ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه (الحلقة ١٤)
صارم محمود
كانت ثكنة للعدوّ شبه محصورة بين المناطق التي كانت خاضعة في أيدي المجاهدين في “شوالگاه”، وكانت تأتيها دوريات العدوّ بين الآونة والأخرى لإيصال المواد الغذائية والحاجيات الأخرى. وکلّ مرّة تأتي هذه الدوريات لتُمدّ العساكر المحصورين في الثكنة، يستهدفها المجاهدون، ويتصدّون لها، فكانوا يكبدونها في كلّ مرّة خسارات في الأرواح والأموال، ولمّا وصل خبر انطلاق هذه الدورية الإمدادية، استعدّ الإخوة ليتصدّوا لها، فذهب بعض الإخوة لتلغيم الطريق، فكانت النتيجة تفجير دبّابة وقتل جميع من كانوا فيها. وقبله وقعت حادثة مؤلمة كتبت عنها في الحلقة السابقة (العدد ١٧٩، السنة الخامسة عشر) من ذكرياتي، حيث انفجر على الإخوة “الکُوْرْتِکْسْ” التي كانت تفجّر اللغم، فأردى الإخوة مصابين.
ففي هذه الأيام تنقلتُ من مديرية “بشت كوه” إلى مديرية “قلعه كاه” فوصلني الخبر بعد يومين من إقامتي في “قلعه كاه” بأنّ الإخوة تصدّوا لهذه الدورية، وبعد اشتباك شديد استهدفتهم الطائرات؛ فاستشهد الأخ “المهاجر” والأخ “الحافظ انقلابي”. فالشهيد “الحافظ انقلابي” هو الذي نقلني بدراجته النارية إلى “نوبهار”، ومن هناك تنقلتُ إلى مديرية “قلعه كاه”، وتجاذبنا خلال الطريق أطراف الحديث، وكانت فرصة لأتعرف على الشهيد، وأسأله ما يخالج صدره، وحياته الجهادية، وتجاربه.
ولقد تفرّست حينما عايشت الشهيد بضعة أيام، ورأيت خلقه العجيب، وطيبته النابعة من إيمانه، وسخاءه، وصفاء ذاته، وسلامة صدره، وتواضعه الجمّ؛ تفرّست أنّه لا يبق في هذه الدنيا الدنيئة، وفي الحقيقة أمثال هؤلاء لم يخلقوا في هذه الدنيا ليلعبوا لهوا، ويرتعوا مرحا، ويقضوا وطرهم من لذات الدنيا ومستلذّاتها؛ بل إنّما خلقوا ليقتدي بهم المدلجون من أبناء الأمة الإسلامية الحيارى في دياجير الظلام، ويأخذوا من نور إيمانهم شعلة لإنارة طريقهم، فهؤلاء هم القدوات الصالحة، وهم أيقونات للتميز الإنساني من بين آلاف النسخ المشوّهة التي أساءت للإنسانية. فبهم الإنسان يهتدي، وبجنبهم يرتاح وجدانه، ويطمئنّ قلبه، ويسكن ضميره.
وحينما وصلني خبر بأن إخوةً منّا استشهدوا، أيقنت بأنّ الأخ الحافظ انقلابي كان معهم، فأصاب تفرّسي هذه المرّة، ولقد رأيت كثيرا من الشهداء، وعايشت جيلا (إن لم يكن ضربا من المغالاة) من شهداء محافظة فراه، وأقول من تجربة ما قاله الشيخ الشهيد عبد الله العزّام رحمه الله: “إن الشهداء تجمعهم صفة واحدة وهي سلامة الصدر على المؤمنين، وكفّ اللسان عن المسلمين”.
فكان الشهيد سليم الصدر؛ سليما عن الكبر والحقد والبغضاء، فإن رأيته ظننته طفلا لا يعرف هذه الأشياء، فلم يوذِ أحدا، ولا أخال أن يتأذى من يده أحدٌ، وهكذا كان جلّ الشهداء.
أما الأخ “مهاجر” لم يكن دارسا، ولم يكن قبل جهاده رجلا ملتزما، وكان واحدا من عامّة النّاس، يهمّه ما يهمّ النّاس، لكن من حسن حظّه نشأ تحت رعاية أخ مثقف فاضل يهمّه أمر أخيه ويحزنه، وكان الشيخ خالد من أقوامه؛ ولذلك مال إلى ميادين الجهاد بعد ما يئس من السعي وراء البطالة، واللاهدفية. والذي ميّز الأخ “مهاجر” وجعله يشار إليه بالبنان في ميدان الجهاد هو ولعه الشديد بالخدمة، وقد عكف على المطبخ، وجعل يطبخ للمجاهدين، ويخدمهم، ويغسل لهم الآنية، ويهيء لهم الطعام، ويسخن لهم المياه..
سبحان الله! أي مربٍ هذا المطبخ! كم ربّى من رجال! وكم كان كبار المجاهدين حريصين بأن يكون لهم حظ من الخدمة فيه! ولقد رأيت أستاذيَ الشهيد “صلاح الدين” وأستاذي “إسماعيل” حينما كنت متدرّبا في المعسكر بكل تواضع وخفض جناح يخدموننا، وكم كانوا حريصين بأن يهيؤوا للمجاهدين الطعام، فعلمت أنّ في المطبخ سرٌ لا يصل إلى كنهه إلّا من آكل الدهر وآكله، ولقد صدق الشيخ عبد الله العزام رحمه الله حينما قال : “عشّاق الحور يعرجون من المطبخ إلى الجنّة”.