رسالة العلماء (14) إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليُبيّنُنّه للناس ولا يكتمونه!
إن العلماء الذين يحرسون الإسلام، المُؤمّنين على دين الله، الداعين إلى تطبيقه، يقولون للظالمين ظلمتم، وللمفسدين أفسدتم، وللعاصين لقد عصيتم. يصلحون ما فسد ويقوِّمون ما أعوج، لا يخشون في الله لومة لائم، لا يهابون سلطاناً جائراً، ولا حاكماً جباراً، ولا يسكتون عن حق واجب. لا يكتمون حكماً شرعياً في قضية، سواءً تعلقت بشؤون الدولة أو بتصرفات حاكم من الحكام. إن من يُقلّب تاريخ أمتنا، يجد أسطراً من نور سطّرها أولئك الأفذاذ من علماء الهدى في مواجهة الحكام، غير طامعين فيما عندهم من المناصب والمال.
يُحكى أن أحد العلماء من السلف “تكلَّم على أحد أمراء المؤمنين بما لا يُعجبه ولا يُرضيه أمام الرعية، فأمر حاشيتَه أن يعزلوه عن وظيفته، قالوا: ليس له وظيفة يا أمير المؤمنين، قال: احرموه من العطايا، قالوا: لا يأخذ عطايا، قال: إذًاً؛ أوقفوا عنه الهِبات، قالوا: لم يأخذ هبةً قط، قال: امنعوا عنه الأموال من بيت مال المسلمين، قالوا: لا يأخذ شيئًا يا أمير المؤمنين، فاستشاط غضبًا وقال: إذًا؛ كيف يأكل؟! قيل له: لديه حِرفة يكسب منها”.
فهنيئًا لهذا العالِم العابد، الذي خاف الله ولم يَخَفِ السلطان، تذلَّلَ لله، فمدَّ له يد العون بالصدق والجد، ولم يمدَّها لعبدٍ ضعيف مثلِه، حتى ولو كان من أعظم الملوك والسلاطين.
وقد أورد الإمام الغزالي – رحمه الله – في كتابه “إحياء علوم الدين” آثارًا رائعة في شجاعة العلماء، وتصدِّيهم لجَوْر الحكَّام، أو نُصحهم لهم.
يَذكُر في أحد تلك الآثار: أن ابن أبي شميلة دخل على عبدالملك بن مروان، فقال له: “تكلَّمْ”، فقال له: “إن الناس لا ينجون في القيامة مِن غصصها، ومرارتها، ومعاينة الرَّدَى فيها، إلا مَن أرضى الله بسخط نفسه”، فبكى عبدالملك وقال: “لأجعلنَّ هذه الكلمةَ مثالاً نُصب عينيَّ ما عشت”.
وذُكِر في أثرٍ آخر، أن مالك بن دينار دخل على أمير البصرة، فقال: “أيها الأمير الراعي السوء، دفعت إليك غنماً سِماناً صِحاحاً، فأكلتَ اللحم، ولبستَ الصوف، و تركتها عظاماً تتقعقع”، فقال له والي البصرة: “أَتدري ما الذي يُجرِّئك علينا، ويجنِّبنا عنك؟ قلَّة الطمع فينا، وتَركُ الإمساك لِما في أيدينا”.
وحين قدم سليمان بن عبد الملك المدينة و هو يريد مكة، أرسل إلى عالمها الجليل أبي حازم، فلمّا دخل عليه قال سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟.
فقال: لأنكم خرّبتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
قال سليمان: كيف القدوم على الله؟
قال: يا أمير المؤمنين، أما المحسن كالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.
فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما لي عند الله؟
قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله حيث قال:{إنّ الأبرار لفي نعيم وان الفجار لفي جحيم}.
قال سليمان: فأين رحمة الله؟
قال: قريب من المحسنين.
قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟
فقال: أهل البر والتقوى.
قال سليمان: فأي الأعمال أفضل؟
فقال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم.
قال سليمان: أي الكلام أسمع؟
فقال: قول الحق عند من تخاف وترجو.
قال سليمان: فأي المؤمنين أخسر؟
فقال: رجل خطأ في هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرته بدنياه.
قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه؟
فقال: أو تعفيني؟
قال سليمان: لا بد، فإنها نصيحة تلقيها إليّ.
فقال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة المسلمين ولا رضا منهم، حتى قتلوا منهم
مقتلة عظيمة وقد ارتحلوا فلا شعرت بما قالوا وما قيل لهم.
فقال رجل من جلسائه: بئسما قلت.
قال أبو حازم: إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبيّنُنّه للناس ولا يكتمونه.
فقال سليمان: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟
قال: تدع الصلف، وتستمسك بالعروة، وتقسم بالسويّة.
قال سليمان: كيف المأخذ به؟
قال: أن تأخذ المال في حقه وتضعه في أهله.
قال: يا أبا حازم ارفع إليّ حوائجك؟
قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة؟
قال:ليس ذلك إليّ.
قال: فلا حاجة لي غيرها.
ثم قام فأرسل إليه بمائة دينار، فردّها إليه ولم يقبلها.
هكذا كان العلماء العاملون، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للاقتداء بهم. آمين.