حكم الأسارى في الإسلام
عندما نقلّب أوراق التاريخ نرى معارك دارت بين المسلمين والكفار، منذ بدء الإسلام إلى يومنا هذا وستبقى سلسلة هذه المعارك إلى يوم القيامة، كما قال نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم: (وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ). ( رواه أبوداود، عن أنس مرفوعا)
و لكن الحرب سجال، ينالون منّا وننال منهم، وأمّا قولهم: إن الفوز والفلاح لنا، فهذا القول، خيالٌ لا هلالٌ.
والفرق بيننا وبينهم: أننا جند الله، نسير على طريقه، ونتبع أحكامه، نوالي أولياءه، ونعادي أعداءه، ونتبع في الطريق أحكامه، وله حدود وأحكام، نشرح منها، حكم الأسارى في الإسلام.
حكم الأسارى في الإسلام:
أسرى: جمع أسير كجرحى جمع جريح، وأسارى جمع الجمع بمعنى المحبوس (مصباح اللغات).
الأسرى: هم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياءاً. (الفقه الإسلامي)
ومن المعلوم أن الأسر مشروع لقوله تعالى: {وخذوهم واحصروهم}(التوبة:۵) وقوله تعالى: {فشدّوا الوثاق} (محمّد:4 ) وهو كناية عن الأسر، والأسر في حرب المسلمين قليل؛ لأن المسلم لا يأسر عدوّه عادة إلّا في نهاية المعركة، أمّا في أثنائها فنادر والأسير عالة على الأسر.
والثابت من فعل الرّسول صلّى الله عليه وسلم أنّه كان يمنّ على بعض الأسارى ويقتل بعضهم ويفادي بعضهم بالمال أو بالأسرى، وذلك على حسب ما تقتضيه المصلحة العامة وما يراه ملائماً لحال المسلمين.
الأسارى في القرآن:
قال الله عزّوجل في محكم كتابه العزيز: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنفال:67، 68، 69).
الآلوسي: {ما كان} ما صحّ وما استقام {لنبيّ} من الأنبياء عليهم السّلام {أن يكون له أسرى} أي يثبت له {حتى يثخن في الأرض} يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذلّ الكفر ويقل حزبه ويعزّ الإسلام ويستولي أهله.
روى أنه عليه السّلام أتى يوم بدر بسبعين أسيراً فيهم العبّاس وعقيل بن أبي طالب، فاستشار فيهم: فقال أبو بكر: هم قومك وأهلك استَبْقِهِمْ! لعلّ الله يهديهم إلى الإسلام، وخذ منهم فدية تقوّي بها أصحابك.
وقال عمر: كذّبوك وأخرجوك من ديارك وقاتلوك، فاضرب أعناقهم فإنهم أئمّة الكفر! مَكِّنّي من فلان -نسيب له- ومكّن عليًّا من عقيل، وحمزة من العبّاس، فلنضرب أعناقهم!
فلم يهو ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن الله ليلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللبن، وإنّ الله يشدّد قلوب الرجال حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال فمن تبعني فإنّه منّي ومن عصاني فإنّك غفور رّحيم، ومثلك يا عمر! مثل نوح، قال لا تذر على الأرض من الكفرين ديّاراً.
فخيّر أصحابه بأن قال لهم (إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم أطلقتموهم) بأن تأخذوا من كل أسير عشرين أوقية (إلّا أن يستشهد منك بعدتهم) فقالوا بل نأخذ الفداء ويدخل منّا الجنّة سبعون، وفي لفظ: ويستشهد منّا عدّتهم، فاستشهدوا يوم أحد بسبب قولهم هذا وأخذهم الفداء.
فعلم من ذلك: أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم وإن شاء استرقّهم أو تركهم أحراراً ذمةً للمسلمين.
(ويُعلم منه أيضا: أن الفداء يتسبب باستشهاد رجال من المسلمين، بعدة أسارى الكفار)
فنزلت الآية في فداء أسارى بدر، فدخل عمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر يبكيان. فقال: يا رسول الله! أخبرني فإن أجد بكاء بكيت، وإلا تباكيت! فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة.
قال في السيرة الحلبيّة: أسرى بدر منهم من فُدي ومنهم من خلّي سبيله من غير فداء، وهو أبو العاص ووهب بن عمير، ومنهم من مات، ومنهم من قتل، وهو النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط.
{تريدون عرض الدنيا} والخطاب لهم لا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأجلّة أصحابه، فإن مراد أبي بكر كان إعزاز الدين وهداية أسارى وفيه إشارة إلى أن أخذ الفداء من أسارى المشركين ما كان شيمة للنبيّ عليه السّلام ولا لسائر الأنبياء فإنّه رغبة في الدّنيا ومن شيمة النبيّ عليه السّلام أنه قال (ما لي وللدّنيا) {والله يريد الآخرة} يريد لكم ثواب الآخرة {والله عزيز} يغلب أولياءه على أعدائه {حكيم} يعلم ما يليق بكل حال، ويخصها به كما أمر بالإثخان ومنع عن الإفتداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخُيّر بينه وبين المنّ بقوله تعالى: {فإمّا منّا بعد وإمّا فدآء}. لمَّا تحوّلت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين.
قال بعضهم: دلّت الآية على أن الأنبياء مجتهدون، لِأن العتاب الّذي فيها لا يكون فيما صدر عن وحي ولا …. كان صواباً وأنه قد يكون خطأ، ولكن لا يتركون عليه بل ينبّهون للصّواب.
{لولا كتاب من الله سبق} باستبقاء هؤلاء الأسارى ليؤمن بعضهم ويؤمن أولا بعضهم وذراريهم {لمسّكم} لأصابكم {فيما أخذتم} لِأجل ما أخذتم من الفداء {عذاب عظيم}.
روي: أنه عليه السّلام قال: “لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ”. وذلك لِأنّهما أشارا بالإثخان. (روح المعاني : الأنفال: /47، 48 )
الأسارى في الحديث النبوي :
الإمام بالخيار في الأسارى إن شاء قتلهم وإن شاء استرقّهم أو تركهم أحراراً ذمةً للمسلمين.
وعن سلمة بن الأكوع قال: أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عين من المشركين، وهو في سفر فجلس عند أصحابه يتحدّث ثم انفتل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه، فقتلتُه فنفّلني سلبه. متفق عليه.
عن الزهري عن أنس بن مالك: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلمّا نزعه جاءه رجل فقال: يا رسول الله إبن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه. أخرجه البخاري ومسلم.
الإمام بالخيار في الأسارى إن شاء قتلهم، لِأنّه عليه السّلام قد قتل من الأسارى يوم بدر فأمر بقتل عقبة بن مُعيط والنضر بن الحارث، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلّم يوم أحد بقتل أبي عزة الشاعر الّذي أطلق الرسول سراحه يوم بدر فنظم بعدئذٍ شعرًا يحرض به على قتال المسلمين، وفتح الرّسول مكّة وأمر بقتل هلال ابن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سرح، وقال: “أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة”.
عن عطيّة القرظي قال: كنتُ فيمن أُخِذَ من بني قريظة، فكانوا يقتلون من أنبت، ويتركون من لم ينبت، فكنت فيمن تُرِكَ. أخرجه أصحاب السنن الأربعة. (نصب الراية للزيلعي: ۲ /۱۲).
يدل هذا الحديث على جواز قتل الأسير، واسترقاقه لِأنّه صلّى الله عليه وسلّم قتل من بني قريظة من جرت عليه المواسي واسترق من لم تجر عليه والنسوة.
و قد قام الإجماع على جواز قتل الأسير واسترقاقه. فقوله تعالى (فإمّا منًّا بعد وإما فداء) قضية منفصلة مانعة الجمع وليست بمانعة الخلو إتفاقاً، فلا حجة فيها لمن احتجّ بها على نفي الإسترقاق وادّعى عدم جوازه شرعاً، ولا يجترئ على مثل ذلك إلا من اجترأ على تفسير كتاب الله برأيه، وعمي عن ناسخه ومنسوخه ونبذ أحاديث الرسول وقضاياه وراء ظهره. (إعلاء السنن:12/106).
عن أبي مجلز والشعبي والحكم ومحمد بن المسير أنّ عمر بن الخطاب وجه عثمان بن حنيف على صراح السواد فذكروا الحديث بطوله وفيه: ورفع عنهم الرّق بالخراج الّذي وضعه في رقابهم وجعلهم أكرة في الأرض، فحمل من خراج سواد الكوفة إلى عمر في أول سنة ثمانون ألف ألف درهم ثم حمل من قابل مائة وعشرون ألف ألف درهم ولم يزل كذلك. أخرجه ابن سعد في الطبقات وابن زنجوية في كتاب الأموال بأسانيد صحاح وحسان. زيلعي:2 /126. (إعلاء السنن:12/105).
