مقالات الأعداد السابقة

ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه (الحلقة 9)

صارم محمود

 

لم يحالفني الحظ كي أكون مع الأخ اليافع، صاحب الكرامات والعجائب وصاحب الهيام الأنموذجي للجهاد والشهادة؛ الشهيد “مسلم” تقبله الله إذ التحق بميادين القتال بعد إيابي عنها بأيام، لكن صاحبَه أحد إخواننا المجاهدین، وتأثّر به، وشاهد في حياته العجائب من قوة الإيمان، والثبات على المبدئ، والهيام إلى الشهادة، والغيرة على الشريعة، والتمسك بها بدقها وجلّها، والعناية بالتزكية، والاهتمام بالسنة فبعد الاستفسار عن الأخ “نعمان بلال” صاحب الشهيد مسلم في ميادين القتال؛ جمعت سيرته الجهادية في مقال تمّ نشره في الموقع الرسمي الفارسي لإمارة أفغانستان الإسلامية بعنوان “فرار به میدان جهاد” وقام أحد من أحبائي بتعريب المقال وأرسله اليوم إلي فرأيت أن أشارككم في هذه الحلقة هذا المقال الرائع.

 

كيف التحقت بصفوف المجاهدين؟

كنت أحب من نعومة أظفاري المتدينين والمصلحين؛ من أجل هذا تجذرت محبة غريبة للشهادة والجهاد في قلبي، لكن لصغر سني لم أكن أعرف أحدا يوصلني إلى ساحات الجهاد وميادين النضال.

ذات يوم التقيت بعالمٍ قربَ دكانٍ كان قرب منزلنا فقال لي: مسلم، ألا تحب أن تستشهد؟ قلت: يا عم كيف أستطيع أن أستشهد وأين أبحث عن الشهادة؟ فأجاب: ابحث عن الشهادة في خنادق الجهاد. حقا كانت هذه الكلمات نقطة انعطاف في حياتي، وشعرت بهزة في مشاعري ووجداني وقد أثّر علي حيث شعرت بثورة كبيرة في عروقي وجلدي، بعد ذلك كنت التقي به بين الفينة والفينة و أطلب منه أن يذهب بي إلى ساحات الجهاد، لكنه في كل مرة يغادرني صفر اليد قائلا: عزيزي مسلم، أنت صغير السن جدا ولا يسمح المجاهدون بأن تكون معهم بهذا السنّ، وهكذا كانت الأيام تلاعب مشاعري، وأنا أتقلب على أحرّ من جمر الغضا، حتى قال لي بعد عدّ لحظات وكثرة انتظار: ستقام حفلة في مناطق المجاهدين، إن كنت مستعدا فلنذهب معا.

فغمرتني موجة من السرور فطِرت نحو دراجتي النارية على جناح الشوق لأستعد للذهاب، ودبت في نفسي الفرحة والمرح، وشاهدت هذه الوجوه النيرة المشرقة أول مرة، ورويت غلتي، وشفيت علتي إلى حد، لكن من سوء حظي حينما رجعت إلى بيتي علمت أسرتي بذهابي، وبالتالي لم يألُ إخواني جهداً في ضربي، ولم يكن لي بدّ غير الصمت والاستسلام.

 

وبعد مدة قليلة جذبتني محبة الشهادة وخنادق الجهاد جذب النار للفراش، والماء للظمآن، وذهبت خفية إلى ميدان الجهاد، لكن أبي علم وأرجعني إلى البيت، وفعل إخواني فعلتهم التي فعلوا في المرة الأولى. ولم يكن أمامي غير التأرجح في وابل لكماتهم ورفساتهم.

