رجل التحالفات والصفقات!
بقلم: صلاح الدين مومند
لما كانت الحرب بلاء على الإنسانية، وفيها تسيل الدماء وتزهق النفوس وتواجه الشدائد والمكاره، فعلى المؤمن أن يدرّب نفسه على الصبر في الشدائد والمحن. والمؤمن المجاهد لا ينفد صبره بطول المجاهدة، وإن حاول الأعداء إنفاد صبره، بل يظل أصبر من أعدائه وأقوى منهم في تحمل المصائب والمشاق. ولقد أثنى الله على الصابرين وأرشد المؤمنين إلى طريق السلامة من شر الكفار وكيد الأشرار بالصبر والثبات.
قال شهيد الإسلام في ظلال القرآن: “إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، هم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم. كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به – وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه – وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب. هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية، في ميزان الله سبحانه. ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى. وكان الابتلاء أشد وأعنف. ولم يثبت إلا من عصم الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير الإنسان”.
في الأونة الأخيرة أعلنت الحكومة العميلة اتفاق سلام مع زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، وصرّح ما يسمى بالمجلس العالي للصلح: “أن الحكومة توصلت إلى نقطة النهاية، وتعكف على وضع اللمسات الأخيرة للاتفاق المذكور”. وقال عطاء الله سليم، نائب رئيس المجلس: إن الطرفين توصلا إلى مسودة اتفاق بينهما، وتم إرسال نسختين من الاتفاق إلى كل من أشرف غني وقلب الدين حكمتيار لوضع اللمسات الأخيرة عليه.
وفي المسودة شروط تقدم بها الحزب الإسلامي، منها: الإفراج عن معتقلي الحزب في السجون، وإعلان عفو عام عن أعضاء الحزب المنخرطين بأعمال عسكرية ضد الحكومة، ومنح مساكن وحراس وسيارات ورواتب مالية مجزية لقادة الحزب وكوادره، وتقديم الحكومة الأفغانية طلباً لمجلس الأمن الدولي لإسقاط اسم حكمتيار وعدد من قادة حزبه من قائمة المطلوبين الدوليين التي أعلنتها الولايات المتحدة عقب غزوها لأفغانستان في عام 2001م.
ويتعهد الحزب الإسلامي مقابل هذا الاتفاق بالاعتراف بالدستور الأفغاني والحكومة الحالية، وإلقاء السلاح، والانخراط في العمل السياسي الحزبي في كابل، وقطع كافة علاقاته مع أي تنظيم مسلح معادٍ للحكومة.
هذا بعض ما تضمنته المسودة. وحكمتيار رجل الصفقات والموائد، وتوضح بطاقة تعريفه أنه بعدما التحق بكلية الهندسة في جامعة كابول وبدأ نشاطه السياسي عام 1971م، حين كانت الفرصة سانحة لتأليف وتشكيل المنظمات والأحزاب السياسية لمخالفة الآحزاب الشيوعية كجماعة الشباب المسلم، وجمعية خدام الفرقان، والجمعية الإسلامية، وجمعية العلماء المحمدية وأصبح حكمتيار آنذاك عضواً ناشطاً في الشباب الإسلامي، وبعد التظاهرات التي قُتل فيها أحد الشيوعيين؛ فرّ حكمتيار إلى باكستان في 1974م، ولم يتمكن من إتمام دراسته في كلية الهندسة، وفي عهد ضياء الحق قدّمت باكستان دعمها للإسلاميين مخافة المد الشيوعي القادم من أفغانستان، وكان حكمتيار يدها القوية النافذة في أفغانستان، وقد أسس حزبه السياسي بمباركة مباشرة من السلطات الباكستانية، وبعد الانقلاب الشيوعي في البلاد كان حكمتيار -عن طريق السلطات المذكورة- يحصل على نصف مجموع المساعدات والنصف الباقي يوزع على باقي الآحزاب السياسية الستة.
إن التاريخ لهذا الرجل مملوء بكثرة التحالفات والصفقات، فقد شارك في الاتحاد الإسلامي في 1983م ـ ثم شارك في تحالف المنظمات السبعة، وعقب الانسحاب السوفياتي اُختير وزيراً للخارجية لكن جمد عضويته وانسل من الحكومة، وآن حينها أوان القتال والتناحر فيما بين المجاهدين، وكانت له فيه اليد الطولى، فأضرم نار الحرب بين حزبه وحزب الجمعية الإسلامية الذي كان يرأسه برهان الدين رباني، وكانت الحرب قاسية وعنيفة بلا هوادة، وقد تحالف الرجل حينذاك مع القائد الشيوعي عبدالرشيد دوستم، ولقبه بالحاج دوستم الذي كان هو الآخر يقاتل ضد رباني، وكان حكمتيار يقول أن رباني هو عقبة في طريق الدولة الاسلامية التي يريدها هو، وأنه هو وحده الذي يملك الخطة الكاملة لإقامة الدولة الاسلامية في البلاد. وفي 25 أبريل 1992م سارعت قوات رباني التي كان يرأسها مسعود -ولكن هذه المرة بمساندة الجنرال الشيوعي دوستم المُشار إليه آنفا- في إجبار حكمتيار على الانسحاب من العاصمة. وفي أغسطس من ذلك العام قصفت قوات حكمتيار كابول بحجة وجود مليشيات القائد الشيوعي دوستم المذكور -حليفه السابق- مما أدى إلى مقتل آلاف الأشخاص. وفي 1996م تكررت المعارك الشرسة بين قوات حكمتيار ورباني وانتهت بعقد اتفاقية سلام بعد أن ظهرت (حركة طالبان الإسلامية) واقتضى التنسيق بين المتنافسَين، فاتفق الطرفان على الصلح وتشكيل حكومة انتقالية، كما اتفقا على أن تكون رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع والمالية للحزب الاسلامي.
إن الرجل متهم حتى في ديار الهجرة بقتل الكثير من بني جلدته، مثل: عزيز الرحمن الفت، وبهاء الدين مجروح، وعبدالحكيم كتوازي، وعشرات آخرين حتى ميرويس أفغان مراسل بي بي سي في كابول.
وبعدما استولت حركة طالبان الإسلامية على العاصمة، اضطر الرجل للخروج إلى المناطق الشمالية التي يسيطر عليها تحالف الشمال للعمل معهم، ولكن الصلح لم يستمر بل اختفى حكمتيار عن الساحة متهماً تحالف الشمال بالتواطؤ لقتله، ثم ظهر في 2003م، بعد احتلال البلاد، وأعلن المقاومة ضد القوات الغازية.
وفي عام 2007م أعلن انفتاحه للحوار مع كرزاي، رئيس البلاد، ولكن كرزاي كان يعرفه في المهجر على أنه متآمر وعنيف ولا يطيق رؤية من ينافسه.
وعلى غرار قول الشاعر:
لا خـيـرفي ود امــرئ مــتلـــــون *** حلو اللســـــــان وقلبه يتـــــــلهب
يعطيك من طرف اللــســان حلاوة *** ويروغ عنك كــما يروغ الثـــعلب
واستعد الرجل فيما بعد للانتخابات الرئاسية قائلاً: “لابد من الانتقال السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة العادلة، ومن يفوز يجب أن يقبله الآخرون”. وهذا ما دعا الصحيفة البريطانية للقول بسخرية: أن أمير الحرب الدموي يتحدث عن الديمقراطية والانتقال السلمي كأنه مراقب الانتخابات ويعمل في الأمم المتحدة.
يُقال إن تاريخ الرجل السياسي والعسكري حافل بأنه رجل انتهازي للغاية، ورجل صفقات وموائد، فهو مثال للسياسي الانتهازي الذي يكون مستعداً لأن يسبح في بحر الدماء للوصول إلى هدفه. ويقول أحد الصحفيين أن حكمتيار لا يتقن الابتسامة في وجه أحد قط.
وهاهو حكمتيار يعزف على وتر المشاركة في مفاوضات السلام مع الحكومة ذات الرأسين بعد أن وصف الإمارة الإسلامية بأنها عميلة للجهات الأجنبية وأنها قرحة سرطانية يجب استئصالها من جسد البلاد. ويؤكد أحد المحللين السياسيين أن الموقف الأخير للرجل ما هو إلا جزء من محاولاته البائسة الكثيرة التي قام بها للتقارب مع الحكومة، وليست المرة الآولى التي يظهر فيها جاهزيته للدخول في مفاوضات المصالحة الوطنية، ولكن كل محاولاته كانت خائبة ومشؤومة وفاشلة.
والليالي من الزمان حُبالى *** مثقلات يلدن كل عجيب.