خطيئة الحرب على أفغانستان، وتحديات المستقبل
أحمد مولانا
(تبين أن التحذيرات الأولية حول تاريخ أفغانستان بوصفها مقبرة للإمبراطوريات مجرد تحذيرات بلا أساس. فبعد عمل سريع قادته قوات أمريكية وبريطانية وأفغانية حليفة، أُطيح بحكم حركة طالبان من السلطة…وبدت أهداف قوى التحالف متحققة ومنجزة)
وردت تلك الفقرة في كتاب وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر، (النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) المنشور بالإنجليزية في عام 2014، ورغم اتساع المعرفة والخبرة العملية لدى كيسنجر إلا أنه فشل فشلا ذريعا في فهم وتحليل المشهد الأفغاني، وأصدر حكما متسرعا بأن أميركا وحلفائها حققوا أهدافهم في أفغانستان، ومن ثم أسهب في الحديث عن الجهود الأمريكية الساعية لبناء حكومة أفغانية ديموقراطية تعددية شفافة ذات سيطرة على مجمل البلاد رفقة جيش وطني أفغاني قادر على الاضطلاع بمسؤولية الأمن على أساس وطني.
إن تحليل كيسنجر للمشهد الأفغاني تبدد على وقع الصمود الشعبي في معركة شرسة لمدة 20 سنة لتصبح اطول معركة في التاريخ الأمريكي، ولتنتهي بمشهد هروب فوضوي للجيش الأمريكي من مطار كابل، كما تلاشت الحكومة الأفغانية التي تغنى بها كيسنجر كأنها لم تحكم البلد تحت حراب المحتل طوال عقدين، في درس بليغ يمكن تلخيصه بوجوب عدم الاستخفاف بدروس التاريخ تأثرا بلحظة آنية عابرة، فمن يتجاهل حقائق التاريخ ودروسه ستتحطم أحلامه على صخور الواقع، وأن بإمكان الشعوب المستضعفة أن تهزم القوى الكبرى متى ما استثمرت نقاط قوتها ونقاط ضعف خصومها.
تراجع النفوذ الأمريكي على وقع حرب أفغانستان
لقد اعترف كبار القادة الأمريكيين بالتداعيات السلبية لحرب أفغانستان على النفوذ الأمريكي في العالم، فمدير السي أي إيه ويليام بيرنز يقول في كتابه “القناة الخلفية” (لقد تلاشت اللحظة الأمريكية التي دامت نصف قرن في الشرق الأوسط، نظراً لتبني إدارة بوش مزيجاً من التشدد والغطرسة رداً على أحداث سبتمبر؛ مما أدى إلى مضاعفة الاختلالات وتقويض النفوذ الأمريكي.. لقد أدى الإرهاق من التدخل الدولي بعد ما يقرب من عقدين من الحرب إلى تغذية الرغبة في تحرير أمريكا من قيود التحالفات والشراكات القديمة، وتقليل الالتزامات الخارجية التي يبدو أنها تحملنا أعباء أمنية غير عادلة وتجلب مشاكل اقتصادية)
أما مارك إسبر وزير الدفاع في عهد ترامب ، فقد نشر في مايو 2022 مذكراته بعنوان “قسم مقدّس: مذكرات وزير دفاع خلال أزمنة صعبة” قال خلالها (وجدنا أنفسنا في 2017 في وضع “ضمور استراتيجي” بعد ما يقرب من عقدين من التركيز على صراع منخفض الحدة في العراق وأفغانستان… لقد كان العقد والنصف الأخير يدور حول مكافحة الإرهاب وأمن القوافل والدوريات الراجلة وتسيير نقاط التفتيش دون إيلاء الاهتمام اللازم بمتطلبات قتال خصم مثل كوريا الشمالية فضلا عن الصين وروسيا، وتراجع الاهتمام بتطوير الدروع الثقيلة والمدفعية والدفاع الجوي فضلا عن تراجع العناية بطائرات العدو والصواريخ بعيدة المدى والحرب الإلكترونية .. ومما زاد الطين بلة، أن الجيش خفض معايير التجنيد في بعض الأحيان لمواجهة مشاكل النقص الفوري في القوى البشرية نتيجة الصراع في العراق وأفغانستان، لكن هذا خلق تحديات أعمق فيما يتعلق بالاستعداد القتالي والانضباط).
إن واشنطن وحلفائها الذين صوروا طالبان على أنها جماعة متشددة تهدد دول الجوار، وتضطهد المواطنين الأفغان، وتفرض عليهم نظاما لا يقبلونه، قد صنعوا الكذبة ثم صدقوها، وتوهموا أن طالبان ذابت وتلاشت تحت وطأة الهجوم الشرس عليها عام 2001، لكن حدثت المفاجئة، وجمعت طالبان شتات عناصرها، وأعادت بناء نفسها لتصبح خلال سنوات معدودة القوة الأبرز في أفغانستان، ولتتمكن لأول مرة في تاريخها من السيطرة على كافة أنحاء أفغانستان بحلول أغسطس 2021 بينما استفاقت واشنطن على وقع نزيف موارد القوة الأمريكية.
أهمية أفغانستان المتجددة
يمكن تغيير الواقع ويستحيل تغيير الجغرافيا، فجغرافيا أفغانستان هي أحد أبرز أسباب أهميتها حيث تقع الأراضي الأفغانية في أقصى شرق هضبة إيران بالقرب من جبال الهيملايا مما جعلها همزة الوصل الرئيسية التي تربط بين الإمبراطوريات الكبرى، ولذا مرت بأراضيها جيوش الفرس واليونان والهون والمغول قديما، والبريطانيين والروس والأمريكان حديثا، كما تأسست على ثراها دول بثت الرعب في قلوب الأعداء من دلهي إلى بحر قزوين مثل الدولة الغزنوية والدولة الغورية. وقد كتب أرنولد توينبي يوما (ضع نفسك في العراق، وسيتبين لك بوضوح أن نصف طرق العالم القديم تؤدي إلى حلب والنصف الآخر إلى باجرام) بأفغانستان.
الموقع الجغرافي المهم يجعل أفغانستان عرضة للمخاطر والأطماع، وهو ما يتطلب من الحكومة الأفغانية الحالية اللعب بمهارة على واقع التناقضات الدولية والإقليمية لتجاوز حالة الحصار المفروضة عليها، وبالأخص في ظل وجود عدة دول فاعلة ليست على وفاق مع الحكومة الجديدة رغم مد الأخيرة يدها للجميع.
وسيظل الاقتصاد يمثل أحد التحديات في ظل تهالك البنية التحتية على خلفية الحرب، والحصار الاقتصادي وعدم الاعتراف الدولي بشرعية الحكومة التي تولت مقاليد الأمور بعد رحيل المحتل، وهو ما يتطلب وضع الأجندة الاقتصادية ضمن الأولويات للنهوض بالبلاد والنجاح في تجاوز اختبار الحصار الاقتصادية، مما ينعكس ايجابا على تحسن الأوضاع المعيشية للأفغان الذين عانوا ويلات القصف الجوي والمداهمات الليلية والمجازر المتكررة طوال العقدين الماضيين بل منذ الانقلاب الشيوعي في نهاية سبعينات القرن الماضي.