وبعد هذه المعاناة والمدّ والجزر، التحقت بصفوف المجاهدين رسميا، ومكثت هناك عدة شهور، ولكن أبي تذرع بحيلة ليرجعني من جديد وتوسل بأمير المجاهدين ليرسلني إلى إيران بتبرير واهٍ، وحجة خاوية (متوهمًا بأن هذا الفتى الأبي ينفصل عن مسيرته الجهادية لعلاقته بالدنيا الفتانة، غافلًا بأنّ الله تعالى ربى الشهيد على عينه والتقطه من مختلف الأزهار والورود للشهادة).

فأرسلوني إلى دارالهجرة وطفت مختلف الأبحر للتجارة، وإضافة على هذا أعدوا لي دكّانا بجانب شاطئ البحر، وكان أبي يخاطبني دومًا: سأرسلك للتجارة حيثما شئت في أي صقع من أصقاع العالم، ولو كانت أميركا، شريطة أن تنفض يدك عن الجهاد، ولكن على عكس ذلك تماما كانت تزداد محبة الجهاد في قلبي، ويشتد أوارها في شراييني ولم تكن تجدي تطميعات أبي وتهديداته شيئًا.

وطوال مدة إقامتي في دارالهجرة، كانت تحلق أفكاري نحو الخندق والشهادة، كنت أحلم في الليالي بالخنادق، وأقضي أيامي منغمسًا متفكرًا في أحلامها، حتى أشعلت نار هذا العشق جسمي برمته، وألهبته محبة وشوقا، ولم أكن أتحمل فراق الخنادق أكثر من هذا، فعدت إلى أفغانستان ناويًا العملية الاستشهادية، وعرفني أحد الأصدقاء بالمولوي خالد في ولاية “فراه” بمديرية “بشت رود” وتحملت مصائب وتكبدت مشاق كثيرة في الطريق حتى قرت عيني وقلبي بأسلحة المجاهدين، وقلت في نفسي: أقاوم هنا ناويا العملية الاستشهادية، ولا أرجع إلى بيتي حتى أستشهد.

 

نبذة عن حياة الشهيد الجهادية

لم يكن الشهيد غزير العلم، درس ثلاثة فصول في الكتّاب فقط، ولكن اصطفاه الله لنفسه (واصطنعتك لنفسي)، ورباه بعنايته الفائقة.

كان الشهيد صاحب أوصاف وميزات كثيرة، كان يذوب عشقًا وحبا للعملية الاستشهادية، وكان يحب كثيرا أن يكون الكلام حول الشهادة والجنة، وكان حسن الطبع، مزاحًا، حلو الحديث، ولكن لم تكن دعاباته تلهيه عن آلام الأمة ومعاناتها، كان بين الأصدقاء فكِهاً، حلو الكلام؛ أما في الخلوة ومنتصف الليل كان يتململ كالسليم.

كان يبسط مائدة فؤاده علي كلما أقلقت مضجعه الآلام وأحوال الأمة المأساوية السائدة على المضطهدين ويكوي قلبه شوقُ الشهادة ويجهش كالطفل بالبكاء.

الشهيد (رحمه الله) كان رهابا شديد الخوف من الله، وكان أخاذا بالحيطة والحذر حتى لايقع في فخ الشيطان ولا يقترف ذنبا، وحينما كانت تصدر منه زلة من غير عمد كان يظل قلقا مضطربا. أتذكر أنه ذات ليلة أخبرنا بتقدم دبابات العدو، والإخوة قد أخذوا أهبتهم وهكذا مضت حصة من الليل على تهيؤهم حتى ظلوا مرهقين، وناموا من كثرة التعب والسأم، ومع الأسف فاتتنا صلاة الصبح واضطرب الرفقاء، وآخر الأمر أرسل المولوي خالد بعض الأصدقاء لعملية عصابية وكان الشهيد حينذاك في الغرفة، فحينما أخبِر ذهب نحو المرج جنب الغرفة قلقا كئيبا وجلس هناك، مكث غير بعيد حتى سمعت بكاءه، فاقتربت فرأيت الشهيد مسلم خارّا على ركبتيه نحو القبلة ويبكي حيث اهتز كتفاه، جلست بجانبه، فوضع يده على عنقي وقال مدهشا: بلال!

