ربيع الأول والذكريات الخالدة – مطلع النور
قال أحد العلماء: “إن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر في وقت كان الناس محتاجون إلى من يهديهم إلى الطريق المستقيم، ويدعوهم إلى الدين القويم، لأن العرب كانوا على عبادة الأوثان ووأد البنات، والفرس على اعتقاد الإلهين يزدان واهريمن ، والترك على تخريب البلاد وتعذيب العباد، والهند على عبادة البقر، والسجود للشجر والحجر، واليهود على الجحود ودين التشبيه وترويج الأكاذيب المفتريات، والنصارى على القول بالتثليث و عبادة الصليب و صور القديس و القديسات، وهكذا سائر الفرق في أودية الضلال، والانحراف عن الحق والاشتغال بالمحال، ولا يليق بحكمة الله الملك المبين أن لا يرسل في هذا الوقت أحداً يكون رحمة للعالمين، وما ظهر أحد يصلح لهذا الشأن العظيم ، ويؤسس هذا البنيان القويم غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فأزال بأمر الله الرسوم الزائغة، والمقالات الفاسدة، وأشرقت شموس التوحيد، وأقمار التنـزيه، وزالت ظلمة الشرك والثنوية، والتثليث، والتشبيه، عليه من الصلاة أفضلها و من التحيات أكملها”.
نعم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل هذا الأمر العظيم بشعب بني هاشم في مكة صبيحة يوم الاثنين الموافق الثاني عشر – على الأشهر – من شهر ربيع الأول عام الفيل الموافق لسنة 571 م .
سَرَت بشائرٌ بالهادي ومولِدِه
في الشرقِ والغربِ مسرى النورِ في الظُّلَمِ
لقد بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل على رأس الأربعين من عمره فجاءه الوحي وهو يتعبد في غار حراء فأول ما نزل عليه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
و يقول من يعلم التاريخ : إنه كان قبل طلوع هذا النور قد وصل العصر الى نهاية التدمير والإبادة وقد اجتمع فيه من أسباب الظلم والعدوان والجور والطغيان ، و انتهى إليه من التدهور الديني والانحلال الخلقي والانحطاط النفسي والفساد الاجتماعي، والتفكك هدامة، والأخـــــــــــــــلاق متفككة، والدماء سائلة، والحروب دامية، والسلطات جائرة فلابد كانت الجماهير حائرة .كان زمن الفترة من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون ، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي، وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها، وشدة في إسفافها، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده وقوة التمييز بين الخير والشر والحسن والقبيح.. ..
وقد أصبحت المسيحية نسيجاً من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح، ولا تمد العقل، ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، بل أصبحت بزيادات المحرفين، وتأويل الجاهلين تحول بين الإنسان والفكر والعلم، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية ثم ثارت حول الديانة وفي صميمها مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم، شغلت فكر الأمة، واستهلكت ذكاءها، وابتلعت قدرتها العملية، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً داميةً، وقتلا وتدميرا وتعذيبا، وإغارة وانتهابا واغتيالا، وحولت الكنائس والبيوت معسكرات دينية متنافسة، وأقحمت البلاد في حروب أهلية.
أما اليهودية: فقد أصبحت مجموعة من طقوس وتقاليد لاروح فيها ولاحياة ثم هناك صراع عنيف و حـروب دامية ضارية بين اليهود و النصارى، ذهبت ضحيتها مئات الآلاف من الناس, قتلاً بالسيف، وشنقاً، وإحراقاً و تعذيباً حتى و رمياً للوحوش الكاسرة.
أما المجوس فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية أعظمها “النار” وقد عكفوا على عبادتها أخيراً، فانقرضت كل عقيدة وديانة غير عبادة النار وتقديس الشمس، وأصبحت الديانة عندهم عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أمكنة خاصة، أما خارج المعابد فكانوا أحراراً، يسيرون على هواهم، وما تملي عليهم نفوسهم، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين من لا دين لهم ولا خلاق في الأعمال والأخلاق. أما البوذية الديانة المنتشرة في آسيا الوسطى، فقد تحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيت حلت ونزلت.
أما البرهمية دين الهند الأصيل المعروف الآن بالهندوسية فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة والإلهات، وقد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس أما الأمم الأوروبية المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تخضع في ظلام الجهل المطبق، والأمية الفاشية والحروب الدامية، وكانت بمعزل عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية، بعيدة عنهاكل البعد، لاتعرف عن العالم ولايعرف العالم المتمدن عنها إلا قليلا …… قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم .
في هذه الحقبة من الزمن دعا رسول الله الناس بعد بعثته الي دين التوحيد وصعد نجمه، وعلي امره و سمي طرفه و اقبل جده واشتد عضده ولما علمت قريش بإسلام فريق من أهل يثرب فاشتد أذاها للمؤمنين بمكة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة إلى المدينة فهاجروا مستخفين .
نعم بعد بيعة العقبة الثانية أيقنت قريش أن المسلمين بالمدينة في عزة ومنعة فعقدت مؤامرة كبرى في دار الندوة للتفكير في القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه فاستقر رأيهم على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتىً جلداً فيقتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم جميعاً فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعاً فيرضوا بالدية وهكذا اجتمع هؤلاء على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة ينتظرون خروجه فأذن الله لرسوله بالهجرة فهاجر في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وكان بصحبته أبو بكر فاختفيا في غار ثور ثلاثة أيام والمشركون يطلبونهم من كل وجهة وصوب حتى كانوا يقفون على الغار الذي فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر فيقول أبو بكر يا رسول الله والله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا فيقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم : (لا تحزن إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟) .
فلما سمع الأنصار بالهجرة جعلوا يخرجون كل يوم إلى حرة المدينة يستقبلون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى يردهم حر الظهيرة فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إليهم هو أنور يوم وأشرفه فاجتمعوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – محيطين به متقلدين سيوفهم وفيهم النساء والصبيان وهنا حدث ولاحرج عن سرور اهل المدينة فكان يوم تحوله اليهم يوما سعيدا لم يروا فرحين بشئ فرحهم برسول الله وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
ايها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
وكل واحد يأخذ بزمام ناقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريد أن يكون نزوله عنده وهو يقول دعوها فإنها مأمورة حتى إذا أتت محل مسجده اليوم بركت و دخل النبي صلى الله عليه وسلم قباء يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 14من البعثة في وقت الظهيرة .
أصبحت المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها في السادس عشر من ربيع الأول معقل الإسلام ومشعل الهداية ومنطلق الدعوة إلى الله وعندما وصل الرسول صلى اللهعليه وسلم إلى المدينة كان يسكنها المهاجرون والأنصار واليهود، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ في وضع الأسس التي تجعل من هذه الجماعات مجتمعًا قويًا متحدًا على أسس إسلامية ومبادئ دينية؛ فقام الرسول بالخطوات الآتية تحقيقًا لهذه الغاية .
• بناء المسجد – أي صلة الأمة بالله .
• المؤاخاة – أي صلة الأمة المسلمة بعضها بالبعض الأخر .
• والمعاهدة بين المسلمين و اليهود – أي صلة الأمة بالأجانب عنها ممن لا يدينون بدينها .
كان أول ما حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة هو بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين ولم يكن هدف الرسول صلى الله عليه وسلم إيجاد مكان للعبادة فقط ؛ فالدين الإسلامي يجعل الأرض كلها مسجدًا للمسلمين, ولكن مهمة المسجد كانت أعمق من هذا، لقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبني بيتًا لله وبيتا لجميع المسلمين يجتمعون فيه للعبادة والمشاورة فيما يهم أمر الإسلام والدولة الإسلامية, ويتخذون فيه قراراتهم, ويناقشون فيه مشاكلهم, ويستقبلون فيه وفود القبائل وسفراء الملوك و الأمراء من هنا وهناك, وبأسلوب العصر الحديث اتخذ مقرًا للحكومة بالمدينة المنورة.
وبعد ما أتم الله به النعمة على المؤمنين وبعد أن بلغ البلاغ المبين وأدى الأمانة وترك الأمة على المحجة البيضاء و أكمل الله برسوله صلى الله عليه وسلم الدين اختاره الله لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فكان وفاته صلى الله عليهوسلم ….وكان أكبر وأجلَ مصيبة و كان ذلك يوم الاثنين الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية فكان عمره عليه الصلوة والسلام 63 سنة .
توفي رسول الله وترك للمسلمين ما إن اتبعوه لم يضرهم شئ كتاب الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد وسنته صلى الله عليه وأله وسلم .