإعداد يفصله عن المطار مدق ترابي متسع هو بداية الطريق الواصل بين المدينة وجبل كوكاراك ويسير طويلا حتى يصل إلى”جاجي ميدان”.
مركز المدفعية هذا بدأ بداية قوية جدا في اليوم الأول للمعركة، ثم انخفض أداؤه كثيرا بعد اليوم الثالث ـ وقد خصص لراجماتنا جزء من مجهودة، وكان أداؤه جيدا حقا في بداية الأمر.
ــ مدفعيات المجاهدين لم تقدم لنا دعمًا يذكر في عمليتنا هذه ضد المطار الجديد. فقط في اليوم الأخير للمعركة عندما حاولت طائرة شحن أن تفر من المطار عند الضحى، وتصدت لها راجمتنا، تدخل أحد مدافع المجاهدين لدعمنا، وكان مؤثرا وساعدنا في أسر تلك الطائرة.
سبب ذلك الدعم هو أن مدفعية المجاهدين في ذلك اليوم الأخير للمعارك كانت “خالية شغل” تقريبا، وكانت العملية في الضحى حيث يسهل رؤية الهدف.
أسـرى يوم الفتح
– في المرحلة الثانية من معركة فتح خوست (26ـ31مارس) (10ـ15رمضان)
عندما تمكن المجاهدون من عبور نهر شمل الثائر. أيقن العدو في مختلف مراتبه أنه قد خسر المعركة وأنهم لم يعودوا يدافعون عن مدينة خوست بل عن حياتهم الشخصية ـ وذكرنا أن ميليشيا “جلم جم ” الأوزبكية التابعة لعبد الرشيد دوستم (رئيس أركان للجيش الأفغاني بعد الاحتلال الأمريكي!!)، تلك الميليشيا كانت الأشد شراسة في القتال لانتفاء إمكانية هروبها أو العفو عنهم نتيجة سجلهم الوحشي والإجرامي في المنطقة.
الكثير من الضباط بدأوا في الهروب بثياب مدنية وخرجوا مع أفواج المدنيين الفارين من المدينة، أو دخلوا في الجبال لاجئين إلى قبائل بعينها كانت تتعامل مع الحكومة.
في موقعنا الشرقي وفد علينا الكثير من العسكريين الفارين، وكنا نسلمهم للمجموعات التي حولنا. جميعهم كانوا يدعون أنهم مجرد جنود يعملون في حفر الخنادق، وهم أردأ أنواع الجنود، وكثير منهم كانوا كاذبين. فجندي حفر الخنادق كان يُعرف من النظرة الأولى، فهو قروي ساذج جدا متيبس الجسم جاف الملامح أسمر اللون ذو أيدي صلبة وكفوف يد كالخشب لكثرة استخدام المعاول ورفع الأحجار.
ذات يوم جاءنا شخص في ثياب مدنية نظيفة وقال لنا إنه هارب من الجيش وعند سؤاله عن عمله في الجيش قال إنه يحفر الخنادق. نظرت إليه فإذا وجهه أبيض مستدير يكاد الدم ينبثق منه، وكف يده ناعمة كأنه لم يحمل سلاحا في حياته. أيقنت أنه ضابط استخبارات، فحولناه إلى المجموعات التي حولنا متمنين أن يقتلوه، لكنهم لم يفعلوا وأخذوه بعيدا عنا.
لقد عامل حقاني جميع الأسرى بما فيهم ضباط شيوعيين كبار في الجيش والاستخبارات معاملة كريمة جدا، وأطلق سراحهم جميعا إما في الحال أو بعد فترة قصيرة (العديد من هؤلاء عادوا للظهور ضمن الجهاز الأمني والعسكري الذي صنعته أمريكا لحكم أفغانستان بعد سقوط حكم طالبان)، كما أنه لم يتعرض بسوء للهندوس في المدينة.
وذكرت سابقا أنني طلبت من حقاني إعطائنا قرية الهندوس كي نجعلها قرية للعائلات العربية بعد أن بدأت عمليات الاضطهاد، وأوشكت على البدء عمليات المطاردة والاعتقال في باكستان، تحت إشراف فرق من الاستخبارات الأمريكية. ولكنه رفض الفكرة وقال إنه سيجد حلولاً أخرى في المدينة. وبالفعل أخذ بعض العرب في وقت لاحق بيوتا على طرف هضبة متون كانت لخبراء ألمان شرقيون.