ذكريات وانطباعات عن أبطال فراه (13)
صارم محمود
الساعة السابعة صباحا، وحسب العادة نقوم بتدریس عدة كتب لثلة من الطلبة؛ وقبل أن يحضر الطلبة رنّ هاتف الشيخ المولوي خالد حفظه الله، والطرف الآخر على الهاتف كان مضطربا وقلقا، فتمتم بكلمات ملئها الفزع والاضطراب، أخبر عن وقوع حادثة غير سارّة، وفهمتُ ممّا دار بينهما أن اللغم المزروع الذي قام الإخوة بزرعه في طريق العدوّ ذهابا وإيابا انفجر عليهم، فبمجرّد التفكير في الحادث خطر ببالي أن الأخوَين المتعرّضين للحادث قضيا نحبهما، ولم يبق منهم سوى أشلاء مبعثرة؛ لكن على عكس التوقعات قال الشيخ خالد حفظه الله أنهما لا زالا على قيد الحياة، وأن الجراح ليست عميقة، وإنما هي طفيفة؛ فوقفت واجما أمام ما حدث! إذ أن اللغم لا يترك الثكنات الحصينة إلا كومةً من التراب، والدبّابات الحديدية شذر مذر؛ فكيف بهذا الكائن الضعيف؛ الذي خلق من اللحم والشحم والدم، فأضاف خالد أن اللغم لم ينفجر، لكن سلك اللغم انفجر في البارود الذي كان داخل اللغم، وكان من الممكن بل كان لزاما أن ينفجر البارود وبالتالي ينفجر اللغم، فيقع ما تتصوّرون! لكنّ فضل الله شملهم ولم يتفجر اللغم.
بَيد أن تفجير السلك وحده يكفي أن يردي اللاغم قتيلا، أو يتركه مشوّها، أو معوّقا، أو مشلولا، أو مقطوع الأعضاء إلى آخر العمر.
ما أخون البارود وما أجفاه! لا يميّز بين الصاحب وغيره، ولا يميّز بين الصديق والعدوّ، ولا يمهل الإنسان للتجربة، إذ أن خطأه الأول هو الخطأ الأخير، فإذا طغى فما أشدّ طغيانه، وما أطول مدى فساده ودماره، وما أمرّ تأثيره على اللاغم! تخيل بأنه إن عاش عاش معوّقا، أو مشلولا، أو مشوّها ليكون الإنسان كلّا على غيره، وعبئا على عاتق الآخرين، كم هو مر ومؤلم، ؛ لكن إذا كان ذلك في سبيل الله فلا بأس؛ بل هو مفخرة، ووسام عزّ يناله المُصاب -وإن كانت العافية أفضل- بل هي الميزة الوحيدة الفارقة بين المؤمن الذي يرجو من الله ثوابا وقربا والكافر الذي لا يرجو شيئا (إن كنتم تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون).
لعلك تذكر أن أحدا من الخطباء ومن المجاهدين السابقين قال في خطابه: “لقد ينال المصاب في سبيل الله يوم القيامة منزلة وأجرا يتمنّى المتعافون لو تنتزع لحومهم بالكمّاشة لينالوا ما ناله المصابون في سبيل الله” و قد صح في الحديث النبوي الشريف: “لا يكلم العبد في سبيل الله بكلم إلا وجاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك”.
وما هذا الوجه، وما هذه الأعضاء، وما هذه الدماء إن لم تُهدَ في سبيل المحبوب الحقيقي كأزهار وورود تليق بشأن العشّاق الحقيقين، وما هذه الدنيا بطولها وعرضها إلا أيام قلائل، وما هذه الأيام القلائل إن لم تقض في التضحيات والجهاد والتفاني! وهل الحياة إلا العقيدة والتضحية والجهاد! وما حياة الرجال إلا المواقف، وما تاريخ الرجال إلا التضحيات!
فسِرنا نحو مكان الحادث، فرأيت أحدا من الإخوة قد غطّت وجهه الدماء التي كانت تنزف من رأسه ومن أذنيه ومن أنفه وقد جحظت مقلتاه من المحاجر، والآخر يتململ تململ السليم، وتسيل الدماء من شفته التي شقت إثر الإصابة، أظنّ أن التيّار الذي ألقى بهم بعيدا إثر تفجير السلك، أصابهم في الرأس والوجه إذا أنهم كانوا يشعرون بالدوران الشديد، فنقلناهم إلى أقرب مستشفى، وتمّ إعطاءهم بعض الأقراص المخدّرة والمسكّنة، ثم تم نقلهم إلى مديرية “بكوا” للمعالجة والتداوي.
الأخ شفيع الله الذي شُوّه وجهه وربّما أصاب في رأسه بشيءٍ ينذر بشرّ لا يحتمل (لاسمح الله) كان شابّا لا أظنه قارب الخمس والعشرين، وكان يتمتع بجمال يحسد عليه، وقد أهدى جماله إلى ربّه ليعوضه في الآخرة خيرا منه، وأما الأخ الآخر فهو أعجوبة، فهذه ليست هي المرة الأولى التي يسقط فيها جريحا، وما عضو من أعضاء جسده إلا وعليه أثر من الجرح والإصابة، وقد استشهد شقيقاه في هذا الجهاد المبارك، وأسر أخ له آخر (فكّ الله أسره) وهذا هو الآخر يجاهد مستميتا لينال ما ناله أخواه. وقد اعتزم غير مرّة لينفذ عمليته (الاستشهادية) البطولية، وبكى وألحّ أيما إلحاح لينال رضى أبويه وأمرائه لكنّ الله أراد أن يستخدمه في سبيله أكثر، ويردي به ما شاء أن يرديه من الكفرة والمنافقين بائعي الدين والوطن.
فهذا هو ميدان الجهاد؛ ميدان التفاني، وميدان تقديم الدماء، وميدان بيع الأرواح؛ والميدان الذي يميّز بين العاشق الصادق، والمؤمن الحقيقي ومدّعي العشق والمنافق الخبيث والفاجر الخبّ اللئيم.
٢٨ المحرّم ١٤٤٢هـ.