ذهب الحمار يطلب قرنين فعاد مصلوم الأذنين!
عرفان بلخي
في7 أكتوبر 2001م، وتحديداً الساعة 16.30 بتوقيت غرينيتش، شنت السفن والطائرات العسكرية الأمريكية على إمارة افغانستان الاسلامية داخل أفغانستان ثلاث موجات من الغارات الجوية، حيث قصفت الطائرات الأمريكية المطار، وساد الظلام، وبذلك بدأت الحرب الأمريكية على أفغانستان تحت مزاعم وهمية. مرت سنونٌ خمسة عشر على أهل أفغانستان، دمر الاحتلال فيها البلاد، ولا زالت القوات الأمريكية موجودة إلى الآن في أفغانستان دون مبرر يذكر. قفا نبك من ذِكرى حبيبٍ ومنزل.
دخلت القوات الأمريكية، وصمدت حكومة الإمارة من 7 أكتوبر حتى 13 نوفمبر؛ أي حوالي 37 يوماً كاملة تحت أقسى أنواع الضرب بكل الوسائل (طائرات، ودبابات، وقنابل 15 ألف رطل، وصواريخ، وقنابل عنقودية). ثم قررت إمارة أفغانستان الإسلامية أن تغير تكتيكات المواجهة، فسحبت قواتها من المدن، وبدأت حرب العصابات. أنا الغريق فما خوفي من البلل.
ولا شك أن الطريقة التي انسحبت بها الإمارة من المدن كانت ناجحة، فلم يحدث انهيار عسكري لقواتها، ولا سقطت تلك القوات في الأسر بالآلاف في يد القوات الأمريكية كعادة الفشل العسكري التقليدي. ثم بدأت حرب العصابات، مع تصاعدها كمّاً وكيفاً من عام إلى عام. وقد حاولت القوات الأمريكية حسم المسألة مراراً وتكراراً دون جدوى، ثم استعانت بقوات حلف الناتو، ولكن المقاومة كانت تتصاعد باستمرار، ولعلها قد وصلت إلى الذروة في عملياتها النوعية والكمية التي نفذتها في عام 2011م.
وفي الوقت نفسه، فإن الإمارة مارست قدراً هائلاً من الانضباط الأخلاقي مع جماهير الشعب، وهو ما جعلها تحصل على حاضنة قوية من هذا الشعب، وتعزل حكومة العملاء، الذين أصبحوا في نظر الشعب عملاء للأجنبي وفاقدي الاحترام، حيث ظهر أنها حكومة ديكتاتورية، وأن حديثها عن دعم الديمقراطية مجرد هراء وخداع، بل إنها أيضاً تتستر على الفساد.
والتاريخ والجغرافيا كانا عاملان من العوامل الهامة في هزيمة أمريكا، فالتاريخ يقول: إن أفغانستان نجحت في هزيمة الامبراطوريات. وهكذا فإن من المتوقع أن تكون الهزيمة الأمريكية في أفغانستان هي بداية الهبوط في المنحنى الأمريكي، إن شاء الله.
لكن في الحقيقة سبب النصر على الأعداء هو الإيمان الذي تقوى أسباب النصر بقوته وتضعف بضعفه. وإن الله وعد عباده الذين ينصرون دينه أن ينصرهم، وأنه وليهم وناصرهم، وأن الكافرين لا ناصر ولا مولى لهم. ولذلك فإن الذين رسخ الإيمان في قلوبهم لا يتزلزلون عند لقاء العدو، مهما بلغت قوته، بل يزيدهم إيماناً فوق إيمانهم وثقتهم بربهم متوكلين عليه. المؤمن لا يخاف أن يقف أمام الكثرة من أعدائه، فالإيمان القوي يرتفع بصاحبه إلى قمة التوكل على الله تعالى والثقة في نصره على أعدائه، ولو كانوا أكثر عدداً وعدة؛ لإيمانه بأن الله هو الذي يتولى المعركة، وهو الناصر الحقيقي، وما النصر إلا من عند الله العلي العظيم.
فهذه هي البشرى التي تثلج الصدور المؤمنة، وهي نتيجة الجهاد المتواصل والمقاومة الباسلة للشعب الأبي الباسل الذي قاوم أعتى قوة في العالم، وقد أسقط إحدى الامبراطوريات العظمى بالأمس على مرأى ومسمع العالم، وأرغمها على أن تجر أذيال خيبتها، ملطخة بالخزي والعار، مخلّفة وراءها آلاف القتلى من جيشها في مقبرة الامبراطوريات. والتاريخ يعيد نفسه، فاليوم جاء دور أمريكا وحلفائها.
