
حنين الصحابة إلى الجهاد والشهادة
أبو حفص
ضرب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة وأصدق الشواهد في التنافس على الذهاب لميادين القتال، وكان أحدهم حين لا يجد فرصة للخروج في سبيل الله؛ يقوم بإجراء قرعة بينه وبين إخوانه، فمن خرجت عليه القرعة، خرج للقتال، وبقي الآخر ليحمي النساء والصبيان، ويدافع عنهم إن حدث لهم أمر أو تعرّضوا لهجوم.
فهذا خيثمة رضي الله عنه، سمع منادي الجهاد يوم بدر، وشاهد النّاس يتسابقون إلى عيرهم لخوض معركة الشرف ضدّ مشركي قريش، فقال لابنه (سعد) لما ندب النبي – صلى الله عليه وسلم – المسلمين يوم بدر فأسرعوا: آثرني بالخروج، وأقم مع نسائك. فأبى وقال: لو كان غير الجنة، آثرتك به. فاقترعا، فخرج سهم سعد فخرج، واستشهد ببدر واستشهد أبوه خيثمة يوم أحد. (انظر سير أعلام النبلاء)
وهذا أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- كان يحب الجهاد في سبيل الله، وفي يوم بدر أراد أن يخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له خاله أبو بردة بن نيار: ابق مع أمك العجوز؛ لتقض حاجتها. فقال له أبو أمامة: بل ابق أنت مع أختك. وظل كل منهما يريد أن يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للجهاد، فاحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا أمامة أن يبقى مع أمه.
وظل -رضي الله عنه- ملازمًا النبي (في جميع غزواته لا يتخلّف عن غزوة، ولا يتقاعس عن جهاد. وشارك -رضي الله عنه- في جميع الحروب مع خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن أنس قال: جاء رجل إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين احملني فإني أريد الجهاد، فقال عمر لرجل: خذ بيده فأدخله بيت المال يأخذ ما شاء، فدخل فإذا هو بيضاء وصفراء، فقال: ما هذا؟ مالي في هذا حاجة، إنما أردت زادا وراحلة. فردوه إلى عمر فأخبروه بما قال، فأمر له بزاد وراحلة، وجعل عمر يرحل له بيده، فلما ركب رفع يده فحمد الله وأثنى عليه بما صنع به، وأعطاه قال: وعمر يمشي خلفه يتمنى أن يدعو له فلما فرغ قال: اللهم وعمر فاجزه خيراً (حياة الصحابة).
عن أبي نوفل بن أبي عقرب، قال: خرج الحارث بن هشام من مكة للجهاد، فجزع أهل مكة جزعاً شديداً، فلم يبق أحد يطعم إلا خرج يشيعه، فلما كان بأعلى البطحاء وقف ووقف الناس حوله يبكون، فلما رأى جزعهم رق فبكى، وقال: يا أيها الناس، إني والله ما خرجت رغبة بنفسي عن أنفسكم، ولا اختيار بلد عن بلدكم، ولكن كان هذا الأمر، فخرجت رجال، والله ما كانوا من ذوي أسنانها، ولا في بيوتاتها، فأصبحنا، والله، ولو أن جبال مكة ذهباً، فأنفقناها في سبيل الله، ما أدركنا يوماً من أيامهم، والله لئن فاتونا به في الدنيا لنلتمسن أن نشاركهم به في الآخرة، ولكنها النقلة إلى الله وتوجه إلى الشام فأصيب شهيداً. (الاستيعاب).
وأما خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه لما حضرته الوفاة قال: ما كان في الأرض من ليلة أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أُصبِّح بهم العدو، فعليكم بالجهاد. هو الذي احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وقال: لقد اندق في يوم مؤتة تسعة أسياف في يدي، فما صبرت معي إلا صفيحة يمانية، قال: أتى خالد بن الوليد رجل معه زق خمر، فقال خالد: اللهم اجعله عسلاً، فصار عسلاً.
وقصة بلال رضي الله عنه مشهورة بأنه ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه يقول له: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله – يقول: (أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله).
قال له أبو بكر: (فما تشاء يا بلال؟)
قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت.
قال أبو بكر: (ومن يؤذن لنا؟)
قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع: (إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله).
قال أبو بكر: (بل ابق وأذن لنا يا بلال)
قال بلال (إن كنت قد أعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له).
قال أبو بكر: (بل أعتقتك لله يا بلال).
فسافر إلى الشام حيث بقي مرابطاً ومجاهداً يقول عن نفسه: لم أطق أن أبقى في المدينة بعد وفاة الرسول، وكان إذا أراد أن يؤذن وجاء إلى: “أشهد أن محمدًا رسول الله” تخنقه عَبْرته، فيبكي، فمضى إلى الشام وذهب مع المجاهدين.
فهذا غيض من فيض ونماذج عن رغبة الصحابة رضوان الله عليهم أجميعين إلى الجهاد والشهادة والجنة، فالجنة كلمة كان لها فعل عجيب في نفوس الصحابة؛ فكانوا يستعذبون الآلام في سبيلها، ويستمتعون بالموت من أجلها!
روى الإمام مسلم رحمه الله، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: “يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟!” أصابت الكلمة قلبه لا أذنه!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قال عمير: “بخٍ بخٍ!”، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: «ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟!». قال: “لا والله يا رسول الله.. إلا رجاء أن أكون من أهلها”. قال: «فإنك من أهلها!»، بشرى من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن ليتقوى على المعركة، ثم قال: “لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه.. إنها لحياة طويلة!”… حياة طويلة تفصله عن الجنة!
قال أنس بن مالك: “فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل”.. موعده الجنة؛ فكيف يصبر على الحياة؟!
وما أدراك ما الجنة؟
روى الإمام مسلم رحمه الله عن المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سأل موسى عليه السلام ربه: “ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة.. فيقول: أَي رب.. كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟!، فيقال له: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟، فيقول: رضيت رب.. فيقول: لك ذلك ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ!، فقال في الخامسة: رضيت رب!!، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله!.. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك..!، فيقول: “رضيت رب!”، قال موسى عليه السلام: “رب فأعلاهم منزلة؟!”، قال: “أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها؛ فلم تَرَ عينٌ ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر”.. قال صلى الله عليه سلم: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [سورة السجدة: 17].. وليس معنى ذلك أن يقتصر المسلم في سعيه إلى الجنة على الرغبة في أدنى الدرجات، بل هو مأمور بالحرص على المعالي، وطلب الفردوس الأعلى في الجنة.. برفقة النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي يقول: «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» [رواه البخاري]. اللهم إنا نسألك الفردوس.. الحديث عن الجنة يطول ويطول.. ولابد أن نراجع معلوماتنا ومعايشتنا وأحوالنا مع الجنة.. وأنا على يقين من أن الجنة لو تعاظمت في صدورنا لهان علينا ما نحن بصدد المجاهدة لتحقيقه.. والله المستعان.