هل يغفر لي الله، أنا مذنب جدا، فاتتني صلاة الصبح؛ ومن أجل هذا لم يقبلني الله للعميلة، فسليته بأن الله غفور رحيم، دورنا في الليالي القادمة، لكن كان يزداد بكاءه أكثر فأكثر، ويرفع يديه متأوها قائلا: هل يعفو الله عني؟!، جاء الأمير بعد هنيئة وأخبِر ببكاء الشهيد الفتى (سبحان الله قد أقلقته محبة الجهاد والشهادة)، فألحقنا الشهيد بالأصدقاء الذاهبين، وتعجبوا هناك من غيرة الشهيد وشجاعته، وفي اليوم التالي حينما رجعوا كان يقول لي: ما أعظم الله رحمة وشفقة، قبلني بقطرات من الدمع، كان يقول: البارحة حينما كنت أتمشى في بطن النهر شعرت كأني أطأ بقدمي في الجنة فرحا مرحا.

في تلك الليلة شوهدت كرامة مثيرة العجب، إذ تلدغه حية وهو لم يشعر بشيء، وفي اليوم التالي حينما رأوا موضع اللدغة تعجبوا كثيرا، (كم يحفظ الله المجاهدين).

كانت بين الشهيد وبين الله علاقة وطيدة، وكانت دعواته سريعة الظهورحيث أنه ذات مرة كان يقول: ليتني أحلم بالحور، قلت له: ادع بأن تراهن، وفي الليلة ذاتها دعا وقت الحراسة، وفي الصباح كان باسم الثغر قائلا: البارحة دعوت ثم رأيت حورا في غاية الجمال واضعا يدي على عنقه، وكان أحيانا فجأة يتمنى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعو ويصلي على النبي كثيرا فكان يرى في المنام أنه ذهب به في الجنة ولقي هناك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطرأت عليه حالة عجيبة من الحلم، وكان يبكي فرحا وسرورا.

كان الشهيد الفتى قليل النظير في الشجاعة والسماحة، وكان سامي الهمة.

 

ذات مرة بدأ يتعلم فن الخشبة، طيلة التعليم صارت يديه مجدرة لإمساكه بالخشبة، ورغم هذا لم يتقاعس عن التعلم بل استمر على تلك الحالة. وكان بارعاً ماهراً في قيادة السيارة، حيث كان في الليالي المظلمة في طرق العمليات (ومصباح السيارة مطفئ) سباقا للجميع، وكان دوما أول المجاهدين تقدما في العمليات وكان يقول: عار علي لو لم أكن في مقدمة الجيش.

 

حزن الشهيد مسلم وألمه وحرقته على الأمة الإسلامية وضياع مقدساتها

في إحدى ليالي رمضان انجر الحديث إلى أحوال الأمة الإسلامية المتأزمة فحزن الشهيد حزن من سماع حال المسلمين المظلومين وقضية بيت المقدس، وفي نفس الليلة اشتغل بعض الإخوان بصلاة التهجد بعد السحر ثم ذهبوا خارج الغرفة ليستريحوا، لكن الشهيد بعد صلاة التهجد رفع يد التضرع والابتهال إلى الله.

أزعجته حالات المسلمين المنكوبين وكان يتململ تململ السليم وتزداد ضجاته وأناته لحظة فلحظة، ثم أشرت عليه بأن نذهب إلى الخارج وجلسنا بعيدا عن الغرفة، وكان لا يزال يسكب الدموع الحارة ويقول: اللهم اعف عني بأن تنبهت متأخرا ووو، (قلت في نفسي: سبحان الله هذا يعتبر الشباب تأخرا بينما لا يتفكر كثير من المسلمين في هذه الحال هنيهة).

وذات يوم كنت على إحدى الأشجار القريبة من الغرفة، فرأيت أن الشهيد أيضا صعد وجلس إلى جانبي، دار الحديث حول المسلمين المظلومين، فرأيت حالة الشهيد تتغير ويرتعد جسمه، ويقول باكيا: اللهم كم من الليالي المظلمة خيمت على المسلمين، وكانت هذه الحالة تراوده ولا تكاد تفارقه، وكان يتأوه إلى وقت متأخر.

 

محبة الشهيد وصلته بالشريعة وسنن النبي صلى الله عليه وسلم:

الشهيد مسلم كان ذا شخصية عجيبة، وكان مولعا بالأعمال، وكان حريصا على سنن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يكن عالما، لكنه كان طالبا بكل ماتعني الكلمة، كان يحب دائما أن يقال عنده من الأعمال والجنة والآخرة، وكان من أبرز صفاته أن يعمل بمايسمع فورا.

في أيامه الأولى من مجيئه من دارالهجرة، كان شعر رأسه كشباب السوق، فقيل له: لو طبقت شعرك على السنة مستويا لكان حسنا، لأنّ من يتمنى الشهادة لابد أن يكون عاضا بالنواجذ على سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فورًا: لأقصرن شعري، وفي اليوم التالي قال لصديقه المقرب وأخيه في النضال ورفيق الدرب الشهيد المولوي مقداد، فقصر شعره مطابقا للسنة تماما.

 

عزوف الشهيد عن الدنيا وزخارفها

كان الشهيد منقطعا عن الدنیا بحذافیرها، ولم یکن يحب متاع الدنيا، مع أن أباه كان يعد من أصحاب الثروة في المنطقة، لكن الشهيد اختار حياة كحياة مصعب (رضي الله عنه).

حينما جاء من دارالهجرة لم يكن ممتلكا شيئا غير لباس وبطانية بالية وجوال وعدة نقود أفغانية في جيبه، ورغم هذه الحالة الضيقة كان فرحا جدا، ويحس بالطمأنينة والسكون، وانقطع عن الدنيا بشكل كامل، وكان يصرف دائما النقود المغتنمة لإكرام الأصدقاء، ولا يدع الدنيا تحل في جيبه.

 

حنين الشهيد إلى الشهادة

الشهيد مسلم كان مجاهدا حسن الطبع وإنسانا وقورا، أحب الكلام عنده كلام الشهادة والاستشهاد، كأنه لا يطلب هدفا غير السخاء بحياته الحلوة لله تعالى، ومن أجل هذا كان أول المجاهدين في القتال والنضال، وكان يعتبر التخلف والمشي خلف الصف عارا ووصمة ذلٍ إلى حد أن قال في ليلة العملية في منتصف الطريق: لو كنا في الوسط أو خلف الصف تتندى حورياتنا خجلا، ثم لحق بمقدمة جيش المجاهدين، كان يتكلم في كل مجلس عن الشهادة، ويلحّ كثيرًا على المولوي خالد للعملية الاستشهادية، وكان مصداق الأبيات التالية:

 

هو حينما جاء التقط من حديقة الحياة وردة وذهب،

جاء وضحك على وهن أهل العالم وذهب،

لم تكن له من البداءة رغبة إلى الدنيا،

جاء فرأى أصحابه عدة أيام وذهب.

 

في ليلة الشهادة كانوا جالسين في السيارة، يستمعون لأنشودة حول الشهادة والشهداء، إذ صفق وكبر وأوصى جميع الأصدقاء في السيارة بأنه لو استشهد أحد منا يوصي البقية بالاستشهاد جميعا.

وفي الليلة الثانية من شهر ذي الحجة 1440 هـ ق، وصل إلى أمنيته القديمة وشرب كأس الشهادة الحلو إلى جانب جماعة من إخوانه في النضال وأصحابه الأوفياء (خاصة الشهيد مقداد و الشهيد الياس في ولاية فراه مديرية بشت رود (نوبهار)) في عملية جراء حملات العدو الجوية الغدارة.

سر الله أرواحهم وخلد تذكارهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى