ربّاه أدرك الشعب الأراكاني
عبد الله
لا غرو بأنّ مآسي أمتنا كثيرة، وجراحاتها نازفة، ومعاناة المسلمين في تجدد مستمر، وما ذاك إلا مصداق ما ذكره نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم قال: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟! قال: «بَلْ أَنتُمْ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ المَهَابَةَ مِنكُمْ، وَلَيَقذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ». فقال قائل: يا رسول الله! وما الوَهَن؟ قال: «حُبُّ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ».
لا تحتاج المأساة الحالية التي يعيشها مسلمو بورما (ميانمار) من قومية الروهينغا إلى وصف بالكلمات، بعد أن قامت الصور بهذه المهمة أتم قيام، فما بين جثث محترقة وأجساد مُمَزّقةٍ وممثَّل بها، وأشلاء بشريةٍ مُتناثرة، ونفوس أُزهقت بالتغريق في الأنهارِ والبِرَكِ والمُسْتَنْقَعات، وقرى وحقولٍ تأكلُها النار، وثكالى ويتامى ومفجوعين تتقاذفهم مياه البحر والمحيط، ورجال ونساء وأطفال جاء وصفهم بالكامل في القرآن الكريم: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا).
منذ سبعين سنة خَلَتْ، وأمامَ نظر العالم وصمته المُريب؛ ظلّ النظامُ البورميُ العسكريُ الاشتراكيُ المستبد يمارس دون حسيب أو رقيب إرهاب الدولة تجاه شعب مسلم أعزل لا يملك حولاً ولا قوة إلا بالله.
هذه أراكانُ نارُ البغي تحرقها أما لها نجدة من غيث عدنان
ياليت معتصما بالله تبلغه هذي النداءات من أم وفتيانِ
مابال قومي قد سدو مسامعهم واغمضوا العين عن انجاد اخوانِ
مابالهم فقدوا ميراث نخوتهم فاستعذبوا العيش في ذل وطغيانِ
دعونا نتعرف في البداية من الضحية، ومَن هو الجلاد؟ وما سبب العدوان؟ حتى يتسنى لنا أخيراً البحث عن حلول عملية للحدّ من هذا العدوان الغاشم.
فالضحية هي أقلية مسلمة تدعى «الروهنجيا»، أو قل إن شئت «الشعب الأراكاني»، ويقطنون إقليم «أراكان» غربي بورما منذ اثنتي عشر قرناً من الزمان، وهم في الجملة أبناء العرب الذين استوطنوا وتزاوجوا مع الهنود والفرس من سكان تلك المنطقة أو المهاجرين إليها على فترات متلاحقة. لهم حياتهم الخاصة، ونشاطهم المتمثل في الصيد والزراعة والاحتطاب، إضافة إلى التجارة المحلية البسيطة، كما أن لهم انتماءهم الديني المتمثل في الإسلام السني، وحبهم الشديد للحرمين الشريفين، وحرصهم على تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم، واعتناءهم بعمارة المساجد والكتاتيب الإسلامية، خصوصاً في بلاد المهجر، حيث الحرية الدينية التي لم يحظوا بها في موطنهم الأصلي أراكان.
أما الجلاد، فهو ذلك النظام العسكري الحاكم، أو الطغمة الفاشية الغاشمة التي تحكم البلاد بالنار والحديد، يساند الجلاد رهبان بوذيون متطرفون.
أما سبب العدوان، فهو تحقيق الهدف المقدس بإخراج آخر مسلم من إقليم أراكان حتى تكون بورما خالصة للبوذيين ومحرمة على غيرهم، ولذا كان الهدف الأول والأخير تهجير المجتمع المسلم بأكمله.