يدل الحديث المذكور على جواز ترك الأسارى أحرارا ذمةً للمسلمين ظاهرة.
وقال القاضي الإمام أبو يوسف في “كتاب الخراج” ( ص 33 ): قال محمد بن إسحاق عن الزهري: قال: افتتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه العراق كلها إلّا خراسان والسند، وافتتح الشام كلها ومصر إلا إفريقية. وأمّا خراسان وإفريقية فافتتحا في زمن عثمان بن عفان رضى الله عنه.
وافتتح عمر السّواد (سواد العراق) والأهواز، فأشار عليه المسلمون أن يقسم السواد وأهل الأهواز وما افتتح من المدن، فقال لهم: فما يكون لمن جاء من المسلمين؟ فترك الأرض وأهلها، وضرب عليهم الجزية وأخذ الخراج من الأرض.
قلت: ولا تضرب الجزية إلا على الأحرار دون العبيد، فدل على أنه تركهم أحراراً ذمة للمسلمين. وفي أثر المتن من التصريح ما فيه كفاية والله اعلم.
قال الموفق في “المغني”: وإذا سبى الإمام فهو مخير إن رأى قتَلهم وإن رأى منّ عليهم، وأطلقهم بلا مال، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم، وإن رأى فادى بهم، وإن رأى استرقّهم أي ذلك رأى فيه نكاية للعدوّ وحظًّاً للمسلمين فعل.
وجملته أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب:
الأول: النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقاً للمسلمين؛ لِأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان. متفق عليه. وكان عليه السّلام يسترقهم إذا سباهم.
الثاني: الرّجال من أهل الكتاب والمجوس الّذين يقرون بالجزية فيخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء:
القتل، والمن بغير عوض، والمفاداة بهم، واسترقاقهم.
الثالث: الرّجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية، فيتخير الإمام فيهم بين ثلاثة أشياء: القتل أو المن أو المفاداة. (إعلاء السّنن۱۲/۱۰۷)
عن عبد الكريم الجزري قال: كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أُسِر فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا فقال أبوبكر: اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحبّ إلي من كذا وكذا. (أخرجه الطبري: 6/ 26)
قلت: في قول أبي بكر: “لَقتل رجل من المشركين أحبّ إليّ من كذا وكذا”. دلالة ظاهرة على أنّه كان يكره المنّ على الأسير والمفاداة به. لا يقال: كأنّه رأى قتل هذا الأسير أحظ للإسلام وأهله لِأنّ قوله: “لقتل رجل من المشركين” يعم كل أسير ومن ادعى تخصيصه بهذا الرّجل بعينه فليأت ببرهان، وفيه رد على من كره قتل الأسير وأوجب المنّ أو الفداء، كما حكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير، وفيه دلالة على نسخ الأمر بالمنّ والفداء، وإلا لم يكره أبو بكر رضى الله عنه الفداء. (إعلاء السّنن: 12 / 110 )
حكم الأسارى عند الأئمّة الأعلام:
اتفق الفقهاء على أنّ لولي الأمر أن يفعل بالنسبة للأسرى ما يراه الأوفق لمصلحة المسلمين ويختار أحد أمور حددها كل واحد من أصحاب المذاهب بما هداه إليه إجتهاده.
مذهب الحنفيّة: ولي الأمر مخير في الأسرى بين أمور ثلاثة: إمّا القتل وإمّا الاسترقاق وإمّا تركهم أحرارًا ذمة للمسلمين، إلا مشركي العرب، والمرتدين، فإنّهم لا يسترقون ولا تعقد لهم الذمة، ولكن يقتلون إن لم يسلموا لقوله تعالى {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} (الفتح: 48).
ويحرم المنّ على الأسرى عند جمهور الحنفيّة لِأنّ في المنّ تمكين الأسير من أن يعود حرباً على المسلمين فيقوى عدوهم عليهم وهو لا يحل.
استدل الفقهاء على جواز قتل الأسرى بعموم آيات القتال مثل قوله تعالى: ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ (التوبة:9).
و بما ثبت في السّنة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قتل بعض الأسرى يوم بدر فأمر بقتل عقبة بن معيط والنضر بن الحارث وهلال بن خطل ومفيس بن صبابة وعبد الله بن أبي سرح وقال: “اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة”. ثم إنه قد يكون في قتل بعض الأسرى مصلحة كبرى للمسلمين حسمًا لمادة الفساد واستئصالاً لجذور الشرّ وقطع شرائين الفتنة وهذا كله بحسب الضرورة.
واستدلوا على جواز استرقاق الأسرى الّذي كان معاملة بالمثل مع الأمم الأخرى بسبب الحرب بقوله تعالى: {فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمّا منًّا بعد وإمّا فداء} قالوا: إن الاسترقاق قد فهم من الأمر بشدّ الوثاق، كما استدلوا بما ثبت في السير والمغازي من أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلم استرق بعض العرب كهوازن وبني المصطلق وقبائل من العرب، واسترق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غزوة خيبر وقريظة وفي غزوة حنين، وسبى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بني ناجية من قريش وفتحت الصحابة بلاد فارس والرّوم فسبوا من استولوا عليه. (الفقه الاسلامي: 8 / 5915).
وأمّا المنّ والفداء فثابت جوازهما في قوله تعالى: ﴿فإمّا منّا بعد وإمّا فداء﴾ وادعاء نسخ هذه الآية بآية البراءة السابق ذكرها وهي {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة:5) لا دليل عليه ولا حاجة إليه لإمكان الجمع بين الآيتين بحمل آية البراءة على الأمر بالقتال عند وجود العدوان وفي أثناء قيام الحرب مع الأعداء. وقصر آية المنّ على حالة ما بعد الانتهاء من الحرب والوقوع في قيد الأسر.
وقد منّ الرّسول صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن اُثال سيد أهل اليمامة كما منّ على أبي عزة الجمحي وأبي العاص بن الربيع والمطلّب بن حنطب يوم بدر ومنّ أيضاً على أهل مكّة بقوله عليه السّلام (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وكذا منّ على أهل خيبر وقال في أسارى بدر (لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلّمني في هؤلاء ….. لتركتهم له). أي لأطلقهم له بغير فداء أي بالمنّ.
وفادى أسارى بدر: وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً كل رجل منهم بأربع مائة دينار، وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين. (الفقه الاسلامي: 8 / 5917 ).
و أخرج مسلم عن إياس بن سلمة عن أبيه: أنّ سريّة من المسلمين أتوا بأسرى فيهم امرأة من بني فزارة فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل مكّة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسروا بمكّة. (نصب الراية: 3 / 404 ).
قال صاحب إعلاء السنن: لا يتم الاحتجاج بأحاديث المنّ والمفاداة ما لم يثبت أنّه صلّى الله عليه وسلّم منّ أو فادى بالأسارى بعد نزول براءة ودون إثباته خرط القتاد.
قال العيني في العمدة (۷:۵۷) ورأى أبوحنيفة أنّ المنّ منسوخ، قيل: كان خاصاً بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة (فإمّا منًّا بعد وإمّا فداءاً) نسخها (فإمّا تثقفنّهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) أخرجه الطبري في التفسير. (۶: ۲۶).
عن جريج أنّه كان يقول في قوله تعالى: {فإمّا منّا بعد وإمّا فداءاً} نسخها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}. (أخرجه الطبري: 6 / 26 ) .
وقال أبو عبيد: والقول في ذلك عندنا أن الآيات جميعاً محكمات لا منسوخ فيهنّ وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم عمل بالآيات كلّها من القتل والأسر والفداء.
والأمر فيهم إلى الإمام وهو مخير بين القتل والمن والفداء يفعل الأفضل في ذلك للإسلام وأهله، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور.
وقال أصحابنا: لا يجوز مفاداة أسارى المشركين قال الله تعالى: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله تعالى: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاٰخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الّذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} وما ورد في أسارى بدر كله منسوخ ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة براءة بعد “سورة محمّد” فوجب أن يكون المذكور فيها ناسخاً للفداء المذكور في غيرها.
و من ادعى كون الآيات كلها محكمة لا منسوخ فيها بدليل ما ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من المنّ على الأسارى والمفاداة بهم فليأتِ بدليل يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بعد نزول البراءة، وأما ما فعله قبلها فلا حجة فيه لكونه منسوخًا فافهم: فإنّ دليل الإمام أبي حنيفة في هذا الباب قوي جدّاً. والله أعلم بالصواب.