مقالات الأعداد السابقة

ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه (١٢)

صارم محمود

 

بعد سنتين اثنتين حالفني التوفيق مرة أخرى لأنزل لمحافظة “فراه” وهي محافظة أفغانية عريقة، لها تاريخ قديم في الجهاد، تقع غرب أفغانستان، يبلغ عدد سكّانها حوالي ٣٧ ألف نسمة، وعاصمة محافظة فراه جنوب غرب أفغانستان، ويمرّ فيها نهر فراه الشهير، تحدّها من الغرب إيران، ومن الشمال محافظة هرات، ومن الجنوب محافظة نيمروز، ومن الشرق غور، وهي بالإضافة لعاصمة المحافظة تتكون من عشر مديريات وهي كما يلي: بشت ردو، خاكسفيد، بالابلوك، پرچمن، جلستان، بكواه، لاش جوين، شيب كوه، پشت كوه، أنار دره.

لقد حارب أبطال هذه المحافظة الاتحاد السوفيتي، وهزموه في معارك عديدة هزيمة نكراء، وخلّفوا في سبيل تحرير هذه المحافظة مئات من الأرامل والأيتام والثكالى، ولقد لاقيت نفرا من شيوخ هذه المحافظة ومن بقايا مجاهدي الجهاد الأفغاني ضدّ الروس، وسألتهم عن جهادهم في تلك الفترة، وعن الظروف الجهادية التي عاشوها، وعن الصعوبات التي واجهوها في جهادهم ضدّ الروس؛ فأفادوني بدموع حارّة، وزفرات متّقدة توحي بنشوة الحماس، وشوق الشهادة، ونخوة الأفغان، فكان كلّ واحد منهم يحلم بشيء واحد، بالشهادة في سبيل الله، كانوا يظنون الآن أنهم خسروها (رزقهم الله إياها).

 

قبل سنتين كنا قد أوينا إلى جبال نائية من المدينة فرارا من المداهمات الليلية والقصف المدمّر؛ رأيت هنالك آثار جهادهم، وثكناتهم في كهوف الجبال، سبحان الله! كم تحمّلوا من الشدائد لنحت الجبال ثكنات لهم، وكم صبروا واستقاموا في تلك الكهوف في بطون الجبال الشامخات، وكم سنوات قضوا هنا ليتهيأوا لكرّة جديدة.

واليوم قام أبناء هؤلاء الأبطال الذين هم خير خلف لخير سلف، يواصلون مسيرة آبائهم في محاربة العدوّ؛ (أمريكا وأذنابها) واستطاعوا بعزمهم وإيمانهم أن يبسطوا سيطرتهم على جميع المديريات سوى مديريتين فقط، كما استطاعوا أن يفرضوا على المدينة حصارا خانقا بحيث لا يمكن للعدوّ الخروجُ من المدينة إلا برحمة كوكبة من الطائرات الأمريكية، وقبل سنتين كان عدد كبير من المناطق في أيدي العدوّ، ولكن الآن لم يبق في أيديهم إلا مناطق معدودة في بعض المديريات وفي المدينة نفسها.

لم يمضِ على نزولي لمحافظة “فراه” غير ثلاثة أيام، وأشعر في هذه الأيام بغربة تؤلمني، ولا غرابة، فإن الإنسان يشعر بالاكتئاب والحنين في الأيام الأولى من السفر؛ لأنه حديث العهد بفراق الأهل والأحبة؛ حتى يتأقلم مع الظروف الجديدة، ويأنس بالإخوة المجاهدين أو يشتغل بشيء يمنعه التفكير؛ مثل تعلّم الأسلحة المتواجدة في المركز، أو تعلّم المتفجرات، أو الاشتغال بمطالعة كتاب في الجوّال إن لم تكن النسخة الورقية من الكتاب موجودة، أو الاشتغال بتعليم المجاهدين عقيدتَهم، وصلاتهم وأحكام الدين، وفقه الجهاد، وأفضل شيء يمنع الإنسان عن الاكتئاب والحزن في هذه الأيام، ويخفف عنه وطأة الغربة هو الاشتغال بتلاوة القرآن، والتفكير في آياته لا سيّما تلاوة آيات الجهاد، والاشتغال بالذكر القلبي، والارتباط مع الله تعالى.

 

رحم الله شيخ الإسلام حيث قال وهو يعالج غربة السجن: “جنّتي في قلبي” فحينما يكون قلب الإنسان ينبض دائما بذكر الله، ويتّصل معه، ويرتاح به فلا يحتاج إلى خلٍّ وصاحبٍ، فهو معه أينما حلّ ونزل؛ بل هو أقرب إليه من حبل وريده، فلا يشعر بالغربة والوحدة؛ لأنه ليس غريبا ولا وحيدا، وإنما الله معه دوما، فما أسعد من يكون الله معه! لكن هذا الشعور (معيّة الله)، والاتّصال به اتّصالا عميقا، الشعور الذي يمنع الإنسان من الحزن ويريحه ارتياحا كاملا لا يأتي عفويا، وإنما يحتاج إلى سابق رياضات، وخلوات مع الله تعالى؛ ولذلك قد أوصيت إخوتي دائما بتعويد أنفسهم الخلوةَ مع الله تعالى في اليوم نصف ساعة أو أكثر حتى يعتادوا الاتّصال مع الله تعالى، ويتذوقوا لذة الخلوة والمناجاة حتى لا يتفاجأوا إذا واجهوا مثل هذه الظروف، أو (لاسمح الله) لا تتزلزل عقيدتهم إن وقعوا في أسر الأعداء، فكم من أناس جعلتهم غربة السجن عملاء، وتنازلوا عن عقيدتهم إلى عمالة العدوّ بمجرّد صفعة، فضلا عن التنكيلات التي تقشعر من مجرّد سماعها الجلود.

 

فليعلم إخوتي المجاهدون أن طريق الجهاد طريق صعب جدّا؛ طريق شائك، طريق يكمن الموت في كل منعطف منه، فليتوقع المجاهد في هذا الطريق أنواعا من المحن؛ الغربة، والإصابة، والأسر، والتنكيل، والخذلان وغير ذلك من المحن.. ولا يثبّت أقدامَ المجاهد إلى نهاية هذا الطريق شيء غير عقيدة قوية مثل الفولاذ؛ فالفولاذ يذوب، ولكنّ العقيدة القوية لا تعرف الذوبان، غير إيمان قوّي بالله تعالى وبرسوله وبجنته وناره، وغير الاتّصال القوي به سبحانه، والشعور بمعيّته في كل حين.

أكتفي اليوم إلى هذا الحدّ، وأشارككم في الحلقات الآتية ما يخالج ضميري، وما أرى وما أجرّب إن شاء الله.

۲۱ محرّم ١٤٤٢هـ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى