دور المسجد في صلاح المجتمع
إحسان الله محسن الأفغاني
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
حامدا ومصليا ومسلما وبعد:
فإن المسجد يُعدّ مرکز توجيه فکري وروحي للأمة المحمدية، وشعار من شعائر الإسلام، ومکان اجتماع في شؤون المسلمين، وله أهمية کبری في الإسلام منذ عهد النبوة إلی يومنا هذا، ويستمر إلی يوم القيامة.
هجرة النبي ﷺ وعمله الأول:
عندما هاجر النبي -ﷺ- من مکة المکرمة إلى المدينة المنورة، فكان أول عمل قام به هو بناء مسجد قباء، وهو المسجد الذي ذكره الله – جل وعلا – في القرآن المجيد: ﴿ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ﴾ (التوبة: ١٠٨).
وما اكتفى الرسول -ﷺ- بتوجيه أصحابه لبناء المسجد، بل شارك بنفسه في أعمال البناء، فكان يحمل التراب مع المسلمين، ويحمل اللبن والحجارة اغتناما للأجر، وتشجيعا للناس ومشاركة للمسلمين في صالح العمل.
فضيلة مسجد قباء على المساجد الأخرى:
و كان الرسول -ﷺ- يزوره كل سبت، تارة راكبا، وتارة ماشيا كما ثبت في الصحيح، وقال -ﷺ- فيما رواه البخاري ومسلم – رحمهما الله -: ” صلاة في مسجد قباء كعمرة”، وفي رواية أخرى:” من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة، كان كأجر عمرة”.
المسجد شامل للجوانب الكثيرة من حياة المسلم:
ففي المسجد تظهر معاني الأخوة والمودة بين المسلمين، إذ تجتمع الأجساد مع الأجساد دون فوارق، وتلتقي الأرواح في مسلك حب الله والخضوع بين يديه في عبادة صالحة صادقة. وفي المسجد تظهر روح الجماعة بين المسلمين، القائمة على الحق والعدل، فلا أثرة ولا أنانية ولا تعالي ولا تفاخر ولا تكاثر في أعراض الدنيا. كما تظهر في المسجد معاني النظام والانضباط والطاعة، ووحدة الصفوف والحرص على المواقيت، فيكتسب المسلم بهذه الممارسة في المسجد؛ خلق الصبر، والمشاركة الجماعية، وحسن التعامل مع الناس بالرفق واللين، كما يتدرب على مشاعر المساواة مع إخوانه المسلمين، فيتخلص من نوازع الكبر أو الترفع عن مجالسة الفقراء والضعفاء، ويقوم بإعانة ذوي الحاجات، ويسعى في قضاء شؤونهم بدون وجاهة، فبذلك تتوطد الروابط الجماعية بين المسلمين فيكونون مصداق قول عليه الصلاة والسلام: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. (رواه مسلم).
وفي المسجد تنزل السكينة على قلوب العابدين القائمين الراكعين الساجدين، فتصفوا قلوبهم من أهواء الدنيا وزينتها، وتحلو لهم الآخرة، وترفرف لها أرواحهم، فيسعون لها سعيا وهم مؤمنون، فإذا خرجوا من المسجد كان ما اقتبسوا فيه مددا لهم يرافقهم في أعمالهم، فيقوم سلوكهم، ويدفعهم إلى فعل الخيرات واغتنام الصالحات وترك السيئات والمنكرات، قال تعالى: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون﴾ (العنكبوت: ٤٥). فهو ليس مكانا أفضل فحسب، بل يشمل جوانب كثيرة من حياة المسلم من الصلوات والذكر والدعاء والدعوة والعلم وما إلى ذلك.
المسجد هي مدرسة النبي -ﷺ-:
ومن المعلوم أنه لم يكن للنبي -ﷺ- مدرسة مشيدة ولا معهد تعليم يجلس فيه إلى أصحابه يحاضرهم ويعلمهم، بل کانت مجالسه العلمية بالمسجد، حيث کانوا يجتمعون فيه أغلب الأوقات لأداء الفرائض، وکان المسجد هو المکان الرسمي للعلم والتعليم والمذاکرة والوعظ والإرشاد.
رسالة المسجد اليوم:
أما رسالة المسجد اليوم فقد أصبحت مشکلة کبری، فالإنسان يتحير عند سماعها، وقد أشار النبي -ﷺ- إلی فتنة تعم المساجد، ألا وهي رفع الأصوات في المساجد، وهذه مشکلة کبيرة، لا شك أن المساجد بحاجة إلی جو هادئ يمکن فيه للمسلم أن يقوم بأداء صلواته بالسکينة والوقار أشد من حاجته إلی من ينفق عليه آلاف وملايين في بنائه وزخرفته وصرف الأموال الهائلة في ترصيعه، ونحو ذلك مما يفعله عامة الناس.
و قد أشار النبي -ﷺ- إلی خراب المساجد، وإن کان ظاهرها عامراً، وهذا يؤکد لنا أن الفتنة الکبری هي ما وقع في عصرنا هذا في المساجد من الخلافات بين المصلين، ثم التحزب والتفرق، وأخيرا انقطاع عامة المصلين عن المسجد. وأمثال هذا يؤدي إلی خراب المسجد، وقد قال الله تعالی:﴿ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذکر فيه اسمه وو سعی في خرابها أولئك ما کان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ ( البقرة: ۱۱۴).
وهنا نری مجموعة من المسلمين يقومون بإنفاق أموالهم الهائلة في بناء بيوت الله -المساجد- ويرون ذلك شرفا وتقربا إلی الله وهم مخلصون، ثم يأتي أناس آخرون فيقومون بدورهم في إفساد الجو المبارك الهادئ، لهم مصالح خاصة وأهداف خبيثة، فيغتنم الشيطان هذه الفرصة، ويشعل نار الغضب والعداوة فيما بين المسلمين، والنتيجة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
لو كانت هذه المشکلة مشکلة مسجد أو مسجدین أو حصلت مرة أو مرتين أو في بلد دون بلد لكان الأمر هينا، ولکن ذلك يحصل في مئات المساجد، وأدی ذلك إلی تعطيل النشاطات الدينية، وانقطاع أهل الحي عن المسجد أو انفصالهم ثم لا يعود الأمر إلی ما كان قبل.
فهذا أمر مهم يحتاج لحله مزيدا لتبر من كبار العلماء وأولي الأمر وأئمة المساجد أن يقوموا بما يقدرون عليها من الأفعال التي تغير هذا الجو الفاسد، وأن يحيوا النشاطات الدينية، حتی تعود مساجدنا إلی ما كانت عليه؛ تقوم في المجتمع بدورها الزاهر كما كانت في عصورها الماضية، حتی يؤدي المسلم عبادته لله الواحد الأحد بأكمل وجه وفي هدوء وطمأنينة.
والله أسأل أن يوفقنا إلی ما يحب ويرضی، وهو علی کل شيء قدير وبالإجابة جدير، آمين.