مضت سبعون سنة، وكانت سنين قهر وظلم وإذلال، كانت سنين عجاف وإخافة وإرهاب، شابت من هولها الرؤوس، وسقطت من إثرها الأجنة من البطون. كل ما تتخيله من ظلم وقتل وإراقة دماء واستباحة أعراض وأموال وأنفس، تمت ممارسته وبأبشع الصور، بلا نكير ولا حسيب ولا نصير ولا معين ولا مغيث؛ إلا الله الحليم اللطيف، ولولا لطفه لما بقي من هذا الشعب عين تطرف على وجه البسيطة، لكن الله مظهر دينه ورافع كلمته ولو كره الكافرون.
وحتى يعرف المسلمون شدة وطأة المعاناة التي يعيشها مسلمو أركان أوجزها في النقاط التالية:
أولاً: تحاول الحكومة البوذية طمس الهوية والآثار الإسلامية بتدمير المساجد والمدارس التاريخية وبناء معابد للبوذيين في مكانها، وقتل العلماء والدعاة.
ثانياً: التطهير العرقي والإبادة الجماعية للمسلمين بكل أنواع الاضطهاد من قتلٍ وتشريدٍ وانتهاكٍ للأعراض، ومصادرة الممتلكات؛ من منازلَ ومزارعَ ومواشٍ وأموالٍ وغيرها، حيث أبيد في بعض تلك المجازر أكثر من 100 ألف مسلم.
ثالثاً: إلغاء حق المواطنة للمسلمين؛ حيث تم استبدال إثباتاتهم الرسمية القديمة ببطاقات تفيد أنهم ليسوا مواطنين، ومن يرفض فمصيره التعذيب والموت في المعتقلات.
رابعاً: حرمان المسلمين من العمل في الوظائف الحكومية ومواصلة التعليم العالي.
خامساً: العمل القسري لدى الجيش أثناء التنقلات، أو بناء الثكنات العسكرية، أو شق الطرق، وغير ذلك من الأعمال الحكومية (سخرة وبلا مقابل حتى نفقتهم في الأكل والشرب والمواصلات).
سادساً: منعهم من السفر إلى الخارج حتى لأداء فريضة الحج، وعدم السماح للمسلمين باستضافة أحد في بيوتهم ولو كانوا أشقاء أو أقارب إلا بإذن مسبق.
سابعاً: عقوبات اقتصادية: مثل الضرائب الباهظة في كل شيء، والغرامات المالية، ومنع بيع المحاصيل إلا للحكومة العسكرية أو من يمثلهم بسعر زهيد، لإبقائهم فقراء، أو لإجبارهم على ترك الديار.
ثامناً: تقليل أعداد المسلمين بأساليب شتى كتحديد النسل وتشديد شروط الزواج والإنجاب وغيرها.
وأخيراً: ما أُخذ بقوة لا يُسترد إلا بقوة، والمثل السائر يقول: لا يفُلّ الحديد إلا الحديد، وترك الجهاد في سبيل الله وبُعدنا عن دروب المقاومة هو سبب ذلنا وانهزامنا، فلنعدّ لهذا الأمر عدته، ولنرفع من معنويات أنفسنا، ولنشجّع ذواتنا ونكافئها حال الإنجاز.
ولن يعود للأمة الإسلامية مجدُها وعزُّها حتى ترجِع إلى دينها، كما جاء به رسولها صلى الله عليه وسلم صافياً من كل ما علق به من البدع التي شوهته وحالت دون تقدم المسلمين، ورحم الله الإمام مالكا يوم قال: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ونقول أيضاً: رباه كن لإخوتنا المستضعفين في أراكان وفي كل قطر من أقطار الدنيا، فليس لهم معين ونصير سواك. ما أحوجنا إخوتي أن نصدق الله بصدق الالتجاء إليه سبحانه وتعالى، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. وأن نصدقه بكرم البذل والعطاء لإخواننا من إحساسنا وضميرنا وانتمائنا وأموالنا ومن كل ما نستطيع، حتى من مهجنا، في سبيل الله عز وجل، حينئذ نعيش أحراراً أو نموت شرفاء بإذن الله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.