وليت أحداً لا يجهل كيف لقَّن الأفغان التتر دروساً في الدفاع عن دينهم وعقيدتهم، بل كيف هزموا جنكيز خان الذي كانت له اليد الطولى في سفك الدماء، واحتلال بلاد الإسلام. وكيف حطَّموا -قبل هذا اليوم- الاستعمار البريطاني الذي جثم على أرضهم. وأهان المجاهدون البريطانيين في ثلاث حروب متتالية، في عام 1843م كتب آنذاك ريورند غريغ أحد قساوسة الجيش البريطاني الذي نجا من الحرب الأولى ضمن مجموعة صغيرة، كتب في مذكراته عن تجربته الحربية في أفغانستان قائلاً: “إن هذه الحرب التي تتصف بمزيج غريب من الجبن والتهور، بدأت لنيل أهداف غير معقولة، ولم تحقق لنا سوى المعاناة والكوارث، ولم تأتِ بفائدة تذكر، لا للحكومة التي خططت لها، ولا للجيش الذي خاض غمارها. إن انسحابنا من تلك البلاد لم يكن إلا هزيمة عسكرية”. وعندما قررت بريطانيا الإنسحاب في (6/1/1842م) وكان عددهم (4) آلاف بريطاني وهندي ومعهم من الجنود التابعين، سلك البريطانيون طريق وادي (جكدلك) – بين كابل وجلال أباد – فأعمل المجاهدون فيهم السيوف، حتى إذا وصلوا (جندمك) كان قد بقي آخر جندي من الجيش وهو (الدكتور برايدون) الذي كان الناجي الوحيد ليخبر قومه مغبّة الاصطدام بجنود الإسلام.
لقد نجحت أفغانستان في هزيمة الامبراطورية البريطانية عدة مرات عام 1842م، وعام 1880م وعام 1929م. وظلت عصية على الخضوع للتاج البريطاني. ثم هزمت الاتحاد السوفييتي السابق، وتسببت في تفكُّكه في النهاية منذ غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان في 27 ديسمبر 1979م، ثم انهزم وانسحب في 15 فبراير عام 1989م. وهكذا فإن من اليقين أن تكون الهزيمة الأمريكية في أفغانستان قد بدأت، وستكون هزيمتها آية من آيات الله في أن يمرّغ أنف أطغى دولة وأكثر متغطرس في العالم على أرض أفقر دولة مسلمة، وعلى أيدي رجال لا يملكون دبابات ولا طائرات، وإنّما يملكون عزيمة تهدّ الجبال الراسيات، ويقينا بنصر الله تجاوز عنان السّماوات.
نعم! فشلت الحرب، وخسرت أمريكا بكل ما في الكلمة من معنى، وقد فرت وهربت وانسحبت بعض قوات الاحتلال. كما قال الشاعر:
بلّ السراويل من خوف ومن دهش واستطعم الماء لما جد في الهرب!
وتزايدت وتيرة العمليات الاستشهادية والهجمات الميدانية المنسقة، فسقطت المديريات والمحافظات واحدة تلو الأخرى.
جهادنا مستمر، بنصر من الله، ثم بتضحيات عظيمة من شعبنا. وإن تحرير أفغانستان، وإقامة الحكم الإسلامي، ومحاسبة العملاء الخونة، لهو هدف سامٍ لكل أفغاني صاحب ضمير حيّ.
إِذَا كَشَـفَ الـزَّمَـانُ لَكَ القِنَـاعَا * وَمَدَّ إِلَيْـكَ صَـرْفُ الدَّهْـرِ بَـاعَا
فَـلاَ تَـخْشَـى المَنِيَّــةَ وَالتَقِيْـهَا * وَدَافِـعْ مَا اسْتَطَـعْتَ لَهَـا دِفَـاعَا
بعد خمسة عشر عاماً على الغزو الأميركي لأفغانستان انتقاماً لاعتداءات 11 أيلول (سبتمبر)، يبدو جلياً أن الكلفة البشرية والمادية الفادحة التي دفعتها أمريكا ذهبت هباءً منثوراً. ويكشف الوضع الحالي أن مهمة «القضاء على حركة طالبان» فشلت للأبد.
وتعجز القوات الحكومية العميلة، عن مواجهة المقاومة المسلحة، على الرغم من الفارق في التجهيز والتدريب. وتضطر دوماً إلى الاستعانة بوحدات أميركية عندما تتعرض مواقعها لهجمات المقاومين.
إن هذه البشائر جميعها تحققت بالصمود والتضحية والصبر المثالي لشعبنا المؤمن الأبي الغيور، لأن الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحياناً بلا نهاية! والثقة بوعد الله الحق، والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة. إن طريق المؤمنين الواصلين المتمسكين بحبل الله هو الصبر والثقة واليقين مهما طال هذا الطريق، ومهما احتجبت نهايته وراء الضباب والغيوم!
وفي الأمثال: فربما قتل المكاء ثعباناً. وذكر ابن الأعرابي قال: أكلت حية بيض مكاء، فجعل المكاء يصوّت ويطير على رأسها، ويدنو منها، حتى إذا فتحت فاها وهمّت به ألقى حسكة، فأخذت بحلقها حتى ماتت.
قد يظفر بالتدبير المحكم، الضعيف بالقوي، وقليل الأعوان بكثير الأعوان. والمُكاء من أصغر الطير وأضعفه، وقد احتال على الثعبان حتى قتله، انتقاماً لاعتدائه والتهامه بيض عشه الآمن. وأنشد أبو عمر الشيباني في ذلك قول الأسدي:
إن كنت أبصرتني عيلاً ومصطلماً *** فربما قتل المكاء ثعباناً
(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام).